تغلغل اليهود في الدولة العثمانية باسم القومية

عندما اجتاحت ظاهرة القوميات الدولة العثمانية، إذ عززت لها السلطة، لم يكن اليهود حينئذ بمنأى عن ذلك بل تأثروا بها، لا سيما أن اليهود لم يكونوا جماعة دينية فحسب، بل كانوا أمة منفصلة عن أي مجتمع تعيش فيه، يربطهم فيما بينهم إيمان مشترك بأنهم أمة، فحافظوا على وحدتهم بطريقتهم الخاصة.

تزايد تطلّع اليهود لتمكين قوميتهم في الدولة العلية، بعد أن تزايدت قوتهم في أوروبا، ولذلك سعى بعضهم إلى نشر أفكار تدعو إلى حد مطالبة الدولة العثمانية بالاستقلال؛ لأنهم لمسوا العيش فيها برخاء واستقرار شديد بعد أن جاؤوها منبوذين من إسبانيا وغيرها، وتقلّدوا مكانة مهمة في دوائر السلطة، وكان موقف اليهود صريحًا فقرروا الذهاب إلى فلسطين.

لقد تأثر اليهود بالتحولات السياسية في الدولة العثمانية لشدة تغلغلهم، ومنها طريقة التحوّل إلى فلسطين، وذكر في هذا الشأن أحد الدبلوماسيين البريطانيين، أن اليهود يشغلون مكانة مهمة في الدولة، وأنهم يشاركون في كل الثورات التي تحدث في الدولة، وحذر الأتراك من خطر تزايد قوة اليهود.

وجاء في كتاب صموئيل اتينجر، اليهود في البلدان الإسلامية، أن حاخامات اليهود في الشرق والغرب آمنوا إيمانًا عميقًا واستنادًا إلى بعض الحسابات والاعتبارات الغيبية – حسب اعتقادهم – أن عام1800م، سيشهد تحقيق الخلاص اليهودي، ومن هنا هاجرت أعداد كبيرة من أتباع الحاخامات في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي إلى الدولة التي استقبلتهم.

ومن نماذج التغلغل، ما حدث في سنة 1911م، إذ انتخب يهود الدولة العثمانية داود النقوة، لتمثيلهم في المؤتمر الصهيوني العاشر، وأصدر النقوة في إسطنبول صحيفة يهودية مؤيدة للحركة الصهيونية، وكانت تلك الخطوة مرتبطة بحركة هجرة اليهود الضخمة من روسيا إلى الدولة العثمانية، وحدث تعاون من داخل الدولة مع تلك القوى لتوطيد اليهود، وساعد ذلك في نشر الفكرة الصهيونية في أوساط اليهود في الدولة، ومن ثم ساعد أيضا على تقوية وجودهم في فلسطين لتهجيرهم إليها بعد ذلك.

وبعد سقوط الدولة العثمانية وقيام الجمهورية التركية الحديثة في 1923م، تقرر بموجب اتفاقية لوزان أن وضع الأقليات غير المسلمة في تركيا لهم حقوق أبناء الأقليات المسلمة من غير الأتراك، ويلاحظ كيف أن وضع المسلمين من غير العِرق التركي وصل إلى حد مساواتهم بأقليات منتشرة في الدولة لا تدين بالإسلام.

وظهر موقف يدل على اهتزاز اليهود في الدولة الحديثة، وهو تنازلهم عن حقهم في نظام الأقليات وطلبوا بأن يعيشوا باعتبارهم مواطنين أتراك، ذلك الأمر جعل السلطات التركية تتبنى موقفًا أفضل تجاههم بالمقارنة بموقفها تجاه الطوائف المسيحية، ولذلك لم تسمح السلطات التركية لليهود أن ينشئوا مدارس خاصة أو تدريسًا للغة العبرية، فاليهودي في تركيا هو تركي يدين بالدين اليهودي، ولذلك ظهر جيل جديد من يهود تركيا لا يعرف شيئًا عن الثقافة العبرية.

وخلاصة القول ..

إن النزعة القومية والتغلغل اليهودي في الدولة العثمانية انتشر في بدنها ، وتغلغلوا وتوزعوا بين الولاء للدولة وبين طموحاتهم إلى الوصول إلى الاستقلال، على أن تبقى القوميات الأخرى أقليات مهمشة في الدولة الحديثة .