الحملات العسكرية العثمانية على الدولة السعودية الأولى
شكّل تحرير الحرمين الشريفين من طرف حكام الدرعية ضربةً قويةً، وإهانةً بالغةً للباب العالي الذي استنفر جميع ولاته في المنطقة من أجل إعادة احتلال مكة والمدينة، باعتبارهما مركز ثقل العالم الإسلامي الذي يمنح الشرعية الدينية والسياسية لخدام المشاعر المقدسة، ومن ثم فإن القضاء على الدولة السعودية وإعادة وضع اليد على الحرمين الشريفين كانت بالنسبة للسلطان العثماني مسألة وجود غير قابلة للتفاوض أو المساومة.
ويبدو أن رغبة الباب العالي التقت مع أهداف الشريف غالب الذي تطّلع إلى عودة الحجاج من الولايات العثمانية الغنية، إذ أدّى انقطاعهم إلى تضرر التجار الحجازيين الذي كانوا يتقاضون إتاوات على قوافل الحج، ومن ثم تغلبت الأطماع المادية على النوازع الدينية وأسست لتحالف موضوعي بين محمد علي باشا والشريف غالب نال مباركة السلطان العثماني.
ويمكن القول بأن سقوط الدولة السعودية الأولى لم يكن بتلك السهولة التي صوّرتها الأقلام العثمانيةِ الهوى والهوية، وإنما كانت الحرب سجال وسجلت خلالها جيوش الدرعية ملاحم لا تزال تذكرها الكتابات المنصفة التي سنعرض لبعضها حسب السياقات الزمنية لوقوعها.
معركة وادي الصفراء:
تعتبر معركة الصفراء التي اندلعت بين السعوديين والجيوش العثمانية سنة 1812م من أعظم الملاحم التي سطّرها العرب في مواجهة الاستعلاء والغطرسة العثمانية وقدمت من خلالها جيوش الدرعية لوحات بطولية في الدفاع عن الدين وعن حوزة بلاد الإسلام والمسلمين.
مقدمات المعركة تميزت بنزول العثمانيين بقيادة طوسون باشا سواحل ينبع على رأس 10 آلاف مقاتل من المرتزقة الذين استقدموهم من المناطق العربية المحتلة بهدف إعادة احتلال المدينة المنورة. وفي المقابل، علمت جيوش الدرعية بتقدم الجيوش الغازية فتحركت إليهم ليلتقي الجمعان في منطقة وادي الصفراء حيث دارت معركة حامية استبسل فيها الجيش السعودي بقيادة الأمير عبد الله بن سعود ومسعود بن مضيان وجابر بن جبارة وقيادات عسكرية سعودية من الصف الأول.
قاد الدهاء السعودي الأمير عبدالله إلى إعطاء الأوامر بحفر خندق كبير لمنع تقدم جيش المرتزقة، ثم اتخذ له مواقع على المرتفعات التلية المحيطة بالمكان لضبط تحركات العدو ومن تم تفرّقت الجيوش السعودية على ثلاثة مواقع، فيما يشبه استراتيجية “الشباك” وهو ما وضع الجيوش العثمانية بين فكي الكماشة بعدما استدرجهم إلى عمق الوادي ليهجم عليهم من ثلاثة اتجاهات أفقدت الغزاة توازنهم في ثلاثة أيام وعجلت بهزيمتهم تاركين وراءهم أكثر من خمسة آلاف قتيل بعُدتهم وعتادهم.
معركة التربة الأولى:
بعد سقوط الحرمين الشريفين، ارتأى الجيش السعودي التراجع نحو الأراضي النجدية لأنهم يحفظون مسالكها، ويستطيعون مواجهة قوات والي مصر في مسارح عمليات مختلفة وبعيدًا عن نقاط تموينها وخطوط مواصلاتها، ومن ثم القضاء عليها والاستعداد لاسترجاع الأراضي الحجازية.
وتجدر الإشارة إلى أن معركة تربة الأولى تمثل ذكرى استثنائية في المُخيلة الجماعية للمجتمع السعودي بالنظر إلى الدور الحاسم الذي لعبته إحدى الرموز النسائية، وتدعى غالية البقمية، التي لقّنت جيوش الاستعمار دروسًا في فنون القتال والتضحية بالغالي والنفيس وأثبتت بأن المرأة العربية لا تقل شجاعة ودهاء عن الرجل، خاصة عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن حوزة الأوطان والتفاني في الولاء للسلطان.
وتُعد معركة تربة الأولى من الملاحم العظمى التي سطرّتها جيوش الدولة السعودية بقيادة فيصل بن سعود في مواجهة الجيوش المصرية بقيادة مصطفى بك أمير ركب الحجاج، الذي كان مسانَدًا من بعض القبائل التي نقضت البيعة وتحالفت مع الأتراك، وحسب رواية الجبرتي فقد استمرت معركة تربة الأولى ثمانية أيام وانتهت بهزيمة مذلة لمصطفى بك، إذ لم يظفر بشيء من هذه الحملة إلا الهزيمة والمهانة التي عجلت باستدعائه إلى مصر.
معركة تربة الثانية:
بعد نكسة التربة الأولى، أرسل محمد علي باشا، نهاية أكتوبر 1813م، ابنه طوسون باشا من الطائف للاستيلاء على تربة وإعادتها إلى حكم آل عثمان، وبعد حصار دام أربعة أيام، رافقه قصف شديد بالمدافع، فشلت الحملة في اقتحام أسوار المدينة بسبب الاستعداد الجيد للجيوش السعودية وسوء التدبير الحربي لطوسون باشا الذي أنهك جنوده في الطريق في المعارك ضد العتبان ونجاح جيوش الدرعية في تحويل التكتيك الدفاعي إلى آخر هجومي فاجأ الجيوش المصرية وألحق بهم خسائر فادحة دفعتهم إلى الهرب مخلفين وراءهم العديد من القتلى والخيام والمؤن.
معركة بسل:
دفعت الخسائر الكبيرة التي تلقّتها جيوش محمد علي باشا بهذا الأخير إلى إعادة تجميع قواته في جدة، إذ عكف على تدريبها مدة ثلاثة أشهر كاملة من أجل تحضيرهم للمواجهة المقبلة ضد القوات السعودية، التي ستندلع رحاها سنة 1815م في منطقة بسل، وتكمن أهمية بسل في اعتبارها موقعًا استراتيجيًّا يتوسط خطوط الإمداد والمواصلات التركية، وكانت نتائجها سترخي بظلالها على الدولة السعودية الأولى وأيضا على سلطان الوالي العثماني في مصر الذي اعتبر بأن خسارة هذه المعركة يعني نهاية حكم سلالته في مصر.
ورغم أن الكفة رجحت أولا لفائدة الجيوش السعودية الذين ألحقوا بالجيوش العثمانية خسائر كبيرة دفعت محمد علي باشا شخصيًّا إلى قيادة تعزيزات أخرى في اتجاه بسل، إلا أن عدم انضباط بعض الجنود واستعجالهم النصر جعلهم يقعون في الفخ الذي نصبه لهم محمد علي باشا حين استدرجهم إلى السهول من خلال مناورة الانسحاب ليعود ويقوم بعملية التفاف واسعة نجحت في خلق ارتباك في المعسكر السعودي، واختراق أحد أجنحة جيوش الدرعية (جهة زهران وغامد) وإيقاع الهزيمة بجيش فيصل بن سعود الذي عاد إلى تربة على أمل إعادة تجميع قواتها إلا أنه وجد بأن القوم انفضوا وتفرقوا بعد المعركة.
إجمالا يمكن القول بأن جيوش الدرعية وقفت سدًّا منيعًا أمام الحملات المتكررة للجيوش العثمانية، إلا أن امتلاك محمد علي أهم سلاح في الحرب آنذاك وهي المدفعية، والإمكانيات الرهيبة التي استخدمها لاستمالة بعض القبائل العربية أدت إلى هزيمة الدولة السعودية الأولى أمام العثمانيين.
غير أن صفحات التاريخ تخبرنا بأن المواجهات بين الطرفين لن تقف عند مذابح العثمانيين في بسل والدرعية وغيرها بل ستستمر الملاحم العربية الرافضة والناقمة على الاستعمار العجمي للمنطقة بجميع أشكاله، وسيحمل لواء المواجهة جيل فريد أبى أن يضع السلاح قبل طرد آخر محتل عثماني من جزيرة العرب.