الوباء "العثماني" في الجزيرة العربية

كفَّن التاريخ بـ "الحُزن"... ومنع العزاء

للجرائم التي اقترفها العثمانيون ضد السعوديين بعد إسقاط الدرعية صورة مأساوية، لا يمكن أن يتخيلها المنطق فيمن يدعي أنه مسلمٌ، ويمارس ضد الأبرياء والعامة من غير المحاربين التشفي والقتل والتعذيب والتشريد. ومع تعدد جرائم العثمانيين؛ فإن أولها كانت مع حملاتهم ضد الدولة السعودية الأولى.

إبراهيم باشا

تلذذ إبراهيم باشا وجيشه بتعذيب الأبرياء؛ وركز على المؤثرين منهم من الأعيان والعلماء، فكتب التاريخ تغص بالقصص والأحداث التي تواترت عن حجم الجريمة التي ارتكبت سنة (1818)، من قائدٍ عسكري عُرف بإدمانه على المُخدر، وكثرة ما كان يُصاب به من ذُهان واقتراف للجرائم تحت تأثير المُسكرات والمُخدرات، وهذا مما أوردته الوثائق العثمانية التي تؤكد بأن هنالك شخص يُرافق إبراهيم باشا في حملاته يُطلق عليه “أغا المعجون” الذي يُعد مُضغة الأفيون المُخدر له.

ومن قصص تلذذ القائد العثماني حين قبض جيشه على الشيخ سليمان بن عبدالله حفيد الشيخ محمد بن عبدالوهاب بعد سقوط الدرعية، ولكونه عالمًا ومتصلاً بعائلة علم؛ فإن عملية تصفيته أخذت طابعًا ينم عن أن الأتراك أرادوا أن يرسموا في الأذهان وحشيتهم وعدم احترامهم للعلماء إن خالفوا مصالحهم، لذا -إيغالاً في قهر الشيخ سليمان- عُزفت الآلات الموسيقية المرافقة للغُزاة أمامه، وهم يعون تمامًا أن ذلك يُضايقه، وفي الوقت الذي أرغم على سماع ما كان يكره؛ أُشير إلى حملة البنادق من الجند أن يقوموا بإطلاق النار عليه بوقتٍ واحد، وما أن تم التنفيذ حتى تطايرت أشلاء الشيخ بين الذين كانوا يتابعون عملية الإعدام. 

أما قاضي بلدة الدلم الشيخ علي العريني؛ فكانت عملية إعدامه أكثر وحشيةً وبُعدًا عن الإنسانية، إذ أُخذوا يَجُرُّونه إلى ساحة الإعدام، وقد جُهِزت لذلك مدفعيةٌ في وسطها، ورفعوه وأدخلوا رأسه في فم المدفع، ليكون ذخيرة له، وأُشعِل الفتيل بينما الناس يرون أشلاءه (رحمه الله) تتاطير قطعًا في السماء.  ومن لم يُقتل بهذه الطريقة من العلماء قاموا بتعذيبه وضربه حتى الموت، وممن عُذِّبُوا ضربًا ولم يموتوا الشيخ أحمد بن رشيد الحنبلي، إذ عذبوه بأشد أنواع وسائل التعذيب، حينما أنهكوه ضربًا ثم خلعوا جميع أسنانه.

شوهوا وجه السماء بأشلاء القتلى متطايرة.

ولم يقتصر الأمر في التصفية والإرهاب على الدرعية فقط، بل كان من مهام الجيش العثماني؛ قتل جميع من يجدونه من الزعماء المحليين الموالين للدولة السعودية، فكانت تُنفذ عمليات التصفية بطريقة ممنهجة وبتتبع دقيق، استُخدمت فيها أقسى أنواع التشفي، حيث رُميت جثث بعضهم في الشوارع بعد أن قُطعت الرؤوس.

إبراهيم باشا في حملته بعد إسقاطه الدرعية قُبَيل رحيله؛ أراد أن يُمارس كل أنواع الخراب والتخريب، فبعدما فرَّط في أرواح الأبرياء وأرهبهم؛ عَمَد إلى تخريب المباني والمزروعات والبساتين والنخيل، ليُحدث أزمة حقيقية في بلدان الدولة السعودية الأولى كافة، بقصد ألا تفيق من ضربته، وأن يعي السكان حجم العقاب الذي سيحل بهم إذا ما كرروا المحاولة مرةً أخرى في الوحدة والتوحد السياسي السعودي، وضرب الأمن الغذائي ودمر البُنى التحتية.

قهروا البراءة التي اعتادها السعوديون قبل وصول الغُزاة.

ولم يقتصر عند هذا الحد، فقد كان يُفكر بطريقة خراب عنقودية تُرخي بظلالها على تفاصيل حياة الناس، فإضافةً إلى استهداف الأرواح وأمنهم الغذائي؛ سعى إلى محاولة تجهيل الأجيال اللاحقة بسلب وسرقة التراث الثقافي والمخطوطات المحلية، فقد سرق معه 591 مصحفًا كان قد وجدها في المساجد ولدى الناس، و571 كتابًا مخطوطًا ومُجلدًا أخذها من بيوت العلماء قهرًا وتشفيًا، وقد كانوا يتلذذون بحسرة العلماء على ما أخذ من مقتنيات مكتباتهم. ولمزيدٍ من التجهيل أخذوا معهم من العلماء من لم يقتلوه حتى يغرق الناس أكثر من كل اتجاه.

كل ما قام به إبراهيم باشا من جرائم إنسانية في خلال حملته؛ أورث الخراب والدمار وغلاء الأسعار، وانتشر الفساد من أعمال جند حملته الذين كانوا ينقلون معهم الخمور، ويمارسون طقوسًا لم يعتد على رؤيتها الأهالي في الدولة السعودية الأولى، مما يتنافى مع تعاليم الدين الإسلامي، وفي الوقت نفسه مع الأخلاق والقيم والمبادئ السليمة، كما انتشرت الأمراض الخبيثة والمعدية بين الناس لكثرة ما أوجد من دمار في ظل وجود عساكر من جهات عدة يحملون معهم أمراض المبادئ وجيناتها.

حسين بك وآبوش أغا:

بعد أن سقطت الدرعية وغادرها إبراهيم باشا؛ كانت تعتقد الدولة العثمانية يقينًا بأنه لن تقوم في حدود الدولة السعودية الأولى قائمةٌ بعد ذلك، خاصةً بعد ما أقيم بها من مذابح ومطاردات وخراب وسلب ونهب، وما تُرك في البلدات النجدية المختلفة من حاميات عسكرية عثمانية بقصد محاولة السيطرة على الأهالي ومتابعة حالة التدهور بين السكان، وحتى لا تُفكر القوى السعودية باستعادة قواها من جديد، لا سيما بعد إعدام الإمام عبدالله بن سعود بن عبدالعزيز آخر أئمة الدولة السعودية الأولى، الذي أُرسل إلى إسطنبول، ونفذ الإعدام به جُرمًا وتشفيًا وكراهية لكل ما هو عربي وسعودي تحديدًا، باعتبار أن السعوديين هم الذي وقفوا بكل قوة وقاوموا الظلم وحققوا الانتصارات في كثيرٍ من المعارك مع العثمانيين بما يمتلكون من أسلحة بدائية مقابل الجيوش المدججة بالأسلحة والمدافع والتخطيط والدعم المتواصل.

كانت الحاميات العثمانية في البلدان النجدية تُمارس الدور الذي كُلِّفت به من قبل قيادتها، ولم يتوقع العثمانيون أن السعوديين سيكونون سريعي الاستفاقة من ضرباتهم الأولى، لذلك ما أن سقطت الدرعية سنة (1818)؛ حتى عادت المقاومة بقيادة الإمام تركي بن عبدالله، الذي لم يتمكن إبراهيم باشا من القبض عليه خلال عملياته العسكرية بعد السقوط.

لذلك كانت الحاميات تُعاني من قلق دائم من عملية المقاومة المحلية، وتخسر بشكلٍ دائم بعض عناصرها نتيجة التصفية والمقاومة، فمقاومة الإمام تركي استمرت بعد (1818) إلى أن استعصى أمره على العثمانيين سنة (1821)، حيث اضطروا إلى إرسال حملة بقيادة حسين بك وآبوش أغا، فبعد أن تمكن الإمام تركي من السيطرة على الرياض؛ وصلت الحملة وحاصرته فيها مع أتباعه، ولأن الحصار أرهق قادة الحملة؛ عرضوا على الإمام الصلح شريطة استسلامه، غير أن هؤلاء القادة لا ذمة لهم ولا وعد، لذلك قرر تركي بأن يُغادر الرياض ليستجمع قواه للمقاومة، في الوقت الذي لم يستطع كل أتباعه الخروج مع خلال الحصار، فبقي منهم (70 بطلاً) سلموا أنفسهم إلى حسين بك وآبوش أغا، على وعد أنهم حصلوا على الأمان منهم إذ استسلموا، غير أنهم ما أن خرجوا من مكانهم حتى نُفذ فيهم الإعدام مباشرةً وقتلوا صبرًا.

دخل قادة الحملة إلى الرياض، واقترفوا الجرائم الشنيعة ضد الأهالي، بجريرة أنهم عملوا على إيواء الإمام تركي وأتباعه، لذلك كان عقابهم أن أخذت جميع أموالهم منهم، بينما حُبس الكثيرون، خاصةً من ليس لديهم أموال مغرية للصوص العثمانية.

وعلى الرغم من أن الحصار كان في الرياض؛ إلا أن حسين بك أراد أن يُعيد سيناريو الظلم من جديد ضد الدرعية عندما انسحب إلى بلدة ثرمداء، حيث وجه دعوةً إلى أهالي الدرعية ليفدوا إليه بعد أن أمر قائد حامية ثرمداء خليل أغا أن يبني بيتًا كبيرًا لهم حين يفدون، وأمره أن من يدخل هذا البيت لا يخرج منه تحت أي ظرف من الظروف، وكان إغراؤه لأهالي الدرعية كي يستجيبوا له أنه سيوزعهم بين البلدان النجدية بحسب خياراتهم، معللاً ذلك بأنه مضطر لإخلائها وتدميرها حتى لا يكون فيها أحد. والقصد الذي كان يهدف إليه أن يَخرج من كان مختبئًا ويفد إليه حتى يقوم بتصفيته.

جاء إلى ثرمداء قرابة 230 رجلاً بعائلاتهم من الدرعية، وحين أيقن من أنه لن يقدم غيرهم جمعهم في البيت الذي بناه لهم وأسماه الحظيرة فأمر بقتل كل من كان فيه، لذلك يُطلق الأهالي على سنة 1236هـ (سنة الحظيرة) التي وافقت سنة (1821)، ولعمق المأساة التي حدثت أنهم لم يكتفوا بقتل الرجال، بل سرقوا أموالهم من عائلاهم، وأخذوا معهم بعض الأطفال. 

بعد أن اطمأن حسين بك من أن الأرض بكت دمًا في ثرمداء؛ فرق جنوده في البلدان النجدية الأخرى، ليقتلوا ويعذبوا الأهالي وصادروا الأموال بعد فرض الضرائب الجائرة وسلبوا الأنعام والسلاح، حتى أخذوا حلي النساء من أجسادهن.

وتأكيدًا على منهجية الجرائم العثمانية ضد السعوديين؛ لم يكن حسين بك مختلفًا عن إبراهيم باشا، إذ مارس ضد العلماء الفظائع والقهر، فقد عذب الشيخ عبدالعزيز بن سليمان بن عبدالوهاب في حريملاء، وسجنه ونهب بيته، وسرق محتويات مكتبته وما فيها من مخطوطات نادرة وكتب قيِّمة، وأرسل قاضيه المرافق للحملة – اسمه الزللي – وكلفه بالإشراف على سرقة مكتبة الشيخ عبدالعزيز، وبعد أن فرغ أشعل النيران فيما تبقى من المكتبة.

ومن أبلغ صور المآسي أن جيش حسين وآبوش كانت لديه أوامر بقتل كل من يمتنع عن دفع المال لهم، لذلك قتلوا كثيرًا من الرجال لأنهم لم يكونوا يمتلكوا شيئًا يدفعونه لهم؛ ولكي يتوج حسين بك عمله بما يميزه، اقترف ما لم يسبقه إليه غيره، حينما نبش قبر أمير الحريق، كي يتأكد من أنه ميت؛ فقط لأنه كان ممن قاومهم، ولأنه انتصر على إحدى فرقه، غير أنه قتل بعد ذلك في المواجهات الأخرى. وفي بلدتي الداخلة ورغبة النجديتان قطعوا الأشجار والنخيل، ويذكر المؤرخون أنهم قطعوا أكثر من ألف نخلة فيهما، بقصد قطع المؤنة عن الأهالي الذين كانوا يعتمدون على التمر في غذائهم، بقصد إحداث مجاعة.

ونتيجةً لهذا الإرهاب جمع حسين بك نحو 70 ألف ريال فرنسي من القصيم، وكميات كبيرة من غلال الأهالي المسروقة، وكل ذلك تم تخزينة في ثرمداء بمخازن خصصها لجمع المنهوبات التي أخذها معه حين غادر عائدًا أواخر سنة (1821)، حيث ترك حاميات عسكرية في بعض البلدان الرئيسة.

 حسين أبو ظاهر

بعد رحيل حسين بك وآبوش أغا وتركهم الحاميات؛ وصل القائد العثماني حسين أبو ظاهر إلى نجد سنة (1822) يرافقه حوالي 800 عسكري، وكان من أكثر الناس خِدعةً وتَلَوُّنا؛ لأنه ما إن وصل حتى أظهر أمام الأهالي نفسه على أنه ناسك متدين، وأوهم الناس بأنه جاء كي يحاول مسح الأثر السيء الذي أخلفته الحملات التي سبقته. بينما أنه أُرسل من أجل الإمام تركي بن عبدالله ومقاومته لحملاتهم وحامياتهم.

والسبب الآخر الذي اختبأ وراء مجيئه أن العثمانيين لحظوا بأنهم جمعوا أموالاً طائلة في الحملات السابقة؛ لذلك كان تركيز أبو ظاهر على جمع الأموال والضرائب من الأهالي، لذلك أرسل عساكره إلى البلدان لجمع الأموال، وكانت تتم العملية بكثير من الوحشية والقسوة ضد الناس.

لم يظفر أبو ظاهر بالإمام تركي، لذا ركز على تأديب الأهالي في كل اتجاه وعلى جمع أموالهم وأرزاقهم، ومما استفزه أن بعض عساكره وسراياه هزمت على أيدي الأهالي، ومنها قوة موسى أبو كاشف الذي اتجه نحو قبيلة السهول التي قاتلته بشدة، حتى تمكنوا من قتله مع 30 من جنده، وفرت بقية السرية التي ترافقه.

كما أرسل حسين أبو ظاهر قوةً إلى موقق بالقرب من حائل، وحين امتنعوا عن الاستجابة إلى طلباته في دفع الأموال حاصرهم وقتل منهم قرابة 60 رجلاً، ولضغينته تجاههم طلب من حامية المدينة إرسال قوة أخرى إلى موقق بقيادة علي أغا والكاشف إسماعيل مع 500 عسكري بعد أن تم تزويدهم بمدفع جبلي، ومارسوا أقسى أنواع الإرهاب والتشفي. أيضًا من فرقه التي أرسلها إلى قبيلة سبيع التي كبدته الخسائر، وقتلوا من الأتراك 300 قرب الحائر، وقتلوا إبراهيم كاشف أحد قادتهم، بينما انتفضت بقية البلدات النجدية، ومنها عنيزة التي طردت الحامية المتواجدة فيها إلى المدينة المنورة.

  1. عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق وتعليق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 1983).

 

  1. إبراهيم بن عيسى، تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد (الرياض: دار اليمامة، 1966).

 

  1. أمين الريحاني، تاريخ نجد وملحقاته، ط2 (بيروت: د.ن، 1954).

 

  1. بيير كربيتس، إبراهيم باشا، ترجمة: محمد بدران (القاهرة: د.ن، 1937).

 

  1. سعود بن هذلول، تاريخ ملوك آل سعود (الرياض: مطابع الرياض، 1961).