العثمانيون والصهيونية.. حبٌ من طرف واحد!

كان سقوط غرناطة عام 1492م، مروعًا ومؤلمًا على الوجدان العربي، وبقي حاضرًا في الذاكرة إلى الآن، ولأن العالم العربي وقتها كان يقبع معظمه تحت الاحتلال العثماني، توقع الجميع أن ينهض السلطان العثماني من فوق كرسيه، معلنا حربًا مقدسة ضد الإسبان وحلفائهم، لكن كانت تلك أحلامًا مجردة ذهبت مع رياح البحر الأبيض المتوسط.

لقد سقطت الأندلس كلها في مذابح ارتكبها سفاحو أوروبا ضد المسلمين، لتبدأ الهجرات القسرية والهروب الجماعي للعرب الأندلسيين، ومعهم اليهود ممن كانوا يعيشون بجانب العرب الذين حكموا لأكثر من خمسة قرون.

ولم يجد الأندلسيون العرب، دولة تشاركهم العقيدة وتكون قادرة على نجدتهم، سوى إمبراطورية بني عثمان، فأرسلوا المراسيل وطلبوا المساعدة العاجلة، لكن الآستانة وقفت موقفًا معيبًا مخزيًا لن ينساه التاريخ، إذ فضّلت مصالحها وعلاقتها مع أوروبا على النهوض لنجدة العرب، وبدلًا من أن تستقبل الإمبراطورية العثمانية العرب الأندلسيين، استقبلت اليهود، لتبدأ من هناك رحلة حب سياسية واقتصادية من طرف واحد، فالعثمانيون يحبون واليهود يبنون مصالحهم وحلمهم الذي سيتحقق فيما بعد، ببناء دولتهم داخل فلسطين التاريخية بمساعدة السلطان عبد الحميد.

وعلى عكس ما كان يعيشه العرب، وكثير من القوميات الأخرى كالأرمن والأكراد، تحت الاحتلال العثماني من اضطهاد وتعالٍ وغرور العِرق التركي، إلا أن اليهود حظوا بمعاملة خاصة فريدة، دفعتهم إلى الوصول إلى مراكز عليا في الدولة العثمانية.

ولم يكن اليهود غرباء عن السلطة العثمانية، فالصهاينة من يهود الدونمة عاشوا وكأنهم جزءٌ أصيل من المكون السكاني للسلطنة في وسط الأناضول، لكن يهود أوروبا الذين فرّوا بسبب الحملات الصليبية التي طالت اليهود أيضًا، فُتحت لهم أبواب السلاطين وقلوبهم بالتنسيق مع المشروع الصهيوني، فمحمد الفاتح -على سبيل المثال- أرسل إلى يهود أوروبا وإسبانيا، يطلب منهم القدوم إلى القسطنطينية التي ضمها لأراضيه تعزيزًا لدورهم.

كما طمأن السلطان محمد الفاتح، اليهود المهاجرين والمقيمين، بفرمان سلطاني، يسمح لهم فيه بحرية الدين والعقيدة، ويعدهم بترميم المعابد اليهودية القديمة، كما أذن لهم بتحويل المنازل إلى معابد، يا له من تعامل خاص، لم يُطبق على بقية الأعراق التي عاشت تحت حكم السلطنة.

ومُخطيء من يظن أن تلك سياسة محمد الفاتح وحده، بل هي سياسة عثمانية متوارثة حتى وصلت إلى السلطان عبد الحميد، الذي آمن بالحركة الصهيونية، وتعاطف معها واستقبل زعيمها هيرتزل، بل منحه الوسام المجيدي، تعبيرًا عن امتنانه للعلاقة بين السلطنة والحركة الصهيونية، تلك العلاقة هي التي أعطت الضوء الأخضر فيما بعد للحركة الصهيونية لبناء وطن يهودي في فلسطين.

لقد قام كل من السلطان سليمان القانوني، وسليم الثاني، ومراد الثاني، ومحمد الثالث، بإصدار فرمانات مشابهة تعزّز السياسة المحابية لليهود، كما أوعزوا لدار الإفتاء العثمانية بإصدار فتاوي تؤيد تلك الفرمانات، لتعزيزها شعبيًا وأخذ الغطاء الديني للتصرفات السلطانية.

وعند احتلال مصر، على أيدي السلطان سليم الأول، سمح لليهود بالانتقال إلى مدن فلسطينية، ليصبحوا جسرًا متقدمًا في فلسطين، كما أسند لليهودي جوزيف هامون، وظيفة راقية داخل القصر وهي وظيفة رئيس الأطباء، كما سمح لليهود بشغل مناصب في وظائف سك العملة والصرافة وبعض الوظائف المالية.

لا شك أن العلاقة بين اليهود والسلطنة العثمانية، عاشت أزهى أيامها خلال حكم السلاطين المتأخرين، كما تم دمجهم في الوظائف الحساسة سواء المدنية أو العسكرية، ويأتي السلطان سليم الثالث على رأس المؤمنين بدمج اليهود داخل المجتمع العثماني، عندما قام بإرسال جماعات من يهود إسطنبول إلى الجيش للعمل في البحرية العثمانية، وبهذا القرار أصبح لليهود دورفي جيش الإمبراطورية العثمانية للمرة الأولى.

ولم يكن العثمانيون يمانعون في زيادة أعداد اليهود داخل أراضي السلطنة، بل استقبلوا مزيدًا من الهجرات اليهودية، كان أهمها هجرة اليهود المطرودين من شبه جزيرة إيبيريا إلى الدولة العثمانية، ومع تلك الزيادة المضطردة تشكّلت مؤسسة تمثل الجالية اليهودية لدى الباب العالي، وتم تعيين الحاخام سالتيل كأول رئيس لها، وكان ذلك إعلانًا رسميًا كاملاً بحقوق اليهود، وتعاملًا استثنائيا لم تحظ به أقليات أخرى.

لقد اعتاد كثير من السلاطين العثمانيين، على اعتبار اليهود جسرًا حضاريًا مع أوروبا، فرغم العداوة الظاهرة بين العثمانيين والأوروبيين، إلا أن السلاطين اعتمدوا على اليهود في تفكيك تلك الخلافات، كما حصل بين هيرتزل والسلطان عبد الحميد، عندما ساعد الأتراك في حل مشكلتهم مع الأرمن، وخلافاتهم مع الدائنين الأوروبيين.