العثمانيون والطباعة..

حرام على المسلمين حلال على اليهود والمسيحيين

الطباعة (أو إعادة النسخ) سيكون لها دور ثوري في نشر الكتب والعلوم، وتسهيل المراسلات والأخبار، وتعميم العلم والمعلومة، وإيصالها إلى أقاصي الأقطار، ولقد كان للألمان السبق في هذا المجال منذ صناعة أول آلة للطباعة على يد يوهان غوتنبرغ عام 1440م، لتتطور بعد ذلك بالتزامن مع تطوُّر العلوم والتقنيات، ولتكون اليوم إحدى الاختراعات العادية التي لا يكلِّف المرء نفسه عناءَ البحث في أصولها أو جذورها.

إن الأمانة التاريخية والعلمية تجعلنا نعترف بأن بعض المسلمين لم يتعامَلوا دائمًا مع التكنولوجيا بمقارَبة إيجابية كان من الممكن أن تجعلهم في مصافِّ الدول التي تقود العالم حاليًّا، وبدعوى الحرص والتحوط تجنَّبوا الاحتكاك ببعض العلوم؛ مخافةَ أن يمس ذلك قدسية النص الديني وعذرية النصوص الشرعية.

وارتباطًا بنقطة البحث تعامَل سلاطين الدولة العثمانية بنوع من التوجس الذي بلغ حد الرعب مع آلة الطباعة، وهو ما دفعهم إلى  تحريم استعمالها أو تداولها، وهو ما أثَّر على التقدم العلمي في دولتهم، وأيضًا في المناطق العربية التي تحمَّلت ثمن هذه الجريرة التي ارتكبها حكام الدولة العثمانية.

وتذهب بعض الأقلام إلى أن سلاطين الدولة العثمانية كانوا يعلمون بأن تاريخهم تشوبه مجموعة من الشوائب، وهو ما جعلهم يستميتون في حماية السلطة من وعي الشعوب، وهنا أجرمت الدولة حين اعتبرت بأن الفقر والجهل هما أهم أركان استقرار واستمرار السلطنة العثمانية.

في هذا السياق أصدر السلطان العثماني بايزيد الثاني سنة 1485م فرمانًا يُحرِّم الطباعة على رعاياه المسلمين، وبالمقابل سمح بذلك للمسيحيين واليهود شريطة عدم استعمال الحروف العربية في الطباعة.

إن استغلال منصة الفتوى الدينية من أجل مآرب السلطان والحكم، يؤكد بأن سلاطين الدولة العثمانية كانوا دائمًا يستغلُّون المُعطَى الديني من أجل أهداف السياسة، وهو ما دفع السلطان العثماني مراد الثالث سنة 1588م إلى الضغط من أجل استصدار فتوى بتحريم الطباعة على الرعايا المسلمين واستثناء غيرهم.

ومهما كانت النقاشات وتبادُل التبريرات حول تحريم الطباعة داخل الدولة العثمانية، فإن ذلك أثَّر على الدول العربية التي شملتها الفتوى، وهنا يقول د. عبد الرزاق محمد الدليمي: “وقد تأخَّر العالم العربي في معرفة الطباعة بطرقها المختلفة؛ لعدة أسباب، في مقدمتها الحصار الذي فرضه العثمانيون على العالم العربي بشكل فرض عليه العزلة لسنوات طويلة، الأمر الذي انعكس بالسلب على مختلف جوانب الحياة في العالم العربي، فسَادَ التخلف والجهل، فضلًا عن عدم اهتمام وإيمان العثمانيين أنفسهم بدخول الطباعة وأهميتها لنهضة الشعوب، خاصة بعد المرسوم العثماني الذي اعتبر الطباعة “رجسًا من عمل الشيطان”.

ويبدو أن حرمان العالم العربي من الطباعة قد انضاف إلى مسلسل الإهمال والتهميش الذي أصاب محيط الدولة العثمانية، وجعله يقبع في مستنقعات الجهل والتخلف والحرمان، وهو ما يعتبر في نظرنا إجرامًا في حق هذه المناطق التي شهد لها التاريخ بالسبق في مجال النسخ التقليدي، وتصدير العلوم إلى جميع بقاع الدنيا من الشرق الإسلامي إلى غربه.

لقد برَّر سلاطين الدولة العثمانية تحريم الطباعة بضرورات الحفاظ على سلامة وصحة النص القرآني، وهو ما يصطدم مع حقيقة دوافع المنع، هذا المعطى دفع بعض المؤرخين إلى الرد على هذا الادعاء بالقول: “لو كانت الحجة خوفًا من تحريف القرآن الكريم، كما أشاعوا، لكان اقتصر الأمر على استبعاد طباعة القرآن الكريم، لا أن يطال المنع الكتب الدينية، أو على الأقل لا يطال المنع كتب المعارف الدنيوية، ككتب الطب والرياضيات والعلوم الأخرى، فذلك من شأنه أن يجعلها متوفرة وأرخص مقارنةً بالكتب المخطوطة، لكن المنع كان خوفًا من أن تحرِّض العامة وأبناء الفقراء أن تتعلَّم وتطَّلع على ما لدى الشعوب الأخرى بخط عربي. (حليمة مظفر “تحريم المطبعة باستثناء اليهود.. جريمة العثمانية”).

ويمكن القول بأن منع الطباعة في قبل الدولة العثمانية وأطرافها قد أثَّر على الإمبراطورية، ومنعها من أسباب التطور والارتقاء في العلوم العسكرية والصناعية وتطوير المنظومة الاقتصادية، وبسبب هذا التشدُّد “المُسيّس” بقي العثمانيون متخلِّفين مقارنةً مع الغرب الذين امتلكوا وسائل القضاء على العثمانيين وبداية زوال ملكهم منذ القرن 19م.

لقد ابتُلي العالم الإسلامي بخطرَين أساسِيَّين ساهَمَا في تأخُّر مؤشرات العلم والتنمية في مجتمعاتنا الإسلامية؛ الخطر الأول مرتبط ببعض الأنظمة الشمولية، التي رأت في التفقير والجهل مفاتيح أساسية في عملية الضبط الاجتماعي والسياسي، وهو ما تعبِّر عنه المقولة المأثورة “جَوِّع كلبك يتبعك”.

 والخطر الثاني هو صنيعة أهل التزمُّت والغلو الذين اعتبروا كل ما يأتي من الغرب هو من عمل الشيطان الذي يجب الابتعاد عنه، بل وهناك مَن رفض قراءة الكتب والمؤلَّفات العلمية والفلسفية بمبرِّر “حسبنا كتاب الله وسُنَّة رسوله”، وما تواتَرَ عن السلف الأول من المسلمين، وهو في نظرنا عين الإفلاس وقمَّة الجهل بعظمة الإسلام الذي جعل العقل مناط التكليف، ولذلك قال المولى عز وجل في محكم التنزيل {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] صدق الله العظيم.

إن من أفتوا بتحريم الطباعة والتلغراف والراديو وقراءة الكتب بمبرِّر التحوط والاكتفاء بما تحصَّل من علوم مَن سبقونا، كانوا سببًا في إيقاف الزمن لقرون وكأنهم ينعون الأمة ويحجرون على العقل المسلم، والحق والصواب أنه لكل زمن رجاله، وتنشأ في الحياة مسائل ونوازل لم توجد من قبل، وللأسف فإن هذا الغُلُوَّ قد كان سببًا في مجموعة من المواجهات التي ذهبت بأرواح عزيزة، وكان سببها فهمًا شاذًّا للنص الديني الذي أكَّد أن العلم والمعرفة هي مفاتيح فهم علوم الأرض والسماوات، مصداقًا لقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] صدق الله العظيم.