العثمانيون أهملوا الحرمين الشريفين
وتغاضوا عن الاعتداءات الأجنبية على جدة ومينائها
عذابات جدة مع العثمانيين:
لم تكن مدينة جدة في تهامة الحجاز طوال أربعة قرون من الاحتلال العثماني الذي فرض قوته القهرية على الحرمين الشريفين بعد انتصاره على المماليك (1516م)، وإسقاط حكمهم، وسرقته للخليفة العباسي وقتله في إسطنبول، وإعلان الخلافة المزيفة بأحسن حالًا من مثيلاتها من المدن العربية التي احتلَّها العثمانيون، فقد عانت أشد المعاناة، وأُهملت عن عمد، وتُرك أهلها لمصيرهم أمام البرتغاليين تارة والإنجليز أخرى، فضلًا عن عذابات العطش والجوع التي رصدها المؤرخون.
الإهمال العثماني لمدينة جدة تجلَّى في حادثتين مهمتين مع دول أجنبية، فضلًا عن الممارسات العثمانية اليومية، ففي العام (1858م) تعرضت مدينة جدة لمحاولة غزو بحري من إحدى قطع الأسطول الإنجليزي، لم يكن ذلك هو الأول من دولة غربية – صليبية، فقد حاول البرتغاليون العام (1517م) غزو جدة وقصفها، ومن ثم التخطيط لتدمير الأماكن المقدسة، وهي في تلك الفترة تحت الاحتلال العثماني.
يقول المؤرخ قطب الدين النهروالي في وصفه لموقف العثمانيين من البرتغاليين: “جاء من الأتراك أربعة آلاف عسكري، وجهَّزهم في أغربة إلى جدة، وكان العسكر مجموعة من الإسكافية والصناع وقطاع الطريق والجهال من الشباب وغير ذلك، ولكل عشرة عسكر رئيس يسمونه بلوكباشي، ولكل خمسين منهم رئيس يسمى بيرق”.
أما المؤرخ المكي جار الله بن فهد فيقول عن مجيء الجنود الترك: “عندما دخلت الحملة إلى جدة فإن العسكر عاثوا فيها فسادًا، وارتفع سعر الحَبِّ، وصاروا يتعرضون للعرب، وينهبون الأسواق، واختفى كثير من المواد الغذائية نتيجة لتصرفاتهم وبذخهم، الأمر الذي اضطرهم للذهاب إلى مكة التي وصلوا إليها في يوم الأحد 13 رمضان”.
وذكر ابن فهد أيضًا أن العسكر عندما وصلوا إلى مكة لضيق جدة بهم قاموا بأعمال شنيعة، منها الهجوم على بيوت الناس وإخراجهم منها، بما فيها من حريم وأطفال، وسرقة أمتعتهم أو إتلافها والإقامة في بيوتهم، واقتحام بيوت التجار، وتمادوا بالأذى وتجاهروا بالفسق في النساء، وأخذوا المأكولات من الأسواق بثمن بخس أو دون مقابل، لم يسكت فقهاء الحرم على أفعال هؤلاء العسكر الغوغاء، فاجتمعوا برؤساء العسكر بحضور القضاة والأعيان، وأمروهم بإخراج عسكرهم من بيوت الناس والرحيل إلى جدة.. عندها ثار الناس فقاموا بقتل ونهب العسكر، وتتبَّعوهم على طريق مكة جدة.
الإهمال المكرر:
خلال منتصف القرن الـ 19 كانت تقيم في جدة جاليات أوروبية مسيحية كثيفة العدد، يعمل أفرادها في مؤسسات تجارية بمثابة وكلاء للشركات والمصانع الأوروبية. وبسبب رُسُوِّ عدد كبير من السفن فيها إثر تحول جدة إلى مرفأ مهم للإنجليز في طريقهم بين الهند وإنجلترا، ما سمح أيضًا بافتتاح عدد من القنصليات الأوروبية، كما عاشت فيها جاليات مسيحية متعددة الجنسيات، لكن ذلك لم يَسِر على سلام إثر خلاف السكان المحليين والإنجليز، والسبب في ذلك أن أحد ملاك السفن بجدة اشترى مركبًا عليه علم إنجليزي، وحاول إنزال العلم من مكانه، فغضب القنصل الإنجليزي وذهب إلى المركب، وأُشِيع انه أعاد العلم الإنجليزي إلى مكانه من السارية، وهو يطلق الكثير من الشتائم، فثارت ثائرة الناس، واقتحموا دار القنصل الإنجليزي وقتلوه، وقتلوا معه 20 من الدبلوماسيين والتجار الغربيين، بينما اضطر آخرون إلى الهرب سباحةً إلى حيث ترسو إحدى قطع الأسطول الإنجليزي.
الإنجليز قصفوا مدينة جدة على مرأى من العثمانيين الذين لم يحرِّكوا ساكنًا منتصف القرن التاسع عشر الميلادي.
التحالف الإنجليزي الفرنسي في جدة:
كان العثمانيون يحسون بالامتنان للإنجليز والفرنسيين بسبب مساندتهم السلطنة العثمانية في حربهم مع الروس حول القرم (1853 – 1856م)، وعندما ضغطت الدولتان – فرنسا وانجلترا- على السلطان عبد المجيد الأول استجاب فورًا، وأصدر فرمانًا سنة (1856م) يساوي فيه بين المسلمين والمسيحيين، وهو ما هيَّأ الساحة للانفجار كما وقع في مدينة جدة، وما أن وقعت الأحداث حتى انحاز العثمانيون للإنجليز على حساب السكان المحليين في جدة.
التخاذل العثماني:
بعد أن ذاعت أنباء الاشتباك بين سكان جدة والإنجليز أرسلت بريطانيا وفرنسا مذكرة مشتركة إلى الباب العالي العثماني تُبلِغانه أنهما قرَّرتَا إرسال سفنهما الحربية إلى جدة للتدخل وحماية الجاليات المسيحية فيها.
كانت مكة تُحكَم من قِبَل الضابط العثماني نامق باشا وقت وقوع المذابح والاضطرابات، فأسرع الى جدة على رأس قوة عسكرية وقبض على القَتَلة، وقدَّمهم إلى المحاكمة، وصدرت أحكام بإعدامهم، ولكن لم يكن في مقدور نامق باشا تنفيذ أحكام الإعدام إلا بعد إرسالها إلى إسطنبول للحصول على تصديق الباب العالي عليها، ثم تُعاد إليه الأوراق لتنفيذ الإعدام، الذي وافق عليه نامق باشا، وطلب تنفيذ أحكام الإعدام.
لم يكتف الباب العالي بذلك، بل أرسل قائدًا عثمانيًّا هو إسماعيل باشا على رأس قوة عسكرية للإسهام في إخماد ثورة السكان، ومجازاة القتلة، وتنفيذ حكم الإعدام فيهم.
وتحركت القوة العثمانية في طريقها إلى جدة، ومن جهته رد فؤاد باشا وزير الخارجية العثمانية حينها على المذكرة المشتركة لبريطانيا وفرنسا يبلغهما بالإجراءات التي اتخذها الباب العالي، وأبدى استعداد الحكومة العثمانية دفع تعويضات لمن تضرَّروا في الأحداث، وقرَّر أن حكومته تقبل اشتراك مندوبين فرنسيين وإنجليز لتقدير التعويضات.
بريطانيا تقصف جدة:
كانت الحكومة البريطانية أسرع في تحركها، ووصلت سفينة بريطانية حربية اسمها سايكلوب إلى ميناء جدة قبل وصول إسماعيل باشا، وطلب قائد السفينة من نامق باشا والي مكة المكرمة الذي كان لا يزال موجودًا في جدة تنفيذ أحكام الإعدام فيهم فورًا، وأمهله 24 ساعة لإجابة طلبه، فإذا انتهت المدة دون إعدام المحكوم عليهم فإنه سيصدر أوامره بأن توجه مدافع السفينة قذائفها لضرب ثغر جدة.
القصف الإنجليزي على مرأى العثمانيين:
انتهت المهلة المحددة فتعرض ثغر جدة لقصف مدافع السفينة البريطانية ساعات طوالًا، ودُمِّرت المنازل وسُفِكت دماء بريئة وأُحرقت المنشآت، وصل بعدها إسماعيل باشا فتوقف الضرب، ولولا وصوله لتدمر ثغر جدة عن آخره، ونزل الجنود البريطانيون إلى جدة، وكانت قد انتشرت في أرجائها القوة العثمانية المُرسَلة مع إسماعيل باشا.
وسيق المحكوم عليهم بالإعدام ونُفِّذ في 11 شخصًا منهم الحكم فورًا، ثم أُلحِق بهم اثنان آخران، أحدهما محتسب مدينة جدة، كما تم سجن ونفي آخرين ممن حامت حولهم الشكوك بالمشاركة في الأحداث.
- عثمان الصيني، “التاريخ العثماني في الحرميـن الشريفين ليس خيرًا كله”، صحيفة الوطن السعودية (2019)، على الرابط:
https://www.alwatan.com.sa/article/1005856
2. نزار علوان، التطورات الداخلية في الحجاز وعلاقاته الخارجية (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، 2020).
3.وليد فكري، الجريمة العثمانية: الوقائع الصادمة لأربعة قرون من الاحتلال (القاهرة: دار الرواق، 2021).