
العقيدة العثمانية:
غلو وتطرف وانحراف
أخطر ما يستخدمه الغلاة في السلطان محمد الفاتح هو حديث فتح القسطنطينية، فالغلاة لا يعلمون أنهم بتقديسهم للفاتح وتقديمهم له كمثال عن سلاطين بني عثمان يضربون أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، بالرغم من أن حديث فتح القسطنطينية ضعيف ومشكك فيه. لأن غلاة الماتردية وغلاة الأشعرية يستخدمونه لإثبات عقيدتهم، خاصة وأن محمد الفاتح كان صوفيًا ماترديًا، وليس من المعقول لا دينًا ولا عقلًا ومنطقًا، أن الرسول الهادي الأمين سيمدح فرقة من الفرق التي كان يحذر منها في قوله عنها (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين كلها في النار إلا واحدة) وهم صحابته ومن سن سنتهم.
عقيدة محمد الفاتح:
لقد أثبت المؤرخون العثمانيون أن السلطان محمد الفاتح صوفي المشرب، ماتردي العقيدة، إذ كانت الصوفية والماتردية منتشرة جدًا في عصره. كذلك الحروفية الباطنية وتمددها في عهده لأنه كان في حاجة إلى دعاية دينية تؤجج مشاعر جنوده، لذلك قرر تبني معتقدات أكثر مغالاة في شخص الحاكم، تمنحه سلطة أكبر من كونه سلطانًا تركيًا، فقد طمع في أن يكون هو المهدي المنتظر، ووجد ضالته في فرقة “الحروفية” الضالة، التي اتخذت طرق الصوفية للدخول في الجسم الإسلامي.
لم يكتف الفاتح بذلك، بل دعم زعيم الحروفية “عماد الدين نسيمي” إذ كان السلطان من تلاميذه، فأطلق يده من بوابة الباطنية الصوفية، وقرر طباعة كتاب الحروفية “جاويدان نامه كبير” وسماه بالتركية “عشق نامه” (رسالة العشق) وقرر تدريسه في أرجاء السلطنة العثمانية. وفي كتاب الجهاد ضد الجهاد يقول الكاتب أحمد المسلماني، نقلاً عن الباحث ناصر الفهد في دراسته المعنونة “الدولة العثمانية وموقف الأئمة منها”: “إن السلطان العثماني أروخان الأول، كان صوفيًا بكتاشيًا، والبكتاشية باطنية”، ويكمل الفهد قائلاً: “إن من يتأمل الدولة العثمانية منذ نشأتها وحتى سقوطها.. لا يشك في مساهمتها في إفساد عقائد المسلمين وذلك بقيامها بنشر الشرك، وقتل أصحاب التوحيد”.
حبه للنصرانية:
تقلب الفاتح وتحولاته الفكرية غريبة جدًا، تدل على فساد العقيدة واضطراب الفكر، فمن المارتدية والصوفية إلى التعلق بالمسيحية، ولعل الفرمان الذي يقول فيه: “إن والدتي مارا ديسبينا خاتون، وهي واحدة من أعظم النساء المسيحيات في هذا العهد، اشترت الدير المعروف باسم آيا صوفيا الصغيرة في سلانيك، وفقًا لقواعد الشريعة. ولديها أيضًا الوثيقة اللازمة. أبلغونا بالأمر. وأنا بدوري وجدت ذلك مناسبًا، وأصدرت هذا الفرمان لكي تمتلك الدير. ولها أن تبيعه أو تتبرع به. لا يعمل أحد على عرقلة وإفساد وتغيير هذا الأمر. ولا تأخذ ضريبة من الذين في داخله”.
لقد كان محمد الفاتح واحدًا من كبار داعمي النصرانية في عصره، بل إنها تمددت داخل السلطنة وأخذت حمايته ودعمه المالي بشكل غير مسبوق، فضلاً عن أشعاره التي قالها في النصرانية وهي تشير إلى ميل أو تعلق، ولعل علاقته بوالدته لها أثر كبير في ذلك. يقول الباحث توران قشلاقجي: “وكان أول عمل يقوم به الفاتح بعد فتح إسطنبول، هو إحياء الأرثوذكسية، من خلال المساهمة في اختيار وتعيين بطريرك جديد. وأعلن نفسه مدافعًا عن الأرثوذكسية، ليكون بمقدور المسيحية الشرقية، تحت رعاية الإمبراطورية العثمانية، مواصلة وجودها ضد المسيحية الغربية الكاثوليكية. تم اختيار جناديوس سكولاريوس بطريركًا للأرثوذكس، وحصل على موافقة الفاتح، واستقبله الأخير في مقامه، ومن ثم منحه وثيقة تقضي بأنه محمي من جميع أشكال الهجمات. كما منح الفاتح البطريرك درجة الوزير، عبر بروتوكول رسمي ليتمتع بحق المشاركة دائمًا في الديوان الهمايوني والتعبير عن رأيه هناك”.
ويؤكد الباحث والكاتب فريد صلاح الهاشمي في كتابه “تركيا في ضوء الحقائق الأتاتوركية” تعلق محمد الفاتح بالنصرانية وانبهاره بها وبآثارها؛ خاصة وأن ذلك لم يكن كلامًا مرسلاً بل أثبته الفاتح بنفسه في شعره المدون: “كان – محمد الفاتح – متفانيًا في محبة المسيحيين، منبهرًا بآثارهم، يتردد إلى كنيسة لهم في حي غلطة Galata، وله أبيات عشر يعبر من خلالها عن بالغ إعجابه بالمعالم المسيحية، فيقول في تلك الأبيات التي أنشأها باللغة التركية العثمانية، من شاهد غلطة لا يكاد قلبه يربط بالفردوس”. أبيات الشعر المنسوبة للفاتح تدل بكل تأكيد على فساد عقيدته وتقلبه بين الطرق الصوفية تارة، ثم الماتردية التي تذهب حق العقيدة ولا تلتزم بما آمن به السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وليس انتهاء بتعلقه بالمسيحية، وتجريفه في حق الملائكة، وهي مدونة وواضحة في أشعاره.
لقد تنقل الفاتح بين العقائد دون وجل ودون ثبات، مندفعًا وراء انفعالاته واضطراباته النفسية، فهو تارة صوفي متطرف، وتارة ماتردي، وتارة متعلق بالمسيحية والمسيحيين ويدعم أعمالهم، ويمدح عقائدهم، بل ويربط بين الفردوس أعلى مراتب الجنة وبين المسيحية، إنه اضطراب يحاول المتيمون والمهووسون بالسلطان العثماني إخفاءه، وتقديم بدلاً عن تلك الشخصية الحقيقية، شخصية أخرى متستترين وراء الحديث الذي ضعفه كثير من العلماء المتخصصين في علم الحديث.
الفاتح كان مثالاً للتقلب بين المعتقدات والأديان.



- أحمد المسلماني، الجهاد ضد الجهاد (القاهرة: دار ليلى، 2015).
- فريد الهاشمي، تركيا في ضوء الحقائق الأتاتوركية (القاهرة: دار العبر للنشر، 2014).
- محمد صفوت، السلطان محمد الفاتح (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2012).