بسبب تردي الإدارة العثمانية وضعفها
تصارعت الدول الغربية للوصاية على الأقليات الدينية في المشرق العربي
تُعد حماية الأقليات من أكثر الأمور حساسية في علاقة الغرب بالشرق العربي، والعالم الإسلامي بشكلٍ عام، وبالعودة إلى الجذور التاريخية لهذه المسألة؛ فإنها تعود بالأساس إلى فترة احتلال الدولة العثمانية للمنطقة، كما ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمسألة الامتيازات الأجنبية، هذه الامتيازات التي كانت من أكبر أخطاء الدبلوماسية العثمانية في تعاملها مع الدول الغربية، كما كانت من أهم أسباب سقوط الدولة العثمانية، والأكثر من ذلك انهيار البنية الاجتماعية في المنطقة، وفتح الباب على مصراعيه أمام التدخل الغربي في الشؤون الداخلية للمنطقة.
وقد يرى البعض أن هنالك مبالغة في هذا الشأن، ولكن المستشرق الفرنسي آندريه ميكال يعترف بذلك قائلًا: “إن الامتيازات الأجنبية، ثم التدخلات العسكرية الأجنبية، وأحيانًا النشاط المكثف للإرساليات الدينية راحت تربط الطوائف المسيحية الشرقية أو بعضها اقتصاديًّا وثقافيًّا بالغرب”.
ولكي نتبيَّن مدى خطورة الوصاية الغربية على مسيحيِّ الشرق، علينا أن نفهم مقدار العائد الاقتصادي والاجتماعي الذي يعود على المسيحي “العثماني” جراء هذه التبعية، فبمقتضى نصوص وأحكام الامتيازات الأجنبية، فإن قنصليات الدول الغربية تتمتع بصلاحيات واسعة من الناحية القانونية، ولها محاكم خاصة عُرِفَت بالمحاكم القنصلية، وهكذا فإن المسيحي الشرقي الذي يحصل على الحماية والرعوية من إحدى القنصليات الأجنبية، ينعكس ذلك إيجابيًّا على أعماله التجارية، لا سيما الاستفادة من المزايا الضريبية الخاصة. وبالإضافة إلى هذه الامتيازات القانونية والتجارية، يتمتع بإمكانيات واسعة لتعليم أبنائه مجانًا في مدارس الإرساليات التبشيرية، أو حتى السفر للتعلم في أوروبا.
ومع زيادة تردي وضعف الدولة العثمانية، وتحولها إلى رجل أوروبا المريض، ازداد النفوذ الغربي توغلًا في الشأن الداخلي في المنطقة بشكل كبير، وترك ذلك أثره السيئ على الرعايا غير المسلمين في الدولة العثمانية، وأدَّى ذلك إلى ظهور ما أطلقت عليه المؤرخة ثريا فاروقي “تغيرات الهوية”؛ إذ تم اختراق البنية الاجتماعية لسكان المنطقة من خلال بعض غير المسلمين من رعايا الدولة العثمانية، وبالقطع كانت فرنسا هي أكثر البلاد الغربية استفادةً من هذا الأمر، خاصةً من خلال تشجيعها للتبشير الكاثوليكي بين المسيحيين الشرقيين الأرثوذكس، أو حتى حمايتها للمسيحيين الكاثوليك من رعايا الدولة العثمانية، واعتبارهم تحت الحماية الفرنسية: “كانت ممارسة شعائر الإيمان المسيحي على المذهب الكاثوليكي تعد من الدلائل الهامة على فرنسية الأشخاص، ربما بصورة أكبر من مسألة اللغة”.
ويؤكد المؤرخون على أن مسألة الوصاية الغربية على غير المسلمين من رعايا الدولة العثمانية لم تقتصر على فئة معينة أو طائفة دون غيرها، بل شملت تقريبًا كل مسيحيّي الشرق وحتى اليهود والدروز، وتم ابتكار العديد من الحيل القانونية وغير القانونية من أجل تسهيل هذا الشأن، ويأتي على رأس ذلك التحَجُّج بالعمل لدى القنصليات الأجنبية أو الترجمة لها، أو حتى الاتجار معها، ويضرب بعض المؤرخين المثل بوالي حلب الذي رفع شكواه إلى إسطنبول عام (1792)، من جراء تزايد أعداد مترجمي القناصل في حلب، وهم من الرعايا المحليين، لكن زاد عددهم بشكلٍ مثير حتى بلغ حوالي ألف وخمسمائة، وترتب على ذلك وضع خاص لهؤلاء؛ إذ تم إعفاؤهم من الضرائب، كما منحتهم القنصليات الأجنبية كافة المزايا التي تمنحها الامتيازات الأجنبية للتجار الأوروبيين، وخاصةً التخفيض النسبي على الرسوم المفروضة على الواردات والصادرات.
ولم يقتصر الأمر على الشأن الاقتصادي فحسب، بل أدى تشجيع التبشير الكاثوليكي من خلال الامتيازات الأجنبية إلى حدوث انقسام خطير في بنية المجتمع المسيحي الأرثوذكسي الشرقي، مع تحوُّل البعض إلى المذهب الكاثوليكي للاستفادة من المزايا العينية من جراء ذلك، وأدَّى ذلك إلى اعتراض الكنائس الشرقية على هذا الأمر، ورفع الشكاوى إلى السلطات العثمانية، لكن الأخيرة لم تهتم بالأمر خشية أن يثير ذلك الدول الأوروبية.
ومع تهاون السلطات العثمانية في الدفاع عن سيادتها على رعاياها غير المسلمين، أدى ذلك إلى أن تبنت فرنسا حماية المسيحيين الكاثوليك، لا سيما موارنة لبنان، وادعت روسيا حمايتها للمسيحيين الأرثوذكس الشرقيين، كما أعلنت إنجلترا حمايتها للدروز واليهود.
ويرصد المؤرخ التركي بيرم كودمان بدايات هذه المشكلة ويُرجِعها إلى القرن السادس عشر، ويربط بوضوح بينها وبين نظام الامتيازات الأجنبية، وكيف نجحت القنصليات الأجنبية في الدولة العثمانية في “تحويل نظام الحماية الدينية إلى شبكة من المصالح والحماية الاقتصادية والسياسية والثقافية للطوائف المسيحية”.
الأمر المثير للأهمية أن هذه التركة التاريخية الثقيلة من صراع الدول الغربية على الأقليات الدينية في المشرق العربي، وتهاون الدولة العثمانية في هذا الشأن، قد أورث الحاضر العربي في عصر الاستقلال والدولة الوطنية معضلة مزمنة هي مسألة الأقليات، وصعوبة الوصول إلى المواطنة الحقة، هذا فضلًا عن تدخل الغرب في الشؤون الداخلية للدول العربية بحجة حماية الأقليات.
حوَّلت القنصليات الأجنبية نظام الحماية الدينية لرعايا الدولة العثمانية المسيحيين إلى شبكة من المصالح والحماية الاقتصادية والسياسية والثقافية للطوائف المسيحية
- ثريا فاروقي، الدولة العثمانية والعالم المحيط بها، ترجمة: حاتم الطحاوي (بيروت: دار المدى، 2008).
- قيس العزاوي، الدولة العثمانية.. قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، طـ 5 (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2003).
- سعد الدين إبراهيم، الملل والنحل والأعراق، هموم الأقليات في الوطن العربي (القاهرة: مركز ابن خلدون، 1994).
نتيجةً لتخاذل العثمانيين بالوصاية الغربية ونظام "الملل"
الدول الغربية تحكمت بمصير البلاد العربية
بدأ التحول في السياسة العثمانية ابتداءً من القرن الثامن عشر، وظهر ذلك مع معاهدة قارلوجوفجه (1699)، وكان نتيجةَ أن الدولة العثمانية لم تعد قادرة على اتباع سياسية خارجية مستقلة، وتأثر قرارها السياسي بمواقف الدول الأخرى، وهو في الواقع كان بداية اعترافها بالتفوق الأوروبي، فعلاقاتها الدبلوماسية أصبحت قائمة على أرض الواقع مع الدول الأجنبية في القرن الثامن عشر، وكانت على اتصال بكافة دول العالم المسيحي في الغرب آنذاك، مثل: إنجلترا، فرنسا، روسيا، النمسا، إسبانيا، بروسيا، الدنمارك، هولندا، السويد، بولندا، البندقية، وجنوة وصقلية، واعترفت لهم بامتيازات تجارية كبيرة. ولقد تبع ذلك أن بدأت الدولة في إرسال السفراء إلى الدول الأوروبية لفترات، وطلبت منهم تسجيل مشاهداتهم في المجالات العسكرية والسياسية والأعمال والاكتشافات وكتابة تقارير بذلك، حتى أصبح مع مرور الوقت تقليد متبع في الديبلوماسية العثمانية.
ومع حلول القرن التاسع عشر الميلادي بدأ عصر الدبلوماسية في الدولة العثمانية، ودخلت في أدوار حرجة لاحقًا مع الدول الأوروبية التي أشغلت الدولة العثمانية بقضية “المسألة الشرقية”، ووصفتها بالرجل المريض، الذي لا بد من اقتسام ممتلكاته، وأصبح الباب العالي يتعامل في سياسته مع تلك الدول من خلال مسألة موازين القوى في مواجهة التحديات الخارجية، فجاءت التنظيمات الإصلاحية كمحاولة للإنقاذ، وعرَّفتها دائرة المعارف الإسلامية بالقول: “إنها إصلاح مأخوذ من قانون تنظيم أتمك”، وهي الإصلاحات والتنظيمات التي أدخلت على أداة الحكم والإدارة في الدولة العثمانية منذ مطلع عهد السلطان عبد الحميد الأول، وقد استهلت بالقانون المعروف باسم “خط شريف كُلخانة” أو “تنظيمات خيرية” في عهد السلطان محمود الثاني، وما تبعها في عهد السلطان المستبد عبد الحميد الثاني.
كبَّل الغربيون الدولة العثمانية بمجموعة من العُقد كالرجل المريض والمسألة الشرقية.
وتحدث التركي أحمد آق كوندز عن تلك التنظيمات بقوله: “لم تجرِ التنظيمات (وهي التجديد في النظم) بإرادة الدولة العثمانية، ولم تثمر بالمنافع المأمولة منها، وذلك إذا نظرنا إليها بمعيار التغيرات السياسية الناتجة وتقلص الممالك العثمانية بمرور الأيام، حتى بلغ الضعف بالدولة على الميل حسبما هبَّت الرياح إلى أوروبا واللهث وراء تلبية مطالبها.. إن هزال الدولة العثمانية، والضغوط الخارجية عليها، وتضعضع النظام القانوني العثماني بسبب الخلل في التنفيذ ـ أشعل لهيب الحركات السياسية الداعية في ظاهرها إلى زيادة حقوق الأقليات.. وإلى تجاوز السلطان محمود الثاني لحده بالقول: بعد الآن، أريد أن ينحصر التمايز بين المسلمين والنصارى واليهود بالمسجد والكنيسة والحوراء، أي بمعنى أن يلغى التمايز خارج المعابد”.
ثم جاء نظام الملل العثماني، وهو نظام يعتمد على تصنيف رعايا الدولة العثمانية غير المسلمين تصنيفًا يقوم على المذهب الديني الذي ينتمي إليه هؤلاء الرعايا، والذي عُمل به في أوائل القرن التاسع عشر، حيث منح نظام الملل لأهل الكتاب حقوقًا مدنية ودينية، وجعل لهم سلطنة سياسية لم يكونوا يتمتعون بها من قبل، كما نشير إلى أن أوضاع الملل الاقتصادية لم تكن بأقل جودة من أوضاعهم الأخرى، إنها أفضل مما كانت عليه، فبينما كان بعض النصارى واليهود يقيمون في المدن ويختصون فيها ببعض التجارات والحرف والمهن كان بعضهم يحتل بالفعل مراكز نافذة، ويلعب دورًا جوهريًّا في حياة الدولة كصرافي القسطنطينية الأرمن، وصرافي بغداد اليهود، وعائلات الفنار اليونانية التي تقوم بأعمال الترجمة في المفوضيات الأجنبية، أو تحكم ولايات رومانية، تلك كانت أوضاع أهل الذمة في إطار نظام الملل العثماني، حيث استمرت هذه الأوضاع قائمة إلى أن حدث ما يعكرها بفعل عوامل خارجية أتاحتها السلطنة، حين بدأت لأول مرة تغيِّر قاعدتها في التعامل مع الخارج الأوروبي، وذلك عندما منحت كلًّا من البندقية وجنوة امتيازات تجارية سنة (1453)، وكان التبرير حينذاك قائمًا على أساس أن الامتيازات من شأنها أن تساهم في نمو التجارة، الأمر الذي زاد من دخل الباب العالي من الضرائب، ولكن الأمر لم يقتصر على ذلك؛ ففي حين نشطت أوروبا تجارتها في البحار الشرقية تباطأت، بل ضمرت التجارة العثمانية في تلك البحار مع الوقت، وذلك لاعتمادها على التجار الأوروبيين، ومما زاد الأمر سوءًا إقدام السلطنة على توقيع معاهدة الامتيازات الأجنبية بينها وبين فرنسا، وهي المعاهدة التي اعتبرها المؤرخون بداية الهيمنة الأوروبية على الدولة العثمانية.
ونتيجةً لنظام الملل والامتيازات ظهر نشاط كل من اليسوعيين والفرنسيسكان واضحًا داخل الأراضي العثمانية ضمن الرهبانيات التنصيرية المختلفة، حيث عملوا تحت مظلة حماية السفراء الأوروبيين، وتؤكد المؤرخة ثريا فاروقي تأثير تلك المسألة المرتبطة بالرعايا النصارى لدى السلاطين العثمانيين بقولها: “أكدت دراسة حديثة أنه في مدينة مثل حلب كان التجار الأرثوذكس المحليون في القرن الثامن عشر يرغبون في زيادة سيطرتهم على الكنائس المحلية، وهو الأمر الذي كان يمكن تحقيقه بسهولة إذا تم لهم التخلص من البطريركية في إسطنبول، بالإضافة إلى ذلك سمح تبنِّيهم حالة دعاة الاتحاد الكنسي (Uniate) أو حتى المذهب الكاثوليكي بكامله، بالتواؤم داخل نطاق أوسع في عالم البحر المتوسط الأوسع، الذي كانت السيادة فيه للتجارة الفرنسية”، وما تم ذكره جانب يسير من تأثير نظام الملل العثماني والامتيازات والتنظيمات على الأوضاع الداخلية في الدولة العثمانية بمساحاتها الشاسعة.
- أحمد آق كوندز وآخر، الدولة العثمانية المجهولة (إسطنبول: وقف البحوث العلمية، 2008).
- أكمل الدين إحسان أوغلي، الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، ترجمة: صالح سعداوي (إسطنبول: مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، 1999).
- ثريا فاروقي، الدولة العثمانية والعالم المحيط بها، ترجمة: حاتم الطحاوي (بيروت: دار المدار الإسلامي، 2005).
- دونالد كوترات، الدولة العثمانية 1700-1992، ترجمة: أيمن أرمنازي (الرياض: مكتبة العبيكان، 2004).
- قيس العزاوي، الدولة العثمانية قراءة جديدة لعوامل الانحطاط (بيروت: الدار العربية للعلوم، 1994).
بسبب الامتيازات الأجنبية في الدولة العثمانية
تصفية حسابات الدول الغربية من خلال الصراع البروتستانتي الأرثوذوكسي على الأراضي العربية
لا شك أن نظام الامتيازات الغربية في الدولة العثمانية كانت له انعكاسات سلبية أثرت على التماسك الاجتماعي في البلاد العربية، وهو ما هيأ الاختراق والتغلغل وبداية الهيمنة الاستعمارية الأوروبية، وتغير الحال من مستعمر تركي إلى مستعمر أوروبي.
حين فشلت الدولة العثمانية في إدماج المسيحيين ضمن بنيتها؛ زاد الأمر سواءً بعد قبولها بنظام الامتيازات، الذي شكَّل ضربًا لمبدأ السيادة، خاصةً “بعدما انتزعت منها بعض الامتيازات بموجب معاهدات خلال مراحل ضعفها، وشكَّلت هذه الامتيازات الوثائق التي استندت إليها الدول الأوروبية في تثبيت جاليتها على الأراضي العثمانية، وبخاصة في الولايات العربية، كما اعتمدت عليها للتدخل في شؤون الدولة العثمانية الداخلية”.
وقد استطاعت دولة مثل فرنسا أن تُحدِث اختراقًا خطيرًا لمجال الدولة العثمانية، خاصة بعد مراجعة اتفاقيات الامتيازات التي وقعت سنة (1535)، في أعقاب بعض الحوادث المتفرقة في مصر، وبذلك استطاعت فرنسا أن تحصل من السلطان سليم الثاني عام (1569) على صك من 18 بندًا، استغلته فرنسا وعملت على إرسال “بعثات دينية عدة إلى كافة بقاع الدول التي يسكنها نصارى، وبخاصة بلاد الشام، لتعليم أولادهم وتربيتهم على الولاء لفرنسا”.
ويمكن القول أن الدولة العثمانية وضعت حاجزًا بين سكان المناطق التي تم إخضاعها وبين عناصر السلطة، وهو ما صعب من عملية إدماج السكان ضمن بنية الدولة، خاصة إذا ما علمنا أن عقيدة الاستعلاء العرقي تغلبت على منطق الدولة، والذي يجعل منها حكمًا فوق المؤسسات، وعلى مسافة واحدة من جميع التشكيلات الدينية والسياسية والعرقية.
ورأى بعض المؤرخين بأن إقدام الدولة العثمانية على منح الأجانب مجموعة من الامتيازات كان مدخلًا للتفريط في سيادتها، وكرمًا لم يجدوا له تبريرًا، خاصة وأن معظم الامتيازات تم منحها في أوج قوة السلطنة العثمانية، فكان ذلك مقدمة لتحويل الدول الأجنبية إلى شركاء للدولة العثمانية في الحكم.
في هذا الإطار يرى محمد كرد علي أن منح “محمد الفاتح، مثلًا، الروم امتيازات مذهبية، (أحدَثَ) دولة في دولة، وارتكب خطأ فاحشًا… وهذه العناصر فتحت للأجانب سبيل التدخل في شؤون الدولة الداخلية، فكانوا السبب في انقراضها… ومن أسباب هذه الذهنية المشؤومة الرأي الأخرق القائل بلزوم الإبقاء على صنف من الرعايا يؤدون الخراج للدولة”.
وتعليقًا على هذه النقطة، نستطيع القول بأن الدولة العثمانية غلَّبت المصالح الاقتصادية على واجب الانضباط لصريح النص الديني، وهنا نجد أن آل عثمان تهاونوا حتى في دعوة المسيحيين وغيرهم للإسلام، ولم يجتهدوا في ذلك، رغبة منهم في بقاء شريحة مهمة من الأفراد على ملتهم، وبالتالي تكون مصدرًا مهمًّا لتمويل خزينة الدولة.
إن غياب “منطق الدولة” (بتعبير ريشيليو)، وتفريط الدولة العثمانية في أحد أهم وسائل الضبط والربط الاجتماعيين، جعل المسيحيين يشكِّلون طابورًا خامسًا داخلها، وعيون تعمل لصالح القوى الأجنبية وتأتمر بأوامرها، وتطور الأمر إلى تسليح هذه الطوائف لتتحول إلى تشكيلات عسكرية كانت السبب في قصم ظهر العثمانيين، وهنا تحول الدروز بولائهم لإنجلترا، والمَوارنة لحليفتهم فرنسا “وكانوا يتلقون السلاح من فرنسا، بينما مدَّت إنكلترا الدروز بالسلاح”.
إن التغلغل المسيحي في البيئة الإسلامية نجمت عنه ظاهرة أشد وأخطر، وهي تلك المرتبطة بالصراع المسيحي-المسيحي نفسه، فتحولت المناطق المُحتلَّة من الدولة العثمانية (خاصة في جبل لبنان وسوريا) إلى مسرح لتطاحنات طائفية، خاصة بين البروتستانت والأرثودكس، بتحريض وتجييش من المبشرين المحسوبين على الطائفتين، وما “أن جاء المبشرون البروتستانت إلى سورية حتى وقف رجال المذهب الماروني والمذهب الأرثوذكسي موقف الدفاع الشديد… ولم يكتفِ الإكليروس الماروني بحَثِّ أتباعه على الابتعاد عن البروتستانت، بل إنه كان يحمل أتباعه على اضطهاد أهل المذاهب المسيحية الأخرى، وخصوصًا بعد أن طمع البطريرك الماروني ببسط سلطة زمنية على جبل لبنان”.
وإذا كانت الدولة العثمانية قد استفادت من تواجد التجار الأجانب على أراضيها، واستطاعت الانتفاع بتجربة وأموال اليهود دون تكلفة سياسية باهظة، وبالنظر إلى غياب دولة أجنبية تدافع عنهم أو تناصرهم، فإن هذه السياسة كانت لها تكلفة ثقيلة على المستوى الإستراتيجي، خاصة في العلاقة مع المسيحيين، وذلك مع ظهور أولى مؤشرات ضعف الدولة العثمانية حين “أخذت الدول الأوروبية تتدخل تباعًا في شؤونها، وكانت معاهدة الامتيازات الأجنبية الباب الذي دخلت منه هذه الدول لتحقيق أغراضها”.
وانطلاقًا مما سبق يمكن حصر أهم أسباب تصدُّع الدولة العثمانية في أمرين مرتبطين بالامتيازات الأجنبية، وهما: أولًا: السياسة التوسعية للدولة العثمانية لم تواكبها إستراتيجية وطنية، الهدف منها إدماج سكان المناطق التي تم إخضاعها ضمن بنية الدولة، وثانيًا: نظام الامتيازات الذي حاولت من خلاله الدولة العثمانية تمويل خزينة الدولة، فتحوَّل إلى لعنة عليها من خلال السماح لدول أجنبية بالوصاية على المسيحيين، وبالتالي التأسيس لأولى المجموعات التي ستعلن التمرد، وترفع سلاح الانفصال على الدولة العثمانية.
السماح بوصاية الدول الغربية على المسيحيين في حدود الاحتلال العثماني تحوَّل إلى لعنة قضت على العثمانيين.
- سحر علي وعبد المنعم الأحمد، “نظام الملل في الدولة العثمانية إبان القرن 19″، مجلة جامعة دمشق للدراسات التاريخية، سنة (2022).
- محمد طقوش، تاريخ العثمانيين (بيروت: دار النفائس، 2013).
- محمد فريد بك، تاريخ الدولة العلية العثمانية (بيروت: دار النفائس، 1981).
- محمد كرد علي، خطط الشام، ط3 (دمشق: مكتبة النوري، 1983).