عمل العثمانيون على فرض "نهاية التاريخ" في حق الأكراد
ثورات الأكراد ضد الترك بدأها ابن جنبلاط وختمها بدرخان باشا
تعددت الفصول الدرامية في الكفاح الكردي الطويل في مواجهة آلة القمع التركية، حيث تعامل الأتراك مع الشعوب الأصلية في كثيرٍ من المناطق التي احتلوها بدموية، بينما تسلطوا على رقاب الكرد وسلبوا منهم أراضيهم وحقوقهم وأرادوا طمس تاريخهم وهويتهم؛ وليجعلوا الشعب الكردي من دون تاريخ ليبنوا على أنقاضه تاريخًا جديدًا يبدأ مع دخول الاستعمار العثماني للمناطق الكردية، بما يتوافق مع نظرية “نهاية التاريخ”.
أخذت القضية الكردية بُعدًا سياسيًّا مباشرًا بعد معركة جالديران سنة (1514م)، حين تقاسم العثمانيون والصفويون الأراضي الكردية دون أدنى اعتبار للتضحيات التي قام بها الأكراد في سبيل توطيد أركان الدولة العثمانية. هذا الواقع الجديد خلق ردة فعل عكسية لدى الأكراد تجلت في اعتمادهم على أدواتهم الذاتية بعيدًا عن التعويل على التفاتة سياسية أو إنسانية من العثمانيين الذين كانوا يستغلون الأكراد حطبًا في حروبهم التوسعية، وأيضًا في فرض الأمن الداخلي لإخضاع باقي المجتمعات العرقية.
تعد المقاومة الكردية للغزو التركي من المعطيات البديهية في ظل الهمجية التي ميزت تعامل الأتراك مع الكرد وباقي المناطق التي دخلوها، حيث تحكي الروايات فصولاً درامية من الأحداث الدموية التي تورطت بها الدولة العثمانية.
يقول محمد أمين زكي في كتابه “خلاصة تاريخ الكرد وكردستان من أقدم العصور التاريخية حتى الآن”: “وفي سنة 1037م ميلادي وصلت جموع الغز (طلائع السلاجقة) إلى أطراف مراغة فنهبوا المدينة وقتلوا الناس وأسرفوا في القتل. ثم أغاروا على العشيرة الهذبانية الكردية فقتلوا منهم مقتلة عظيمة… وكان فريق من الغز قد وصلوا في إغارتهم إلى أرمينية وأحدثوا فيها مذابح عظيمة وتخريبًا شاملاً”.
على رغم أن الأكراد بعد جالديران استطاعوا انتزاع امتياز الحكم الذاتي عن الآستانة مع بقاء بعض مظاهر السيادة العثمانية البسيطة ومنها سك النقود والدعاء للسلطان والانضمام إلى الجيوش العثمانية إذا ما طُلب منهم ذلك، إلا أنهم رفضوا أن يستمروا في لعب دور الحروب بالوكالة وهو ما جر عليهم انتقام السلاطين العثمانيين من خلال ضربات عسكرية ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من الأكراد، ضمن جزء بسيط من التاريخ المظلم للحكم العثماني.
رفض الكرد لعب دور الحروب بالوكالة فانتقم العثمانيون منهم بردعهم وضربهم عسكريًّا.
في السنوات الأولى من القرن السابع عشر وتحديدًا سنة (1607م) اندلعت ثورة علي بن جنبلاط في مدينة حلب، وذلك على خلفية اغتيال الصدر الأعظم العثماني لأخيه الأمير حسن، ليزحف بعدها الثوار إلى طرابلس الشام ومناطق أخرى وتمكنوا لفترة وجيزة من حكم البلاد بشكل مستقل، ليسارع بعدها ابن جنبلاط إلى عقد معاهدة مع الآرشيدوق فرديناند ملك حكومة طوسكانا.
وأمام هذا التحدي للسلطان العثماني، كلّف هذا الأخير الصدر الأعظم الشهير قويوجى مراد باشا بإخماد ثورة ابن جنبلاط ليلتقي الجمعان في سهل أورج بتاريخ 24 أكتوبر سنة (1607م)، ودارت بينهما معارك دامية قضت على نصف جيش ابن جنبلاط، وهو ما اضطره إلى التراجع والانسحاب. وعلى إثر هذه الهزيمة توجه ابن جنبلاط إلى الآستانة حيث عفا عنه السلطان أحمد الأول وعينه بكلربكيا لإيالة طمشوار. غير أن هذا العفو لم يجد هوى عند الصدر الأعظم مراد باشا السفاح الذي أرسل من يقتله في قلعة بلغراد وهو في الطريق إلى عمله.
وفي عام (1806م) اندلعت في منطقة السليمانية ثورة كبرى قادها الزعيم الكردي عبد الرحمن باشا الباباني وتمكن خلالها الأكراد من تحقيق نجاحات تكتيكية مهمة، لكنها لم تكن كافية لتحقيق الهدف السياسي الأسمى في الاستقلال عن سلطة العثمانيين. وحول هذه الثورة نجد الكاتب الصحفي أحمد تاج الدين في كتابه “الأكراد: تاريخ شعب…وقضية وطن” يقول: “… واستمرت الاشتباكات لمدة سنتين حقق فيها الأكراد انتصارات رائعة، ولكن الثورة انتهت بمقتل زعيمها في إحدى المعارك ولم يكن هناك من يتولى القيادة بعده فوئدت الثورة في مهدها وفي سنواتها الأولى”.
وفي سنة (1812م) اندلعت في السليمانية أيضًا ثورة أخرى، وهذه المرة بقيادة أحمد باشا الباباني واستطاعت تحقيق نتائج باهرة وهو ما دفع الثوار إلى محاولة الزحف على بغداد للاستيلاء عليها وهو الهدف الذي كاد يتحقق لولا أن المنيَّة وافت زعيم الثورة لتلقى مصير سابقتها.
بعدها بنحو 8 أعوام في (1820م) ثار الأكراد بشدة في منطقة الظاظا لتمتد إلى باقي المناطق الكردية واستمرت بضعة أشهر قبل أن تفشل؛ لنقص المؤونة وقلة التسليح وهو ما دفع الثوار إلى التحصن بالجبال قبل أن يقوم الأتراك بمحاصرتهم فأبادوهم عن آخرهم، وبذلك تضاف ثورة الظاظا إلى الجرائم التي تورط فيها العثمانيون بحق السكان الأصليين. وبعد عقدٍ من ذاك الزمان ثار الأكراد في منطقة سنجار سنة (1830م)، وآلت إلى المصير ذاته بالنظر إلى المقدمات نفسها التي سبقت انطلاق شرارة الثورة.
وفي تحليل لإحدى أهم الثورات الكردية التي تميزت -نسبيًّا- عن سابقاتها من خلال وجود زعامة ثورية تمثل القيادة، وأيضا حضور الشق الذاتي المتمثل في القاعدة المادية الواعية بالمهام التحررية، فإن الملاحظ من خلال ما تقدم، أن زعماء العشائر ورؤساء القبائل الكردية تبنوا -مضطرين- الخيار الثوري للتحرر؛ كونه إحدى المداخل العنيفة المشروعة لتحقيق الحلم القومي للأكراد في الاستقلال عبر السيطرة على المناطق الكردية. ويبدو أن غياب تنظيم مركزي يمثل الطليعة التحررية، وزعيمٍ حقيقيٍ يملك أدوات الضبط والربط، بمفهومها العسكري، بين القبائل والعشائر، ذلك كله ساهم في فشل هذه المحاولات لينخفض مستوى التطلعات من الاستقلال إلى الحكم الذاتي.
تولى الأمير بدرخان باشا حكم جزيرة بوتان سنة (1812م)، وكان عمره آنذاك ثمانية عشر عامًا، ورغم حداثة سنه إلا أنه كان قائدًا بارعًا حازمًا يفكر بطريقة استراتيجية، إذ حدد أهدافه السياسية الرئيسة ولخصها في نقطتين رئيستين هما: التصدي لدسائس الباب العالي، والعمل على توحيد القبائل والعشائر الكردية تحت راية واحدة. ولتحقيق هذه الأهداف، عكَف بدرخان باشا على تحليل الثورات السابقة والوقوف على أسباب هزائم الكرد أمام الغزاة العثمانيين، ليقف على أهم الأسباب المباشرة وغير المباشرة لهذه الانتكاسات الحربية.
يلخص المؤرخ بله شيركوه هذه الأسباب في كتابه “القضية الكردية…ماضي الكرد وحاضرهم” في نقطتين أساسيتين: عدم اتحاد القوى الكردية في الثورات حول الهدف الأسمى وهو الوحدة، ونقص مصانع الأسلحة والذخائر والاعتماد على الدعم الخارجي.
خسائر الأكراد المتتالية أمام العثمانيين لعدم اتحادهم ونقص أسلحتهم وذخيرتهم.
وانطلاقا من مركز القيادة في بوتان، التي كانت مستقلة عمليًّا عن الدولة العثمانية، انطلق بدرخان في توحيد القبائل الكردية تحت راية واحدة، وهو ما نجح فيه نجاحًا باهرًا حيث انضوى تحت لوائه معظم رموز الأكراد، ومنهم مصطفى بك ودرويش بك ومحمود بك بالإضافة إلى زعيم حكارى نور الله بك وزعيم خيزان خالد بك وشريف بك من زعماء لواء موشى وغيرهم. كما عمل بدرخان لتحقيق الاكتفاء العسكري الذاتي من الذخيرة والعتاد من خلال إنشاء معمل للذخيرة والبنادق في مدينة “الجزيرة”.
ورغم النجاحات الباهرة التي حققها الأكراد في مواجهة العثمانيين إلا أن بعض الأخطاء التكتيكية وعدم أخذ الحسابات الإقليمية بعين الاعتبار، بالإضافة إلى الخيانات الداخلية ودسائس الباب العالي، كلها عوامل عجلت بوأد حلم الأكراد في تأسيس وطن مستقل لهم، حيث إن الإجراءات الزجرية التي قادها بدرخان ضد النساطرة المسيحيين الذين رفضوا دفع الضرائب كان خطأً استراتيجيًّا استغله السلطان العثماني للحصول على الضوء الأخضر من الأوروبيين لذبح الثورة الكردية واستدامة مشكلتهم السياسية وقضيتهم الوجودية إلى الأبد.
1) محمد أمين زكي، خلاصة تاريخ الكرد وكردستان من أقدم العصور التاريخية حتى الآن، ترجمة: محمد علي عوني، ط2 (بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 2005).
2) أحمد تاج الدين، الأكراد: تاريخ شعب…وقضية وطن، (القاهرة: الدار الثقافية للنشر، 2001).
3) بله شيركوه، القضية الكردية…ماضي الكرد وحاضرهم، (القاهرة: مطبعة السعادة، 1930).