العثمانيون
الوجه الآخر للتاريخ
يعتبر توظيف التاريخ لعوامل دينية وسياسية من أهم العلل التي أصيبت بها الكتابة التاريخية في عالمنا الإسلامي. ومن أخطر هذه المظاهر ما يعرف بصياغة التاريخ المقدس، بوضع هالات القداسة فوق رؤوس الشخصيات التاريخية، بما يخرجها عن طابعها البشري، وحتى عن ثقافتنا الإسلامية التي تحرص على بشرية الإنسان، ورفضت تقديس البشر.
ومن النماذج الشهيرة في مجال صناعة التاريخ المقدس في ميدان التاريخ العثماني شخصية السلطان محمد الثاني، الذي عُرِف بمحمد الفاتح بعد سقوط مدينة القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية في عام 1453م؛ إذ حرصت بعض الكتابات ذات التوجه الإسلاموي على “أسطرة” تاريخ محمد الثاني، أي جعله أقرب إلى الأساطير منه إلى التاريخ، ومزج ذلك بالطابع الديني. ويأتي ذلك في إطار صناعة الأسطورة الدينية بأن محمد الثاني هو “الأمير المُبشر”، أي الأمير الذي بُشر بأنه فاتح القسطنطينية في الحديث المنسوب إلى الرسول صلى اللـه عليه وسلم. وفي إطار ذلك يصف البعض السلطان محمد الثاني قائلاً: “ارتقى عرش السلطنة للمرة الثالثة، كان أعظم أمله تحقيق نبوءة الرسول صلى اللـه عليه وسلم في فتح القسطنطينية وجعلها عاصمة لدولته”. وأن محمد الثاني استحق لقب الفاتح: “لتحقيقه نبوءة الرسول صلى اللـه عليه وسلم وبشارته”. وفي إطار صناعة الأسطورة الدينية تمتد هذه القداسة إلى كامل السلاطين العثمانيين والأسرة العثمانية؛ إذ نسب هؤلاء إلى محمد الثاني قوله: “إن المقصد الأعلى لهذه العائلة- العثمانية- هو إعلاء كلمة الله”!!
هكذا تم خلط التاريخ بالأسطورة، وصناعة التاريخ المقدس للسلطان محمد الفاتح، بل والأخطر من ذلك هو امتداد هذه القداسة إلى كافة السلاطين، بل والأسرة العثمانية كلها. وبذلك تم حجب التاريخ البشري لمحمد الثاني، وأصبح من المسكوت عنه في التاريخ العثماني الحديث عن الدماء التي سالت في عهد محمد الثاني، بل وأحيانًا على يديه، بل تم السكوت عن محاولاته لتشريع عمليات الاغتيال والإعدام غير المبررة، بل لجأ البعض أحيانًا إلى تبرير ذلك والبحث عن مصوغ شرعي له.
ومن الأحداث الدموية في تاريخ محمد الثاني تمثيله بجثة الإمبراطور البيزنطي بعد دخوله إلى القسطنطينية. ويصف المؤرخ البيزنطي دوكاس هذا الأمر الشنيع قائلاً: “تم تعليق رأس الإمبراطور البيزنطي على عمود أغسطس، حيث ظل في مكانه إلى المساء، وبعد ذلك تم حشوه بالقش- تحنيطه- وأمر محمد الثاني أن يتم إرسال رأس الإمبراطور البيزنطي إلى حكام العرب والفرس، وإلى باقي الأتراك، كدليل دامغ على انتصاره على البيزنطيين”.
ويحاول البعض تبرئة محمد الفاتح من هذا الفعل الشنيع، وينسب قتله إلى بعض الجنود، بل ويقدم رواية أخرى في إطار وضع هالات القداسة فوق رأس محمد الفاتح: “عز على محمد الفاتح أن يُمَثل بالإمبراطور البيزنطي على هذا النحو، فأمر بقطع رأس ذلك الجندي الذي ارتكب هذه الفعلة، وأن يحتفل بدفن الإمبراطور قسطنطين بما يليق بمكانته ومنزلته”.
وتؤكد المصادر الأوروبية على الطابع البشري، والطموح السياسي لمحمد الثاني؛ إذ يصفه أحد الرحالة البنادقة المعاصرين له قائلاً: “مصمم في أهدافه، جرئ في جميع الأمور، وحريص على الشهرة كالإسكندر الأكبر المقدوني، يسمع كل يوم تواريخ الرومان وغيرهم، ومدونات البابوات والأباطرة وملوك فرنسا… يلتهب رغبة في الحكم”.
هكذا تحرص المصادر الغربية على التذكير دائمًا بالطابع البشري لمحمد الثاني. وفي سبيل رغبته ونهمه إلى الحكم، نجده لا يتورع في الإطاحة بالجميع من أجل الحفاظ على حكمه؛ إذ يقوم بإعدام وزيره الشهير خليل باشا، الذي كان من رأيه التروي قبل القيام بالحملة على القسطنطينية.
أساطير متناقضة في التاريخ العثماني أثرت على الفهم المعاصر.
والأمر المثير للجدل هو مجموعة القوانين التي أصدرها محمد الثاني، والتي أتاحت له تصفية خصومه تحت ستار قانوني، بل وأحيانًا بفتاوى شرعية أصدرها علماؤه. ولقد أثارت هذه القوانين جدلاً فقهيًا وقانونيًا بعد سقوط الدولة العثمانية، في أثناء العهد الجمهوري، حول مدى مشروعية هذه القوانين.
ويدافع أصحاب اتجاه التاريخ المقدس عن هذه القوانين الجائرة وعمليات القتل غير المبرر بأن هذه القوانين لا تخالف الشرع الإسلامي: “لكن قد تكون هناك في التطبيق العلمي وقائع مخالفة للشرع الإسلامي وللقانون”. ومن أخطر هذه القوانين مسألة قانون قتل الإخوة، هذا القانون الذي سنه محمد الثاني: “إذا تيسرت السلطنة لأي ولد من أولادي فيكون مناسبًا قتل إخوته في سبيل تأسيس نظام العالم، وقد أجاز هذا معظم العلماء، فيجب العمل به”!! وترتب على ذلك في الحقيقة إعدام حتى الطفل الرضيع!! ويعترف البعض بفداحة هذا الجرم الذي لا يمكن الدفاع عنه، ولا الإدعاء بأنه يتلائم مع القانون.
بل ووصل الأمر إلى حد قتل الأبناء بفتوى شرعية، مثل حالة قتل الأمير مصطفى ابن السلطان سليمان القانوني بفتوى شرعية، وبرضاء من السلطان الأب!! خشية تطلعه إلى الحكم.
كما قتل السلطان محمد الفاتح نفسه شقيقه الأصغر أحمد، تحت غطاء قانون الإخوة، ويحاول البعض التشكيك في ذلك.
هكذا يتضح لنا بطلان أسطورة التاريخ المقدس التي روَّج لها البعض عن السلطان محمد الثاني “الفاتح”، وأنه الأمير المُبشَر به في حديث الرسول صلى اللـه عليه وسلم؛ إذ لا يستقيم ذلك مع ما قام به محمد الفاتح من إعدامات غير مبررة، وقوانين وفتاوى تبيح القتل حتى للطفل الرضيع.
- أحمد آق كوندز، سعيد أوزتورك: الدولة العثمانية المجهولة، أستانبول، 2008.
- أكمل الدين إحسان أوغلي: الدولة العثمانية، تاريخ وحضارة، المجلد الأول، أستانبول، 1999.
- برنارد لويس: أستنبول وحضارة الخلافة الإسلامية، تعريب: سيد رضوان عليّ، الرياض، 1982.
- حاتم الطحاوي: اقتحام العثمانيين للقسطنطينية، شهادة المؤرخ البيزنطي دوكاس، مجلة الاجتهاد، شتاء 1999، بيروت.
- عبدالسلام عبد العزيز فهمي: فتح القسطنطينية، القاهرة، 1969، ص ص 89- 90.