الدولة العثمانية

جرَّت المنطقة العربية معها إلى الهاوية إثر تمزيق الدول الأوروبية لها

ظل الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للبلاد العربية قرونًا من الزمن مهلهلًا ومفكَّكًا قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914)؛ نظرًا إلى أن المستعمر العثماني أُطلق على دولته في أوروبا “الرجل المريض”، خاصة بعد الاتفاقيات التي نصت على تقاسُم النفوذ في منطقتنا العربية، المعروفة بـ “سايكس بيكو”، فعلى سبيل المثال وقعت مشيخات الخليج العربي على طول شواطئها تحت دائرة النفوذ البريطاني، وامتد ذلك النفوذ ليشمل مصر وقبرص.

الدولة العثمانية عاشت أواخر أيامها مزعزعةً، ولم تستطع المحافظة على استبدادها الممتد قبل ذلك بين قاراتٍ ثلاث، بل إن الأخطار أصبحت تهدد تخومها، والحقيقة أن الدولة العثمانية لم تتمكن من إيجاد مكان لها في العالم الحديث، وظلت كالأطلال المتهالكة التي تعصف بها الرياح للدمار وليس للتغيير، وقد يكون مرجع ذلك هو أن الأتراك كانت لديهم الخبرات العسكرية في الحروب والمعارك على الطريقة القديمة، إلا أنهم لم يكونوا كذلك في فن الحكم والسياسية، رغم المحاولة التي قام بها سلطانهم محمود الثاني في عشرينيات القرن التاسع عشر الميلادي، حين حاول فرض برامج إصلاح واسعة، وكان هدفه من ذلك مركزية الحكومة، من خلال سيطرته المباشرة أو من خلال مستشاريه، وتحديث الضرائب والجيش، وإلغاء الجيش الانكشاري، ومحاولة تأسيس مدارس عامة على الطرز الأوروبية، وغيرها من الإجراءات التي اتُّخِذت من أجل الإصلاح، ومحاولة مواكبة الثورة الصناعية التي عاشتها أوروبا، ولكن دولته لم تتمكن من اللحاق بذلك الركب بالصورة الأمثل.

هنالك أمر أسهم في زيادة تدهور النظام العثماني، وهو أن الإمبراطورية تشكَّلَت من شعوب متعددة العرقيات واللغات، وحتى القيادات الإدارية والعسكرية، وإن كانت تتحدث وتتعامل باللغة التركية إلا أن العوامل المشتركة بينها قليلة، فالفسيفساء العثمانية لم تندمج اندماجًا فعليًّا في إطار الدولة الحقيقي، رغم المحاولات التي بُذِلت من بعض السلاطين، الأمر الذي أسهم في المزيد من الضعف والتفكك، واستفادت الدول الأجنبية من ذلك التفكك وعدم الاندماج في زيادة النفوذ والسيطرة داخل الإمبراطورية العثمانية.

لقد أدى ذلك الواقع الذي كانت تعيشه الإمبراطورية العثمانية إلى خضوع مجموعة من الدول والمناطق الإسلامية للحكم الغربي المباشر، وهو الوضع الذي استمر إلى العقد الثالث من القرن العشرين، ولم ينتهِ إلا في النصف الثاني من القرن الماضي، فمع حلول عام (1914) كانت الإمبراطورية العثمانية قد تقلَّصت بشكل كبير، ففقدت السيطرة على شمال أفريقيا وهنغاريا ومعظم الجنوب الشرقي لأوروبا، وباتت منذ القرن الثامن عشر الميلادي تتقهقر بخطى ثابتة نحو الانهيار، ولم تَسلَم منطقتنا العربية من تَبِعات ذلك الانهيار، فهي أحد المسارح المهمة التي وقع فيها الصراع بين الغرب الاستعماري والرجل المريض، فقد أسهمت تلك الأوضاع المتردية للدولة العثمانية وتقاعُسها في إضعاف المناطق العربية، خصوصًا وأن العثمانيين تخلوا عن بناء المجتمع والمؤسسات فيها، وفشلوا في احتواء الشعوب ضمن بنية الدولة الرئيسة.

بريطانيا وغيرها من الدول الأوربية سعت جاهدة للاستفادة من تلك الأوضاع المهلهلة لدولة الرجل المريض، أو ما عُرفت لدى الأوروبيين أيضًا بـ “المسألة الشرقية”، فبريطانيا من أوائل الدولة الأوروبية التي فكرت بشكل جِدِّي منذ نهاية القرن التاسع عشر الميلادي في احتلال جزيرة قبرص، باعتبارها مفتاحَ غربِيِّ آسيا، وقد رضخت الدولة العثمانية لذلك الاحتلال نظير حماية بريطانيا لها من الأخطار المحدقة بها من الخارج، ثم أتبَعَت بريطانيا مصر بقبرص، وبعدها ثبت مركزها في الشرق العربي، بل وأصبحت تُفكر جديًّا بتقسيم الدولة العثمانية.

من جهة أخرى لا يمكن أن نُغفل تغلغل النفوذ الألماني، الذي ازداد في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، والذي اتخذ أشكالًا متعددة، عسكرية واقتصادية وثقافية ونفسية، وكان يُعتبر نقطة تحوُّل مهمة في المسألة الشرقية في العصر الحديث، وكانت تلك المظاهر السياسية الألمانية في الشرق العربي تتمثل في التقرب للعرب، ما أثار مخاوف بريطانيا وفرنسا وروسيا.

وبعد اندلاع الحرب العالمية الأولى دخلت الإمبراطورية العثمانية الحرب بجانب دول الوسط: ألمانيا والنمسا والمجر ضد بريطانيا وفرنسا وروسيا، وكانت نتيجة الحرب هزيمة نكراء للدولة العثمانية وحلفائها، بل وكارثية لمنطقتنا العربية، حيث تم تقسيم المنطقة من قِبَل القوى المنتصرة بينهم، فاحتلت بريطانيا العراق والمناطق العربية على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط من حدود مصر على الساحل جنوبًا إلى حيفا وعكا حتى الناقورة شمالًا في فلسطين بحدودها الطبيعية وشرق الأردن.

لم يكن السلاطين العثمانيون وموظفوهم يمتلكون القدرة السياسية والإستراتيجية لمواكبة العصر الحديث.

أما الخليج العربي فقد أصبحت سواحله الغربية من البصرة شمالًا إلى الكويت والبحرين وقطر وعمان وحضرموت حتى حدود عدن من نصيب الاحتلال البريطاني، وفرنسا كانت شريكًا في بقية الساحل السوري على البحر الأبيض المتوسط من الناقورة جنوبًا إلى صيدا فطرابلس فبيروت واللاذقية فإسكندرونة حتى الحدود التركية شمالًا، وحتى الحدود العراقية شرقًا عند الموصل.

لقد كانت نتائج الضعف العثماني وتدهوره مؤثرة على النواحي السياسية في البلاد العربية، التي أصبح جزء كبير منها تحت براثن الاحتلال الغربي وأفكاره وثقافته، وما أحدثه من زيادة في ضعف العرب سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا حتى أصبحوا على الهامش لفترة طويلة.

  1. ديفيد فرومكين، نهاية الدولة العثمانية وتشكيل الشرق الأوسط، ترجمة: وسيم حسن عبدو (بغداد: دار ومكتبة عدنان، 2015).
  2. عمر عبد العزيز، تاريخ المشرق العربي 1516-1922 (بيروت: دار النهضة العربية للطباعة والنشر، 1985).
  3. قيس العزاوي، الدولة العثمانية.. قراءة جديدة لعوامل الانحطاط (بيروت: الدار العربية للعلوم، 1994).
  4. يلماز أوزتونا، تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان (إسطنبول: مؤسسة فيصل للتمويل، 1988).