الدولة العثمانية أحرجت واليها على العراق بالإصرار على تكرار فشلها أمام السعوديين

شكّل تصاعد الدولة السعودية الأولى في الجزيرة العربية منذ أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، وتوسعها في أقاليمها المختلفة نهضة سياسية وثقافية وحضارية تمددت إلى أطرافها الخارجية، وهذا انعكس بدوره على نشـأة وتكوين دولة قوية سياسيًّا وعسكريًّا.

كانت الدولة العثمانية تنظر بعين الريبة والشك إلى كل ما يجري من أحداث وتطورات سياسية في شبه الجزيرة العربية. وأدرك العثمانيون ما تشكّله الدولة السعودية الأولى من خطر محدق على مستعمراتهم في الجزيرة العربية وعلى حدودها الجغرافية ونفوذها الاستعماري في المنطقة.

رأى الأتراك في توسع الدولة السعودية الأولى وانطلاقتها ونهضتها الدينية في أراضيها العربية في إقليم نجد جرأة واندفاعًا غير مقبول من وجهة النظر التركية، وأن توسعهم في شرق الجزيرة العربية وضمهم للأحساء (1795) وطرقهم لأبواب العراق فيه تهديد لمصالحهم الاستراتيجية والاقتصادية، وبالمثل بعد ضمهم الحجاز (1805) إذ كان يشكل هالة من الهيبة والمكانة الدينية للدولة العثمانية فكان استردادها من قبل الدولة السعودية الأولى ضربة قوية لتلك المكانة المزيفة وإسقاطًا للهيبة العثمانية المصطنعة في العالم الإسلامي.

أدرك العثمانيون مبكراً التهديد الذي كانت تمثله الدولة السعودية الأولى على مصالحهم في الجزيرة العربية.

لذلك أصدر السلطان العثماني محمود الأول فرمانًا همايونيًّا لتسيير الحملات العسكرية للقضاء على الدولة السعودية والحد من نشاطها وتوسعها وعدم التهاون في التعامل معها. وتمثل ذلك بتكليف والي بغداد سليمان باشا للقيام بهذه المهمة، ولو نظرنا إلى تاريخ الحملة العسكرية (1786) لوجدنا أنها كانت في فترة مبكرة نسبيًّا من بدء الحملات الموجهة لاستهداف الدولة السعودية الأولى الناشئة، وسليمان باشا بدوره كلّف ثويني بن عبد الله آل شبيب رئيس المنتفق ليقوم بتجهيز وقيادة الحملة العسكرية الموجهة ضد السعوديين، والتي يصفها المؤرخ ابن بشر بقوله: “في المحرم سار ثويني بن عبد الله بن محمد آل شبيب بالعساكر والجنود العظيم..، ومعه من العدد والعدة ما يفوت الحصر، حتى أن أحمال زهبة البنادق والمدافع وآلاتها بلغت سبع مئة حمل”.

كذلك أكد المؤرخ العراقي المعاصر للأحداث عثمان بن سند البصري بقوله عن تلك الحملة: “فسار في كتائب كالجبال ومواكب تشرق فيها النصال”، وتوجه بتلك القوات الكبيرة قاصدًا مهاجمة عاصمة الدولة السعودية “الدرعية”، فابتدأ في طريقه بالقصيم وهاجم  بلداتها بجيشه الكبير وحاصرها أيامًا، ودكّها بالمدافع فلم ينجح في دخول أصغر بلداتها “التنومة” شمال الأسياح، والتي أبدت مقاومة عنيفة وصمودًا كبيرًا من أهلها  أمام الحملة، ولم ينفع مع ذلك غير الصمود، إلا أن ثويني استطاع أن يخدع أهل البلدة بالأمان، ولكنه لم يفِ بوعده معهم فأخذ البلدة ونهبها وقتل جميع أهلها إلا الشريد منهم.

وتشير المصادر إلى أن عدد القتلى قد بلغ نحو مائة وسبعين رجلاً، ثم توجهت الحملة العسكرية إلى مدينة بريدة وقاتل أهلها وحاصرها بجنوده، إلا إنه رجع عنها بعدما وقع خلاف في موطنه على زعامة القبيلة حيث انتفض عليه ابن عمه فاضطر للانسحاب بجيشه.

ورغم فشل تلك الحملة العسكرية إلا أن الدولة العثمانية لم تيأس من الطلب مرة أخرى من والي بغداد سليمان باشا للزحف إلى العاصمة السعودية، إلا أن الوالي المذكور أخذ يتذرع بذرائع عديدة على عدم قدرته تسيير حملة عسكرية ضد الدولة السعودية، منها أن قواته لا تستطيع قتال السعوديين في جهات صحراوية نائية أو في أرض مجهولة وظروف مناخية قاسية والجيش يضم عناصر متباينة من العرب والأكراد، وأن الإقدام على مثل هذا الأمر غير مأمون العواقب، غير أن إلحاح السلطان العثماني أكثر من مرة على الوالي سليمان باشا بأن يجهز حملة عسكرية لمحاربة الدرعية واحتلال الأحساء بعد استرداد السعوديين لها، فأذعن الوالي سليمان باشا أخيراً لأوامر السلطان، فسيّر حملتين لاحتلال الأحساء، حيث كلف سنة (1797) ثويني بن عبدالله مرة أخرى ليقوم بتجهيز حملة عسكرية لمواجهة السعوديين ومهاجمة الدرعية واحتلال الأحساء.

 امتثل ثويني لأمر سليمان باشا وانطلق يحشد الجموع للحملة ضد السعوديين فجعل من الجهراء مركزاً لتلك الحملة، واستمر يحشد قواته هناك مدة ثلاثة أشهر، وخلالها انضمت له القبائل والعشائر والعساكر الحكومية. وقد تحركت الحملة برًا وبحرًا باتجاه القطيف، إلا أن عوامل الفشل كانت تسير معها، حيث التباين الكبير في عناصرها، وخاصة بين الزعماء القبليين، الذين مال ثويني إلى بعضهم دون الآخر، لذا كانت النتيجة الغدر بثويني وقتله في موقع الاشتباك، وهذا الاغتيال كان كفيلاً باضطراب الحملة، واختلال صفوفها، واضطرت في النهاية إلى العودة من حيث أتت.

تتابعت الحملات العسكرية من جهة العراق آنذاك تنفيذًا لأوامر استانبول، فقد تلقى والي بغداد سليمان باشا الكبير، أوامر أخرى مشددة من السلطان العثماني للسير إلى جزيرة العرب، لضرب السعوديين والقضاء عليهم فجهز في سنة (1798) حملة كبيرة بقيادة نائبه علي الكيخيا ودعمه بمختلف الأسلحة والعتاد، وضمت الحملة القوى العسكرية النظامية المختلفة، والقوى العشائرية الكردية والعربية.

وقد قدر المؤرخ العراقي ياسين العمري تلك القوات بأنها بلغت حوالي عشرين ألف مقاتل. كما شاهد المقيم البريطاني في بغداد “هارفرد جونز Harvard Johns” الاستعدادات الكبيرة للحملة التي كانت تخيم خارج أسوار بغداد على الشاطئ الغربي لنهر دجلة، وبعدما استكمل علي كيخيا استعداداته غادر بغداد بجيشه الكبير؛ متوجهًا نحو البصرة، وقد اصطحب الكيخيا. وسارت الحملة حتى وصلت البصرة، وهناك انقسمت إلى قسمين القسم الأول يضم الفرسان والقوى العشائرية وقصد بهم قائد الحملة العراقية على الكيخيا الأحساء برًّا، وأما القسم الآخر يضم فريق المشاة والمدفعية والذخائر الثقيلة، حيث استأجر القائد المذكور بعض السفن التي أبحرت بها نحو ميناء العقير على شاطئ الأحساء.

تُعتبر الحملة العراقية أولى المحاولات العثمانية لكسر الدولة السعودية الأولى.

الحملة العسكرية بقسميها البري والبحري واصلت مسيرتها حتى دخلت الأحساء بعد الكثير من المعاناة والمتاعب، وما كاد علي الكيخيا أن يقترب من الأحساء حتى قامت الحملة بمهاجمة الحصون السعودية وفرضت الحصار عليها مدة ثلاثة شهور، إلا إن الحاميات السعودية استطاعت الصمود بقوة أمام هجمات الحملة العنيفة. وكان لهذا الصمود أثره السيئ في نفسية جنود وعساكر الحملة، حيث يشير إلى ذلك المؤرخ رسول الكركوكلي بقوله: “ولما كانت القوات الحكومية تعسكر في واد غير ذي زرع. فقد نجم عن ذلك هزال الجمال، وقعودها عن حمل الأثقال، وهلك منها ما يقرب من تسعة آلاف بعير، وتناقصت الذخائر والمعدات، وراح الجنود يفكرون في مصيرهم والهلاك الذي ينتظرهم، وذهبوا إلى رؤسائهم يلحون عليهم بضرورة الإسراع في العودة لعدم وجود فائدة من بقائهم هناك”، وعادت الحملة العراقية من الأحساء بعد عدة أشهر من دون أن تحقق فيها أي انتصار أو هدف يذكر، وكانت نتيجتها الوحيدة هي عقد هدنة وصلح بين ولاة بغداد والدولة السعودية الأولى.

  1. وثيقة رقم: (H.H.No,6701)، أرشيف رئاسة مجلس الوزراء، إسطنبول.

 

  1. عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971).

 

  1. بريدجز، موجز لتاريخ الوهابي، ترجمة: عويضة الجهني (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2005).

 

  1. رسول الكركوكلي، دوحة الوزراء في تاريخ وقائع بغداد الزوراء، ترجمة: موسى كاظم نورس (بيروت: دار الكتاب العربي، 1963).

 

  1. ياسين بن خير الله العمري، الدر المكنون في المآثر الماضية من القرون، نسخة المتحف البريطاني، لندن، برقم:(IOR . Add. 123312) .

 

  1. عثمان بن سند، مطالع السعود بطيب أخبار الوالي داود، تحقيق: عماد عبدالسلام وسهيلة القيسي (الموصل: دار الحكمة، 1991).

 

  1. عبدالرحيم عبدالرحمن، الدولة السعودية الأولى، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1987).