التمكين العثماني
لحملة نابليون بونابرت على مصر سنة (1798)
لا يمكن فصل الحملة الفرنسية على مصر واحتلال نابليون بونابرت لها سنة (1798)، عن التحالف العثماني – الفرنسي المبكر الذي بدأ العام (1536) بين ملك فرنسا فرنسوا الأول والسلطان العثماني سليمان القانوني، الأمر الذي جعل من فرنسا قوة كبرى في البحر الأبيض المتوسط، بل دفعها لتسيُّد طرق التجارة، وضخ الأموال الهائلة في خزانتها، وهو ما دفعها لاحقًا للتوسع جنوبًا في الأراضي التي احتلها العثمانيون، والتي تجلَّت في حملة نابليون على الولايات العثمانية في مصر والشام (1798-1801م)، وبنظرة سريعة لمصر والجزائر وتونس والمغرب وبلاد الشام، سنجد أنها خضعت للاستعمار الفرنسي بسبب تخبُّط التحالفات والسياسات العثمانية.
تحوُّل البحر العربي إلى إفرنجي:
منذ عهد الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، والبحر الأبيض المتوسط يُعدُّ بحرًا عربيًّا خالصًا، إلا أن العثمانيين فرَّطوا فيه وحوَّلوه إلى بحيرة صليبية بيد الفرنسيين والإسبان، وهو أمر مكَّن الفرنسيين لاحقًا من الدخول إلى العالم العربي، واحتلال أجزاء واسعة منه من نافذة شمال أفريقيا، إضافةً إلى مصر والشام.
لا شك أن المصالح العثمانية القصيرة والمحدودة لم تنظر أبدًا بعين الأخوة الإسلامية للعالم العربي، بل وضعت مصلحتها فوق أي اعتبار، بالرغم من أنها لطالما ادَّعت أنها تسهر على مصالح العرب الذين احتلتهم لأربعة قرون، وما حصل في مصر والجزائر والمغرب وتونس لصالح الفرنسيين حصل في ليبيا لصالح الإيطاليين أيضًا.
كانت التنازلات العثمانية مقايضات للحصول على مصالح ضيقة، ولم ينظروا للعالم العربي إلا كزوائد من الأراضي تفيض عن حاجتهم، وكلما اختنقوا أو ضايقهم الغربيون تخلَّصوا من جزء، لتبقى أراضي الأناضول الأساسية في منأى عن أي مشاكل تحدث بالخلاف مع الأوروبيين، وللحقيقة فإن العرب لم يكونوا الأمة الوحيدة التي واجهت تلك النهايات العثمانية، والبيع بالرخيص كما يقول المثل، فالأرمن والأكراد عاشوا وذاقوا ويلات العثمانيين مثل العرب.
وعَودًا على البحر الأبيض المتوسط الذي تحوَّل من كونه خط الدفاع الأول عن الحياض العربي والإسلامي إلى جسر أوروبي للدخول إلى الأراضي العربية واحتلالها؛ إثرَ التمكين العثماني لحلفائهم الأوروبيين، وخاصة الفرنسيين، الذين حصلوا على تعاملات خاصة، وتسهيلات تجارية رفعت من اقتصادهم، وحوَّلَتهم إلى إمبراطورية تجول أساطيلها وجيوشها في كل الحدود والبحار.
احتلال نابليون لمصر:
في عهد نابليون الأول تبنَّت فرنسا سياسة توسعية، بنَتها على القوة الاقتصادية التي أسَّسَتها إثر التحالف مع العثمانيين، وانقلب السحر على الساحر، وتحوَّل الفرنسيون من حلفاء إلى طامعين، بعد أن جعلتها التحالفات العثمانية على اتصال مباشر مع الولايات التي احتلها العثمانيون سابقًا، وبعد معاهدة كامپو فورميو عام (1797) استحوذت فرنسا على أراضٍ وجزر مهمة في البحر الأبيض المتوسط، مثل الجزر الأيونية، كذلك قواعد البندقية السابقة على ساحل ألبانيا واليونان، لكن العلاقات الفرنسية العثمانية أصبحت متوترة بشكل مفاجئ، حين قرَّر نابليون بونابرت غزو مصر عام (1798) لتأسيس وجود فرنسي في الشرق الأوسط، بعد أن انهار الحلم العثماني ببقاء التحالف مع الفرنسيين الذين خذلوهم.
أبدى العثمانيون حيادهم من الإجراءات الفرنسية الحربية على السواحل العربية حتى وصلوا إلى مصر.
أغرب ما في العلاقة الفرنسية العثمانية أن نابليون، وبالرغم من أنه أطاح بالحكام الفعليين لمصر تحت السيادة العثمانية الاسمية، إلا أنه رفع العلم الفرنسي جنبًا إلى جنب مع الراية العثمانية في جميع أنحاء الأراضي المصرية، قائلًا: إنه ينقذ العثمانيين من المماليك، وكان محتالًا، في الوقت الذي قَبِل به العثمانيون احتياله واحتلاله.
انهارت مصر المُحتلَّة من العثمانيين، نظرًا للإدارة السيئة للمشهد المصري، بسبب الفساد وإثارة الفتن والنعرات، وتأليب القادة بعضهم على بعض، وتشجيع الانقلابات، التي كانت دائمًا ما تجعل المشهد السياسي متقلبًا وقابلًا للانهيار، فبعد خيانة محمد أبو الدهب المملوكي للوالي الأسبق، وإعلانه تبعيته للعثمانيين في مصر، أضحت مصر ولاية تابعة بالكامل للسلطنة، لكن الصراعات العنيفة التي تلت ذلك أدَّت إلى استهلاك قوة المماليك، وانهيارهم، وعدم اهتمامهم بتحصين البلاد، الأمر الذي زاد من طمع الفرنسيين في مصر، ودفعهم إلى الاستعداد لغزوها.
الحياد العثماني من حملة نابليون على مصر
مع أن نابليون أعلن صراحةً نيته احتلال مصر، مغلِّفًا ذلك بأنه جاء لإنصاف المصريين من المماليك، إلا أن موقف العثمانيين كان كالعادة متخاذلًا، ورضوا باحتلال نابليون؛ نظرًا لكراهيتهم الشديدة للمماليك، ومع ذلك، واستمرارًا للتعاون العثماني الفرنسي رفع نابليون العلم الفرنسي بجانب العلم العثماني في مصر، بعد أن أبدى العثمانيون الحياد في قضية لا تحتمل إلا إعلان القتال ضد محتل جديد للبلاد العربية.
- أمين سعيد، تاريخ مصر السياسي من الحملة الفرنسية 1798 إلى انهيار الملكية 1952 (القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، 1959).
- مجموعة مؤلفين، المرجع في تاريخ مصر المعاصر (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2009).
- هنري لورنس وآخرون، الحملة الفرنسية في مصر، ترجمة: بشير السباعي (القاهرة: سيناء للنشر، 1995).