الإمبراطورية العثمانية محج يهود الشتات
يحتفظ الأرشيف التركي بأعداد هائلة من الوثائق الخاصة بتاريخ الجالية اليهودية في فترة الإمبراطورية العثمانية، وصنفت تلك الوثائق ضمن تصانيف وكتالوجات الأرشيف التركي في إسطنبول، وتم جمع مواد مُهمة عن اليهود في الإمبراطورية العثمانية خلال فترة سيطرتها، وتضمنت تلك الوثائق المؤرشفة وضع اليهود اجتماعيًّا واقتصاديًّا وتعدادهم في أرجاء الإمبراطورية، وعلاقاتهم بالسلطات العثمانية، وأُجريت العديد من الدراسات التاريخية عن اليهود من قِبل الباحثين الأتراك وغيرهم.
وفي ذلك مؤشر على أن الإمبراطورية العثمانية، قد فتحت أبوابها مُشرعة أمام أولئك اليهود الهاربين من جحيم أوروبا، لتصبح الأراضي العثمانية محجًا لشتاتهم خلال فترات تاريخية مختلفة، بدءًا من القرن الرابع عشر الميلادي وحتى القرن التاسع عشر الميلادي، وقد نجح اليهود خلال تلك الفترات في إيجاد موطئ قدم لهم في بلاط بعض السلاطين ومؤسسات الحكومة العثمانية.
ووجدت بعض شخصياتهم مكانة مرموقة، فمثلا في عهد السلطان مراد الثاني (1421-1451م)، الذي أبدى تسامحًا كبيرًا مع اليهود حتى لقَّبوه بـ (الرجل الإنساني الكبير)، وبرز في بلاطه كبير الأطباء من اليهود، ويعدّ من أوائل الذين أصبح لهم نفوذٌ واسعٌ في بلاط السلطان، ويبدو أنها كانت البدايات الأولى لتولي اليهود العديد من مناصب ووظائف مهمة في الحكومة العثمانية.
فاليهود وجدوا في العثمانيين المحضن والملجأ لهم من الاضطهاد الذي واجهوه في القارة الأوروبية، التي كانوا يعيشون فيها في أحياء معزولة عن بقية الناس “جيتو يهودي” فمنحهم نظام الملي العثماني “ميليت” في عهد السلطان محمد الفاتح (1451-1481م) معاملة إنسانية، وسمح لهم بالسكن في العاصمة إسطنبول، وعيّن لهم حاخاما أكبر (حاخام باشي)، ومُنح سلطات مشابهة لسلطات البطريرك على أبناء دينه من النصارى.
كما استدعى العديد من العائلات اليهودية للعيش في إسطنبول، وهو ما شاهده الرحّالة التركي الشهير “أوليا جلبي” بالقول: “عندما غزا الفاتح إسطنبول قام بإسكان خمسين أسرة يهودية في تيكفو سراي بالقرب من شهود كويوسو أي -بئر الشهود- الذي غيروا اسمه فيما بعد إلى تشيفوت كويوسو أي -بئر اليهود”.
ولم يكتف السلطان الفاتح بذلك، بل حاول تحسين أوضاع أولئك المهاجرين والنازحين عندما أصدر فرمانًا لإعفاء الطوائف اليهودية من بعض الضرائب، كضريبة بيع اللحوم والصرافة وغيرها من الضرائب المعتادة، وتُرجع الباحثة الروسية، إيرما لفوفنا فادييفا، سبب ذلك التسامح الذي أبداه العثمانيون مع اليهود بقولها: “إن محمدًا الثاني الفاتح، وخلفاءه من بعده ، عندما قاموا بالسماح بحرية دخول العاصمة لليهود الفارين من أوروبا، كان ذلك لأهداف عملية بحته، وهي إنعاش الاقتصاد في المناطق التي دمرتها الحرب”.
وعلى أية حال، سواء أكان الهدف دينيًّا أم اقتصاديًّا فلقد استفاد اليهود كثيرًا من ذلك النظام في الإمبراطورية العثمانية، وهو أشبه ما يكون بنظام المواطنة، فقد جعلهم يتمتعون من خلاله بالكثير من المزايا مع مرور الوقت، ونوع من الاستقلال، وأصبح الحاخامات يمارسون سلطتهم في شؤونهم الدينية، من بناء المعابد والمدارس والعمل في الحرف المختلفة وممارسة حقوقهم المدنية.
فبعد استقرار اليهود في الأراضي العثمانية في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي بعد هجرتهم من الأندلس، والذين عرفوا بـ”السفارديم” وهم الذين طُردوا منها، وتوزعوا بين البرتغال وإيطاليا والمغرب والإمبراطورية العثمانية، وتذكر الوثائق التاريخية أنه في عهد السلطان بايزيد الثاني (1481-1512م) تقدّمت مجموعة من حاخامات اليهود بطلب السماح لهم للهجرة إلى بلاده، وقد لبّى السلطان بايزيد هذا الطلب دون قيد أو شرط وجلبهم من الأندلس، وأسكنهم تركيا العثمانية وثغورها، وأمر بأن يعيش هؤلاء بحرية تامة!
بل أكثر من ذلك، فقد أمر بايزيد الثاني ولاته في الأقاليم، بعدم رفض دخول اليهود أو إثارة المتاعب أمامهم واستقبالهم بحرارة وحفاوة! وبطبيعة الحال شجّع ذلك التسامح باستمرار هجرات اليهود إلى الإمبراطورية العثمانية خلال القرن السادس عشر الميلادي من مناطق القارة الأوروبية شرقيها وغربيها، والذين عُرفوا بـ “الأشكيناز”، فالمصادر التاريخية العثمانية واليهودية تفيد بأن أكثر الفترات التي عاشها اليهود ازدهارًا في الإمبراطورية، كانت بين القرنين الخامس عشر الميلادي والسابع عشر الميلادي، وذلك عندما نجح عدد من الشخصيات اليهودية في تولي بعض المناصب الرفيعة، وحصلوا على نفوذ قوي داخل البلاط العثماني.
فكانت إسطنبول العاصمة العثمانية، والمكان الذي استوطنه جزء كبير من اليهود الهاربين، حتى بلغ عدد سكان الحي اليهودي فيها عام 1590م، ما يربو على عشرين ألفا بل يزيد عن ذلك بكثير في المصادر التاريخية، وأصبح لهم نفوذٌ اقتصاديٌ واضحٌ، يقول أحد هؤلاء المؤرخين الأوروبيين عن اليهود: “لم يكن من الأمور الاستثنائية أن تجد بينهم (اليهود) أشخاصًا يملك الواحد منهم ثروة تصل إلى مائتي ألف دوكاتية (عملة أوربية ذهبية)”، وهو مبلغ يعد كبيرًا جدًّا في خلال تلك الفترة التاريخية، وأصبح لليهود تأثير في الحكومة العثمانية بصورة كبيرة بدءًا من عهد السلطان سليمان القانوني (1520-1566م) وابنه سليم الثاني (1566-1574م)، ووضح ذلك التأثير الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
والسؤال هنا، هل استفادت الإمبراطورية العثمانية من ذلك التسامح مع اليهود، وهل كان بالفعل لهم تأثير حقيقي على الجوانب الاقتصادية في الإمبراطورية، وهل كانوا أهلًا لمثل ذلك التسامح، أم أنهم أصبحوا معول هدم من المعاول التي أسقطت الدولة العثمانية لاحقا؟!
وأمر آخر، هل تعامل العثمانيون في خلال تلك الفترة التاريخية مع العرب الأندلسيين، الذين تعرضوا هم أيضا لمحاكم التفتيش والمذابح الرهيبة بنفس المعاملة التي كان يعامل بها اليهود؟! الأسئلة كثيرة وتحتاج منا المزيد من البحث وسبر أغوار التاريخ العثماني لمعرفة أصل الحكاية وعلاقة الود التركي مع اليهود؟!