العثمانيون في تونس.. اغتيال القيروان بل وأكثر!!

إن كان هناك وصف يليق بالقيروان، مدينة العلوم ومنارة الفقه في شمال إفريقيا، فهو أنها هِبة الصحابي عقبة بن نافع لتونس ولشعوب إفريقيا والأندلس لاحقًا، نعم للقيروان تلك الأهمية القصوى، ولعلها القاعدة العلمية الأولى التي أسست النهضة الأندلسية لاحقًا.

كانت القيروان إلى أن اغتالتها يد العثمانيين بعد احتلالهم لتونس سنة 1574م، ملء السمع والبصر، وحملت على عاتقها أن تكون منارة للعلم الديني والفقه في وسط الشمال الإفريقي، ونالت القيروان تلك المهمة الثمينة في التاريخ العربي والإسلامي بسبب موقعها الجغرافي المتوسط بين الأزهر والحرمين الشريفين شرقًا، وبين والمغرب العربي والأندلس غربًا.

المدهش في الأمر أيضا، أن القيروان التي تأسست في وقت مبكر من تاريخ الإسلام على يدي القائد عقبة بن نافع سنة 50هـ، لتكون قاعدة عسكرية خلفية للجيوش الإسلامية المنطلقة باتجاه الجزائر والمغرب وأوروبا بعد ذلك، لعبت -وبكثافة- دورًا ثقافيًّا ودينيًّا وفقهيًّا لا يقل أهمية عن دورها الأصلي؛ إذ غدت المدرسة الفقهية والدينية الأولى في شمال إفريقيا.

وبقيت القيروان بعيدًا عن أي صراعات سياسية حوالي ألف عام، مؤدية وظائفها وناشرة علومها وحارسة للغة العربية في إفريقيا، ومستضيفة طلبة العلم من كل مكان، إلى أن أتى الاحتلال العثماني الذي تحول إلى كارثة أخلاقية واجتماعية، ليس على تونس فقط، بل وليبيا والجزائر على وجه الخصوص.

فالأتراك لم يتعاملوا مع تلك البلدات العربية بما توجبه الأخلاق، بل أرسلوا لاحتلالهم مجموعات من القراصنة المنفلتين، الذين اعتادوا على السلب والنهب والسرقات.

وبداية من عام 1533م، حاول القراصنة الأتراك احتلال تونس، ينجحون تارة ويخسرونها تارة أخرى، وبقي الحال هكذا حتى العام 1574م، وخلال تلك الفترة قضى القراصنة على روح تونس الجميلة ونزوعها نحو العلوم والفنون، وتحوّلت تونس إلى دولة فاشلة غير قادرة على شق طريقها نحو المستقبل.

لقد أدخل عروج باشا وإخوته والعثمانيون من ورائهم، تونس وشمال إفريقيا كله في عصور الظلام، ثم قاموا بتسليم تونس والجزائر للفرنسيين، وليبيا للإيطاليين في صفقات مشبوهة قصدوا منها إنقاذ التاج العثماني.

وبسبب حماقة الأتراك، وغبائهم السياسي، لا هم أنقذوا تاجهم السلطاني، ولا هم تركوا تلك البلدات العربية تقرر مصيرها؛ بل نقلوها من احتلالهم إلى احتلال أوروبي آخر.

وعادًة ما يحكم الأتراك البلدان التي يسيطرون عليها، عبر قوات ومحميات عسكرية متقدمة، ثم يعملون مع بعض المتعاونين المحليين، ومن ثم يزرعون خلايا تركية تندمج في المجتمعات، لكنها سرعان ما تكون لاحقًا مُهيئة للحكم بالنيابة عنهم، ولديها الولاء الدائم للسلطان في إسطنبول.

اجتمع كل ذلك في تونس، فبعد ثلاثة عقود من المراوحة بين المحتل العثماني، والسكان المناهضين، استطاع الإنكشاريون في نهاية الأمر، فرض الاستعمار بقوة السلاح والمذابح، ومنذ عام 1574م، بدأ العثمانيون في تونس، عهد استخدم النفوذ والسلطة إلى أن جعلوها دولة فاشلة، ولعل أكثر جرائمه وضوحًا كانت في تردي دور القيروان وتراجعها، لقد كان الأتراك على وعي كامل بأن القيروان منارة عربية، ولذلك حرصوا على إطفائها وإطفاء المغرب العربي كله من ورائها.

فرض الأتراك نظام حكم عثماني خالص، واستعانوا فقط بالعناصر التركية، أو من يسمون بالعبيد البيض وهم من اليونان والقبارصة والبلغار، الذين استعبدوهم وحولوهم إلى عمال لصالح العنصر التركي، وكان العرب منبوذين مُبعدين تمامًا عن مراكز القيادة والوظائف العامة، إلا النزر القليل وفي أماكن يؤمن فيها جانبهم.

كان ذلك إيذانا بفترة فاشلة مظلمة من تاريخ تونس، استمرت أربعة قرون تقريبًا، وأحدثت توقفا حضاريًّا وجمودًا فكريًّا، أفقد تونس وقيروانها موقعها المُستحق، فبالرغم من موقع تونس البحري، وكونها نافذة وسيطة بين ليبيا ومصر من جهة والجزائر والمغرب من جهة أخرى، إلا أنه لا أحد من العثمانيين وظّف تلك الميزة التجارية والبحرية لتونس، بل حرص العثمانيون على الاستفادة من تونس وجباية الأموال واستنزاف السكان المحليين وفصلهم عن بُعدهم العربي والمغاربي.

وها هي تونس تدفع ثمن ذلك الغياب القسري، نتيجة الاحتلال البغيض، الذي سلم تونس فيما بعد على طبق من فضة للفرنسيين الذين ساروا على نفس سياسة الاحتلال العثماني.