حاول العثمانيون استغلال شرق الجزيرة بعد افتتاح قناة السويس

صحَّح السعوديون مفهوم الدولة الإسلامية الذي شوهه العثمانيون قرونًا من الزمن

المتتبع للتاريخ وتحولاته يكشف السر الذي جعل العثمانيين يكثفون حملاتهم على الجزيرة العربية ووسطها بدايات القرن التاسع عشر الميلادي بعد قرونٍ من الإهمال المتعمد، إذ لم يهتم العثمانيون كثيرًا بداخل شبه جزيرة العرب، إلا بعد أن طردهم السعوديون وحرروا الحرمين الشريفين من احتلالهم.

سياسة الدولة العثمانية تغيرت بعد ذلك تجاه داخل الجزيرة مع بروز نجم الدولة السعودية الأولى، ثم إعادة إحيائها من جديد في الدولة السعودية الثانية، مما جعل العثمانيين يكونون أكثر إلحاحًا في غزو أراضي السعوديين.

يرى المؤرخ الفرنسي الشهير هنري لورانس أن الصدام بين آل سعود والعثمانيين كان حتميًّا، نتيجة أن آل سعود لم يعترفوا بالدعاية العثمانية المزيفة التي روَّجوا لها وسوغوا بها استنزافهم العالَمَ العربي، من خلال مسوغات دينية غير صحيحة وفق الفهم التركي المشوه، الذي أراد تشويه الذاكرة الدينية الإسلامية النقيَّة، ويقول هنري: “… والحال أن الموحدين الذين يسميهم أعداؤهم بالوهابيين إنما يرفضون سلطة السلطان العثماني وزعمه ممارسة مهام خليفة المسلمين”، ويشير هنا إلى رفض آل سعود المفهوم المشوَّه للخلافة الذي يروج له العثمانيون، لأن الخلافة في نظرهم عربية خالصة قائمة على الشورى.

ورغم الغزو العثماني الغاشم في عصر الدولة السعودية الثانية، لا سيما على يد خورشيد باشا، ونفي الإمام فيصل بن تركي إلى مصر، إلا أن الأخير استطاع العودة إلى نجد، واستعادة قوة الدولة السعودية الثانية من جديد، ويجمع المؤرخون على أن الدولة السعودية الثانية بلغت منذ منتصف القرن التاسع عشر درجة كبيرة من القوة لفتت بها نظر القوى الدولية في العالم.

الصراع بين العثمانيين والسعوديين أمر حتمي نتيجة عدم اعتراف العرب بخلافة الأتراك

ويشير المؤرخ المصري السيد رجب حراز إلى أمرٍ مهم يختص بسياسة الدولة العثمانية تجاه الدولة السعودية، فيقول: “لم تلبث الدولة العثمانية أن انتهزت فرصة انسحاب القوات المصرية من الحجاز ونجد واليمن، وانتهاء الوجود المصري من شبه الجزيرة العربية عام 1840، فحاولت غزو المناطق التي لم تخضع لها إبان العصر العثماني الأول، أو التي خضعت لها ثم استقلت عنها، ومن ثمّ فقد شهد العصر العثماني الثاني محاولات متتالية من جانب الأتراك لسد الفراغ بعد انسحاب محمد عليّ، وهي محاولات كانت تصطدم بالقوى المحلية النامية”.

من هنا عملت الدولة العثمانية- لا سيما والي بغداد- على الاستفادة من الاضطرابات الداخلية بعد وفاة الإمام فيصل بن تركي -رحمه الله، حيث حاول والي بغداد مدحت باشا إذكاء الاضطرابات، وتُجمِع المصادر على أنه كان يطمع في الاستيلاء على الأحساء ونجد مباشرةً.

أرسل مدحت باشا حملته لفرض النفوذ العثماني في المنطقة، وصاحب هذه الحملة إعلانًا منه إلى أهل نجد يدعوهم إلى الطاعة، ويقول فيه: “إن نجد من الممالك المقدسة الراجعة إلى الدولة العثمانية، وإن كانت الدولة قد تغافلت عنها حينًا من الزمن، فقد كان ذلك لإنشغالها عنها، ونتج عن ذلك استحكام الفوضى في داخلها، وأن الدولة تتدخل الآن لإصلاح ما فسد”. علمًا بأن العثمانيين لم يكن لهم أي سلطة على وسط الجزيرة العربية من المرحلة التي طرأوا فيها على التاريخ حتى يقول بأنها تعود إلى العثمانيين.

وحقيقةً لم يكن غرض مدحت باشا إصلاح الأمور، بقدر تغير سياسة الدولة العثمانية ونظرتها إلى الخليج العربي بعد افتتاح قناة السويس عام (1869)، من هنا بدأت رغبة الدولة العثمانية في إثبات وجودها ضمن هذا الشريان الحيوي “الخليج العربي” الذي تتصارع عليه العديد من القوى الدولية، ومن هنا تأتي المواجهة الحادة من جانب الدولة العثمانية للدولة السعودية الثانية، والتلاعب بالقوى المحلية وضرب بعضها ببعض من أجل تأكيد السيادة العثمانية على المنطقة.

أكد المؤرخون أن الدولة السعودية الثانية بلغت من النفوذ والقوة ما لفت أنظار الدول العظمى

  1. هنري دودويل، الأزمات الشرقية، المسألة الشرقية واللعبة الكبرى (1768- 1914)، ترجمة: بشير السباعي (الكويت: آفاق للنشر والتوزيع، 2018).

 

  1. السيد رجب حراز، الدولة العثمانية وشبه جزيرة العرب (1840- 1909) (القاهرة: د.ن، د.ت).

 

  1. محمد عرابي نخله، تاريخ الأحساء السياسي 1818-1913م (الكويت: ذات السلاسل، 1980).

 

  1. عبد الله السبيعي، التصدي السعودي للحكم العثماني للأحساء والقطيف 1288-1331ه/1871-1913م دراسة وثائقية (الرياض: مطابع الجمعة الإلكترونية، 1999).

 

  1. مذكرات مدحت باشا، ترجمة: يوسف كمال حتاته (القاهرة: المطبعة الهنديّة، 1913).