العثمانيون والصفويون
أقاموا المجازر ضد الشعب الكردي
ارتبطت سياسة المرابطة على الثغور منذ بداية الفتوح الإسلامية مع القوى المحيطة بالعالم الإسلامي، بشعارات عقائدية وسياسية جمعت كافة التيارات الفكرية والدينية التي اخترقت نسيج المجتمع الإسلامي، على اختلاف الطبقات والمجتمعات ومذاهب الناس ومواقعهم الاجتماعية، تلك الخلفية التي ضمت أهدافًا سلمية، اتخذها من جاء بعد حقبة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، في تحقيق مقاصد غير سامية تلوّنت بألوان الشرعية الزائفة بغرض امتلاك البلاد والعباد دون وجه حق، باعتبار أنهم ينهضون بأدوار عامة تساهم في صون الأمة الإسلامية.
تلك الأهداف التي حرّفها العثمانيون للمسلمين، وأوهموا أنفسهم ومن حولهم بأن لهم حق امتلاك كل ما يجاور حدودهم بفضل نفوذهم الفكري والسياسي، حيث حاولوا حتى نجحوا في السيطرة على المكونات الاجتماعية، لممارسة أدوار تحمي نظامهم الفاشي أمام المدنيين، وأيضا كي تقنع دول أوروبا الكبرى، بمشاريعهم الاستيطانية التي احتلوا بها دول المسلمين لنحو خمسة قرون.
وبقدر ما تتكيف وتثار النعرة العصبية للعرق يصبح التجبر ضد الأعراق الأخرى أمرًا لا مفر منه، وبتعبير آخر “الخصوصية السياسية” التي اتخذتها الدولة العثمانية لتمجيد نسل سلاطينهم وتقديس أسرتهم، وأنها هي المخولة لقيادة العالم الإسلامي وما جاوره، حيث وجدوا أنفسهم منخرطين ضمن مسار سياسي للنشوء والمحافظة على الهيمنة العالمية لدولتهم.
تاريخٌ طويل من المجازر التي ارتكبها العثمانيون في حق بعض القوميات التي كانت ضمن حدود استعمارهم، ولم تكن مجازرهم ضد العرق الكردي حديثة بارتكابها في القرن التاسع عشر باعتبارها الأشهر والأقرب للذاكرة الحيَّة، ولكنها ابتدأت منذ مطلع القرن السادس عشر، فمنذ ذلك الحين وضح جليًّا استغلال الترك للكرد.
إذ استغل العثمانيون اتفاقهم مع الأكراد مذهبيًّا لدفعهم إلى مواجهة المد الصفوي، وجعلوهم ورقة يجازفون بها في علاقتهم مع الصفويين، فسليم الأول سلك مسالك متنوعة لفرض هيمنته على الكرد، منها بدء العلاقة وإظهار طيب النوايا حينما فوّض القائد الكردي الشهير إدريس البدليسي؛ لتوحيد الكرد، ولم يطلب من الأكراد ضرائب؛ لأنها البداية، وترك لهم حرية تكوين جيوشهم.
لكن حب الانتقام والدموية التي اشتهر بها سليم الأول ظهرت بعد انتصاره على الصفويين، لذلك عمد إلى قتل عدد كبير من جنود الإنكشارية لامتناعهم عن المشاركة في قتال جهات وأطراف شرق الدولة العثمانية، بسبب أن أهلها على مذهب أهل السنة (الأكراد)، ذلك حينما أغار سليم الأول على قلعة كوماش، وإمارة ذي القادر الفارسية، وقتها أمر بقتل قاضي العسكر جعفر جلبي لأنه كان من أكبر الداعمين لتجنب المشاركة الدموية في القتال لتلك الجهات. وبعد سلسلة من الإرهاب العثماني على يد سليم الأول، عمد إلى بث الرعب والقتل المبين لجموع غفيرة من الأكراد، بهدف إخضاع الأكراد تمامًا لسلطته وإدخال أراضيهم في حدود دولته، ومنها ماردين وأوروفة والرقة والموصل وديار بكر، بجانب كافة قبائل الكرد دون استثناء على أن يبقى الحكم تحت رؤساء القبائل، ولم تكن تلك الطاعة إلا قهرًا لحقن دمائهم من شر سليم الأول.
سليم الأول قتل جزءًا كبيرًا من جنوده حين امتنعوا عن إقامة المذابح ضد الأكراد.
تحولت كردستان إلى ساحة حرب دموية بين العثمانيين والصفويين، وفي عام (1550) تعرضت الحواضر الكردية إلى دمارٍ شامل نتيجة الصراع المرير بين قوتين متناحرتين، بينما كانت الحقيقة أن كلاً منهما كان يستولي على قسم من الأراضي المعمورة بساكنيها من الأكراد.
خلال الفترة (1514-1566)، حتى نهاية حياة سليمان القانوني، تعرض الكرد لعقوبات جزئية نالت بعض أمرائهم، فقد كان للاتفاق الشامل الكردي-التركي في جالديران صدى كبيرًا خلال سنوات حكم القانوني، وتأثيره واضطهاده الكبيرين، ومن ضمن أعماله خرق الاتفاق حين عزل أميرًا كرديًّا وعيّن محله آخرًا من غير ورثته في مد بدليس.
وفي عهد مراد الثالث بعد سنة (1574) تحولت الديار الكردية إلى هدف مستمر للغارات الصفوية عامًا بعد آخر، خاصةً خلال الهدنة بين الصفويين والعثمانيين. خلال ذلك تراجعت الحياة العامة في كل مناحيها في الأراضي الكردية، ومنها توقف العمران جراء الحملات المتتالية، ومقتل عدد كبير من الكرد في كل حملة بمجازر تاريخية تغافل عنها كثير من المؤرخين.
غض العثمانيون الطرف كثيرًا عن اجتياح الصفويين أراضي الأكراد، وتخلوا عن مسؤوليتهم التي يدعونها في الدفاع عن كردستان أمام الصفويين، ففي أثناء الهجمات الصفوية كان جنود الدولة العثمانية يختفون، ولا يظهرون إلا حينما يقرر السلطان العثماني الانتقام من الأكراد بإرسال كتائبه بغرض التأديب وردع المتمردين فقط.
في وقت صعب، أهمل العثمانيون الأكراد فوقعوا بأيدي الصفويين.
تعرض الأكراد لعددٍ كبير من المجازر التي قامت بها الدولة الصفوية ضدهم، منها ما حدث في قلعة دمدم ومجزرة البراد وستين، وقعت الأولى في زمن السلطان العثماني أحمد الأول، حيث استغاث الأكراد دون جدوى، وتكرر الحال في مذبحة دمدم الأولى، ثم مجزرة دمدم الثانية، ففي عام (1618) دخل الطرفان العثماني والصفوي في بازار حول الكرد، الذين يفترض أن سنّيتهم تضمن لهم أفضلية لدى بني عثمان. ويعلق محمد أمين زكي في “خلاصة تاريخ الكرد وكردستان” على ذلك بالقول: “وأخيرًا في ديسمبر 1618 انعقد الصلح للمرة الثانية بين الدولتين، وفي أثناء مذكرات الصلح عمد الشاه عباس إلى نقل 15 ألف أسرة كردية وإجلائها إلى بلاد خراسان للاستعانة بهم على التركمان ومنعهم من التسلط على الحدود الإيرانية في الشرق الشمالي”. وهذا القسم من إيران، أي خراسان، على حدود تركمانستان وقرغيزستان، مأهول بالكرد بكثافة إلى اليوم”.
دفع أمراء الكرد وشعبهم ثمن الحرية في محاولاتهم الوقوف في وجه جيش يفوقهم في العدة والعتاد، فضلاً على أن الاتفاق الكردي-التركي الموهوم نتجت عنه آثارٌ سيئةٌ، قيّدت به الدولة العثمانية بطريقة صارمة نمو أي إمارة كردية مركزية لمنعهم من تكوين جيشٍ مستقلٍ للدفاع عن أنفسهم أو العمل على تأسيس الإدارة لمرافق إماراتهم الممنوحة لهم ظاهريًّا بأنهم أمراء عليها، ونتج عنه بقاء حدود الإمارات الكردية شبه المستقلة محدودة في إمكانياتها، ولا تتوحد تحت راية غير راية بني عثمان، بينما كانت الضرائب ترهق كواهل الأمراء والمواطنين، دون امتلاك حق التخفيف وليس الرفض.
- حياة مناور الرشيدي، الإرساليات التنصيرية الأمريكية في الدولة العثمانية، (القاهرة: دار الراية للنشر، 2015م).
- عبدالحميد الثاني، مذكراتي السياسية، ط2 (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1979م).
- محمد حسين خلف تبريزي، فرهنك فارسي برهان قاطع (طهران: انتشارات نيما، 1379هـ).
- محمد فريد بك المحامي، تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي (بيروت: دار النفائس، 1983م).
- محمد مختار باشا، التوفيقات الإلهامية في مقارنة التواريخ الهجرية (القاهرة: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980م).
- عبدالعزيز الشناوي، الدولة العثمانية (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1986م).
- علي تتر توفيق، “الشاه عباس الصفوي ومجازره بحق الكرد”، مجلة جامعة دهوك، المجلد 20، العدد 2، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، قسم التاريخ، (2017م).