الدولة العثمانية والتصوف الباطني

تخلق الجغرافيا التاريخية تأثيراتها بعيدة المدى في تاريخ الدول والممالك ونشأة المجتمعات الإنسانية، ومن هنا جاء القول: “الإنسان ابن بيئته التي نشأ وترعرع فيها”، ومن هذا المنطلق نشير إلى أن قبائل الأتراك البدوية التي قد ارتحلت من آسيا الوسطى إلى جهات الاناضول في آسيا الصغرى تحت وطأة الغزو المغولي، فقد كانت في آسيا الصغرى التي تعد المعقل الأول للتصوف في العالم الاسلامي ومنها خرج كبار المتصوفة أمثال؛ المتصوف التركي أحمد اليسوي ت (562ه/ 1167م)، الذي تنسب إليه الطريقة اليسوية، التي هي عبارة عن اندماج غريب بين الثقافة البوذية، والشامانية القديمة، والمانوية قبل الاسلام، وتقوم على الاعتقاد بوحدة الوجود، وتدثرت بالإسلام تحت الغطاء الصوفي القلندري أي بالمسلك القلندري، الذي اتخذ من التجرد والفقر والتسول والملامة شعارا له والتعري والاستخفاف بالتكاليف الشرعية والأعراف الاجتماعية.
وقد امتدح المؤرخ التركي الدكتور كوبريلي “أحمد اليسوي” بقوله: “لم يكن صوفياً عادياً مثل مئات الصوفيين في التاريخ التركي، بل عندما يذكر أحمد اليسوي يذكر اعتناق الشعب التركي للإسلام”؟!. وعلى العموم انتشرت هذه الطريقة بشكل كبير بين أن قبائل الأتراك البدوية في آسيا الوسطى كان محيطها غزير يكتظ بالطرق الصوفية المختلفة. وارتحلت تلك القبائل منها وهي تحمل مثل تلك الطرق الصوفية ومسالكها. ومن هنا يمكننا القول إن التصوف في الدولة العثمانية هو امتداد طبيعي للتصوف في آسيا الوسطى باعتبارها منشأ الأسلاف للعثمانيين، إضافة إلى أنه امتداد للتصوف في دولة سلاجقة الروم باعتبار أن الدولة العثمانية ورثتها وورثت معها الطرق الصوفية المنتشرة والموجودة لديهم، فعهد السلاجقة الروم يمكن اعتباره العهد الفعلي لتأسيس الطرق الصوفية في الأناضول خاصة بعد الغزو المغولي، فقد قدم إليها كثير من المتصوفة والأدباء والشعراء مما جعل مدن السلاجقة كقونية، وقيصرية، وسيواس تتحول إلى أشهر مراكز التصوف آنذاك، ومن أبرز من قدم إليها شهاب الدين أبو الفتوح السهروردي ت(587ه/ ش1191م)، ومحي الدين ابن عربي ت( 638ه/ 1240م) ، وغيرهم كثير من مشاهير التصوف الذي امتلأت بهم الأناضول ، الذين اسهموا في زيادة الطرق الصوفية وانتشارها ووجدت أنصارًا ومريدين لها ، ولكن ابن عربي كان أكثرهم تأثيرًا بفكره الصوفي في الفكر التركي العثماني من خلال تلاميذه الذي تأثروا به ونشروا فكره من خلال الشروحات والمؤلفات والتحقيقات لأفكاره وكتبه، ولعل من أبرزهم صدر الدين القونوي ت ( 672ه/ 1274م)، وبذا أخذ الفكر الصوفي التركي بالتطور التدريجي بعد سيطرة العثمانيين على أملاك دولة السلاجقة وأراضيها.
ومنذ قيام الإمارة العثمانية والطرق الصوفية كانت تمثل مكون رئيس في المجتمع التركي، فيمثل مشايخ الطرق القوة النافذة على حياة المريدين، ورغبة الدولة في الاستفادة من تلك القوة في دعم وجود الإمارة الناشئة من أجل التوسع في وضم الأراضي الحدودية الجديدة، ولذا كانوا تحت عناية واهتمام الأمراء والوجهاء وأصحاب النفوذ، الذين أوقفوا عليهم العقارات وبنوا لهم التكايا والزوايا في مختلف ولايات الدولة، بل وأكدوا على ضرورة احترام مشايخ الطرق وخصصوا لهم الرواتب والنفقات المالية عليهم وعلى تكاياهم. وبذا اكتسب رجال الطرق الصوفية في الدولة العثمانية المكانة الاجتماعية المرموقة والنفوذ السياسي. ومن يقرأ التاريخ العثماني بتمعن سوف يجد أن معظم السلاطين حرصوا على إحاطتهم بمثل أولئك من الشيوخ المتصوفة بدءًا من السلطان عثمان بن ارطغرل وانتهاءً بالسلطان عبد الحميد الثاني، وشكلوا بذلك نوع من النفوذ المباشر وغير المباشر في نسيج السلطة والإدارة في الدولة.
وعلى كل حال فان الفرق الصوفية في الدولة العثمانية انقسمت إلى قسمين اثنين أولهما؛ الفرق الصوفية المشهورة مثل الطريقة النقشبندية، والمولوية، والخلوتية، والتي بدورها كانت تستقطب الشرائح العليا من طبقات المجتمع العثماني. وأما القسم الآخر وهو الأخطر والأكثر تأثيرًا في المجتمع والدولة ألا وهي الطرق الصوفية الباطنية المعروفة باسم “الملامية” ، فهي لها عبادات سرية وباطنية وأتباعها من الدراويش المتجولون والمعروفون بالقلندرية، والابدال، والحمزوية والذين اعتمدوا العيش في السر والخفاء. ومن التيار القلندري برزت للوجود الطريقة البكتاشية، والتي هي من أخطر تلك الطرق الصوفية قاطبة، فهي طريقة صوفية شيعية نشأت في القرن الثالث عشر الميلادي، على يد الحاج بكتاش ولي ت( 738ه/ 1338م) من أتراك آسيا الوسطى والذي يعتبر من المتصوفة الروحانيين وقدم إلى الأناضول وارتبط بالطريقة البابية المنحرفة، ونشط بدعوته الباطلة في المناطق التي تقيم فيها القبائل التركمانية و جماعات نصرانية، وأقام علاقات قوية معها معتمدًا على بنية التصوف المتقبلة لجميع الأديان بأن ينظموا للطريقة البكتاشية مع الحفاظ على دينهم وملتهم الأصلية، مما أسهم في انتشار هذه الطريقة في بلاد البلقان.
والواقع أصبحت الطريقة البكتاشية من أهم الفرق الصوفية، فقد استوعبت كثير من الطرق الأخرى وانتشرت بين طبقات الشعب على نطاق واسع بفضل اعتمادها على اللغة التركية البسيطة وتركيزها على العامة والبسطاء من الأتراك . وبأن خطرها عندما ادعت زورًا وبهتانا أنها طريقة سنية على منهج السلف الصالح لأهل السنة والجماعة وهم يبتعدون كل البعد عنهم فهم يتفقون مع ابن عربي في وحدة الوجود والمغالاة في حب آل البيت بل ادعاء الألوهية لعلي بن ابي طالب وعقيدة تناسخ الأرواح فهم ليس لهم علاقة بصحيح الإسلام. وظهر خطرها أيضا أكثر من ذي قبل عندما أصبحت تُدعم من قبل السلاطين في الدولة العثمانية، وشكلوا منهم جيش الدولة العثمانية الجديد “الإنكشارية” ، ولو استعرضنا عناية السلاطين بهذه الفرقة الباطنية الخبيثة لكبرت لدينا علامات الاستفهام والتعجب من دولة تدعي حماية الاسلام.