العثمانيون والأحساء

سقوط إمبراطورية الرجل المريض بدأت من نجد

شكَل استرجاع الأحساء وإعادة ضمها إلى حاضنة الدولة السعودية، ضربة قوية وإهانة لإمبراطورية الرجل المريض بالنظر إلى الطريقة والكيفية التي استعاد بها الملك عبد العزيز آل سعود هذا الجزء من الوطن، حيث تُجمع الكتابات أن حجم القوات السعودية لم يتجاوز آنذاك 600 مقاتل، في مواجهة ما يزيد عن 1200 عنصر من الجيش التركي.

ولعل الصدمة التركية لم تقف عند هذا الحد، بل تجاوزتها إلى افتقاد أي مسوغ شرعي أو شعبي لاستمرار حالة وضع اليد، وذلك عندما عبّر القبائل ومجموع الأهالي عن تعلقهم ببيعتهم لأسرة آل سعود بعد اشتراط المتصرف العثماني التعبير الشعبي الصريح على الرغبة في الاندماج في الدولة السعودية، وهو ما وافق عليه الملك عبد العزيز ليقينه في وفاء وولاء أهالي الأحساء للدولة السعودية.

إن التعبير السياسي الذي أعلن عنه سكان الأحساء، سيشكل مصدر إلهام للمنظمات الدولية التي سترفع مثل تلك التعبيرات إلى مستوى التعاقدات السياسية التي تعترف بانتماء المنطقة إلى حاضنتها السياسية، هذا المُعطى سيتم اعتماده في الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد حوالي ستة عقود من هذا التاريخ، حيث نص القرار 1541 (15 ديسمبر 1960) على أن إرادة السكان في الاندماج ضمن سيادة الدولة يتم التعبير عنها صراحة من خلال صياغات حرة تعكس قناعتهم بالتغيير الحاصل في وضعهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

غير أن هذا الوضع السياسي الطبيعي، لم يكن ليرضي العثمانيين الذين رأوا في استقلال الأحساء انتكاسة للمشروع التركي في المنطقة، خاصة أن الأحساء كانت توفر لهم عائدات مالية مهمة بالإضافة إلى موقعها الجغرافي المتميز الذي جعل منها بوابة للانطلاق نحو باقي مناطق الخليج العربي.

أمام هذا التحدي السياسي والشعبي، ستحاول الدولة العثمانية إعادة بسط سيطرتها على الأحساء خاصة أنها رأت في سقوطها ارتدادات خطيرة على نفوذها في المنطقة، وهي الارتدادات التي قد تصل إلى اليمن والحجاز  وربما امتدت إلى خارج الجزيرة العربية، ولقد شجّع العثمانيين على هذه الخطوة التقرير المطول لمتصرف الأحساء المطرود، نديم باشا الذي وجهه إلى الصدر الأعظم وإلى وزارتي الدفاع والداخلية.

من خلال متن التقرير، رسم نديم باشا صورة وردية حول خطط إعادة استعادة الأحساء، موهمًا الباب العالي بأن الوضع الداخلي في الأحساء يعيش حالة من الغليان والانشقاق وعدم استقرار منظومة الضبط والربط بين الأسرة الحاكمة وسكان المنطقة، وهي الشروط الذاتية والموضوعية التي اعتبرها نديم باشا ناضجة للركوب عليها من خلال محاولة استمالة مجموعة من الأعيان ورموز المنطقة لإخضاع سلطان ابن سعود وإعادة الأحساء إلى الحكم الاستعماري العثماني المباشر.

إن الأطماع العثمانية في الأحساء كان يلزمها إعادة قراءة للبيئة الاستراتيجية الجديدة خاصة بعد فشل محاولات صد قوات الملك عبد العزيز، وأيضا محاولات استعادة القطيف وعقير، دون إغفال سكوت بريطانيا وغض الطرف عن محاولات العثمانيين الفاشلة الانطلاق من البحرين لإعادة إخضاع الأحساء، وهو ما دفع بالملك عبد العزيز إلى الاحتجاج على الشيخ عيسى وكذا المقيم البريطاني في الخليج موضحًا أنه يريد فتح صفحة جديدة من التعاون مع بريطانيا التي أرادت أن توجه رسالة إلى الملك عبد العزيز بن سعود، لصرف النظر عن أية مشاريع للتقدم من الأحساء نحو المناطق الساحلية.

على المستوى المركزي، دفعت الضرورة الملحة لإعادة احتلال الأحساء كلاًّ من وزير الداخلية العثماني طلعت باشا ووزير الحربية أنور باشا إلى الانخراط الشخصي في توجيه المجهودات لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، وهنا لجأ الأتراك إلى الأساليب الكلاسيكية في تأليب بعض المعارضين وبعض رموز المنطقة ضد الملك عبد العزيز فوجدوا في عبد العزيز بن الرشيد حليفًا موضوعيًّا لتنفيذ مخططاتهم لاسترجاع الأحساء.

ويمكن القول بأن مخططات طلعت باشا وأنور باشا قد وجدت هوى عند مجموعة من الشخصيات التي رأت في تزايد نفوذ الملك عبد العزيز تهديدًا مباشرًا لنفوذهم ووجودهم، فمالوا إلى اتجاه الأطروحة العثمانية رغم أن الملك عبد العزيز عاملهم في العديد من المواقف بالحسنى ومدّ لهم يد الدعم والمساعدة، إلا أن طباع البعض تغلب على تطبُّعهم خاصة ممن اخترقت خيانتهم أجسادهم وجرت منهم مجرى العروق والدماء ووصلت إلى الأمخاخ.

إن قوة الملك عبد العزيز والتفاف أغلب القبائل بأهداب الدولة السعودية الثالثة، دفعت الأتراك إلى استبعاد الحل العسكري، مبدئيًّا، ومن ثم قامت بتقديم عرض للحاكم الجديد للدولة السعودية بالموازاة مع تحييد مشاريع ابن الرشيد وإخباره، من طرف سليمان باشا، بعدم نيتهم التعاون معه عسكريًّا لإخضاع سلطان الحاكم السعودي الجديد.

وتبدو خطوط المقترح العثماني واضحة في ضمان ولاء الملك عبد العزيز للدولة العثمانية، مقابل أن يتمتع بحكم ذاتي موسع تحت السيادة التركية، وهو ما لخصته المقترحات التي حملها طالب النقيب (المتصرف السابق للأحساء) والتي تتضمن:

  • إيجاد أرضية لحل سلمي توافقي.
  • أي حل يجب أن يكون تحت مظلة “الخلافة الإسلامية”
  • العمل على الحفاظ على وحدة الأمة.
  • تفادي المقاربة العنيفة في حل الخلاف.

 

على ضوء التوجه العثماني الجديد، سيتحرك الوفد إلى الكويت ومنها إلى الصبيحية حيث مقر إقامة الملك عبد العزيز، حيث رفض الأخير الدخول في أية مفاوضات مباشرة قبل أن يعرف ويطَّلع على نوايا الأتراك تجاه مشاريع ابن الرشيد، حيث طمأنوه بعدم وجود أية نية للتنسيق مع هذا الأخير وبأن الأمور حُسِمت في اتجاه تبني اتفاق معه فقط يكون ملزمًا للطرفين.

إن الاتفاق السعودي العثماني كان حاسمًا في صرف الملك عبد العزيز  بن سعود إلى مشاريع استكمال توحيد قبائل الجزيرة العربية، في الوقت الذي تكفلت الظروف الإقليمية والدولية بإنهاء آخر مظاهر الاحتلال العثماني لجزيرة العرب.