الديانة الزرادشتية:
تشكلت في ثقافة الفرس ولا تزال تعيش صحوتها بينهم
وُصِف زرادشت في كُتب التاريخ بأنه رجل دين فارسي، والمؤسس الأصلي للديانة الزرادشتية التي انتشرت في فارس القديمة وبقيت إلى القرن الإسلامي الأول، حيث اندثرت وتلاشت تقريبًا بعد دخول الإسلام بلاد فارس، غير أن تأثيراتها وفلسفتها بقيت تشغل حيزًا كبيرًا من ثقافة المجتمع الفارسي، وأرخت بظلالها على تصوراتهم الدينية خاصةً على من يعيش في إيران ومحيطها، إذ تعد إيران الحاضنة الشرعية للديانة الزرادشتية قديمًا.
عاش زرادشت في مناطق بين أذربيجان وكردستان وإيران الحالية، وبقيت تعاليمه وديانته مهيمنة على مناطق واسعة في فارس، وفي فضائها بأواسط آسيا ومركز نفوذها التاريخي.
فهم نشأة مؤسس الديانة الزرادشتية قبل توسعها وانتشارها، وفهم عقليته كذلك، يستوجب فهم تأثيراتها على حاضنتها الفارسية والشعوب الأخرى المتأثرة بها، والتي امتدت ونشطت في تاريخ الفرس حتى انتصار المسلمين عليهم في معركة القادسية في السنة 15هـ (636م)، وانتهت معها أسطورة إمبراطورية فارس القديمة للأبد.
وعلى الرغم من انتهاء إمبراطورية الفرس، إلا أن تعاليمهم وثقافتهم بقيتا مسيطرتين على عقلية الكثيرين منهم، خاصةً الزرادشتية، التي ترمز للطهر والنقاء في اللغة الإيرانية الحديثة، وتتألف كلمة زرادشت من كلمتين: (زرت، اوشتره)، أي الذهب والجمال، لذلك ترجمها المستشرقون بصاحب الجِمال الذهبي، بينما فسَّرها آخرون بمعنى النور والضياء، ليترجم الاسم بذي النور والضياء الذهبي، أو (الهالة الربانية).
أما زرادشت فهو ابن يورشب من قبيلة سبتياما بأذربيجان، وأمه فارسية من إيران الحالية، ولد في القرن السادس قبل الميلاد، واختلفت المصادر في التحديد الدقيق لتاريخ مولده، غير أن المؤكد أنه ولد في وقت انتشار القبائل الهمجية بإيران، وهو الوقت الذي انتشرت فيه عبادة الأصنام، وسيطر السحرة والمشعوذون على أذهان البسطاء، وعلى الرغم من أن أذربيجان مسقط رأس زرادشت، إلا أنه تنقّل في مناطق عدة، والتقى خلال رحلته للبحث ببعض بني إسرائيل وتعرف على ديانتهم، ثم عاد إلى أذربيجان، ولم تطمئن نفسه إلى اليهودية.
لم تخلُ شخصية زرادشت من الأساطير التي أحاطته بكثير من القدسية عند أتباعه، الذين ينسبون إليه كتاب (الأمينستا)، وشرحه (الزندافستا). ضمَّن زرادشت في الأمنيستا فلسفته في تقسيماته بين الروح والجسد والوجود، وأن العالم يرتكز على النور والظلمة أو الخير والشر، على اعتبار أن العالم قائم على الصراع الدائم بين قوتين متضادتين، الخير ويمثله إله النور (أهورامازدا)، والشر ويمثله إله الظلمة (أهرمِان)، وينتهي هذا الصراع بين النور والظلمة بانتصار إله النور في آخر الزمان، ولذلك تسمى الزرادشتية أحياناً باسم المازدية Mazdaism، وأطلق عليها المسلمون اسم المجوسية، والمجوسية اسم ديانة عبدة النار، وهي من الطقوس الدينية التي تعبَّد بها زرادشت.
تصف الروايات التاريخية الفارسية زرادشت بأنه كان طبيبًا بارعًا، وحكيمًا وفيلسوفًا، محاولاً الوصول إلى سر الكون بالنظر والتأمل العقلي، ولأن مجتمعه الأساس كان وثنيًّا غارقًا في عبادة الأصنام والسحر والكهانة، تعرض للاضطهاد في بادئ دعوته، وتقول الرواية أن تغير حظه بدأ مع مرض حصان الملك، الذي استُدعي زرادشت لعلاجه، وبعد نجاحه كافأه الملك بأن نشر عقيدته، ولما تزوج أحد كبار الدولة بابنته كافأه بأن فرض ديانته على الشعوب المجاورة.
ويقول مؤلف كتاب (الديانة الزرادشتية ملاحظات وآراء) أسامة عدنان: “لقد قسّم زرادشت الآلهة التي كانوا يعبدونها هو وأتباعه من بعده إلى ثلاثة آلهة، في مراتب متعددة، فالأعلى بينهم كان أهورا مزدا، والأوسط أميشا سبيندات، أما الثالث والأقل بينهم فكانوا مجموعة آلهة سماهم اليزاديين. ودعا زرادشت أتباعه للصلاة للآلهة المتعددة، لكنه دفعهم أيضًا لتقديم القرابين لهم من مال وحيوانات ودماء واعتبرها جزءًا مهمًّا من إثبات العبودية، وهو يشابه إلى حد كبير تقديم القرابين للأولياء والصالحين في بعض بلاد فارس الحالية”.
وهنالك سؤال مهم حول اختلاط (الإسلام الإيراني) بالزرادشتية، وصناعة مفاهيم جديدة اختلطت فيها قيم الإسلام ببعض العادات الزرادشتية، فصحيح أن الإسلام الإيراني هو الغالب اليوم عند معظم السكان الفرس، لكن كثيرًا من الطقوس التي أدخلت عليه هي في أساسها تعاليم أو فلسفة زرادشتية قديمة اختلطت بالإسلام وأضحت كأنها طقوس إسلامية، والإسلام النقي بريء منها تمامًا.
اختلطت تعاليم الزرادشتية القديمة بالإسلام الفارسي وفرضت عليه فكرها وطقوسها وتعاليمها حتى اليوم.
وعطفًا على ذلك يقول الباحث اللبناني جاد محيدلي في منشور له: “هناك مجموعتان رئيسيتان من الزرادشتيين، الإيرانيون والبارسيون، فالزرادشتيون الإيرانيون هم أولئك الذين بقوا في إيران إثر الفتح العربي، الذي جعل الإسلام في نهاية المطاف ديانة الأغلبية في البلاد، وعلى الرغم من العديد من القرون -التي بقوا فيها على ديانتهم- ، إلا أنه بقي عشرات الآلاف منهم فقط، كما أن دينهم معترفٌ به من قِبل الدولة – الإيرانية الحالية- ويمثلهم أحد النواب الزرادشتيين في البرلمان، وخصوصًا بعد الثورة الإيرانية عام (1979)، التي مهّدت الطريق لإنشاء الجمهورية الإسلامية الحالية، ولذلك طغت موجة عالية من الاهتمام بالتاريخ الفارسي القديم وبالزرادشتية على وجه الخصوص”، ويشير الباحث إلى أن الزرادشتية تشهد (صحوَةً) لدى العديد من الإيرانيين الذين يرغبون في التعبير عن عدم الرضا عن التعاليم الحالية في إيران، أما (البارسيون) فقد هاجروا من فارس إلى الهند إثر الفتح الإسلامي، واستقروا في الهند حيث يمكنهم ممارسة طقوسهم.
ومنذ أن اتخذت الدولة الساسانية الزرادشتية دينًا رسميًّا لها قبل الفتح الإسلامي، اعتقد أصحابها بوجود إلهين؛ أحدهما: (أهورامزدا) وهو إله للخير، والآخر: (أهريمان) وهو إله للشر، مستندين على تقسيم الفيلسوف زرادشت العالم إلى النور والظلام، وقد دعا أتباعه لعبادة كل ماله علاقة بالنور، ليتطور الأمر لدى الفرس حتى عبدو النار في نهاية المطاف.
لذلك أصبح دينهم قائمًا على عبادة النار، وتقسيم العالم إلى عالم للظلمة وآخر للنور، وزعم زرادشت أيضا أن نور الله في كل ما يشرق ويلتهب في الكون، وأمر بالاتجاه إلى جهة الشمس والنار ساعة تعبدهم؛ لأن النور في زعمه رمز إلى الإله، وأمر بعدم تدنيس العناصر الأربعة؛ وهي: النار والهواء والتراب والماء، ثم جاء من بعده من سَنَّ للزرادشتيين شرائع مختلفة، فحرَّموا عليهم الاشتغال بالأشياء التي تستلزم النار، فاقتصروا في أعمالهم على الفلاحة والتجارة، ومن هذا التمجيد للنار واتخاذها قبلة في العبادات تدرَّج الناس إلى عبادتها، حتى صاروا يعبدونها عينًا، ويبنون لها هياكل ومعابد، وانقرضت كل عقيدة وديانة غير عبادة النار.
وصلت الديانة الزرادشتية إلى مستوى من الانحطاط الأخلاقي لم تصل إليه ديانة أخرى على الأرض، إذ يقول الباحث مصطفى الأنصاري: “ولما كانت النار لا توحي إلى من يقدسونها بشريعة ولا ترسل رسولاً، ولا تتدخل في شؤون حياتهم، ولا تعاقب العصاة والمجرمين، أصبحت الديانة عند المجوس عبارة عن طقوس وتقاليد يؤدونها في أماكن خاصة، وفي ساعات معينة، أما في خارج المعابد، وفي دورهم ودوائر حكمهم، فكانوا يسيرون على هواهم، وما تمليه عليهم نفوسهم، أو ما توحي به مصالحهم، وعندما صار الأمر هكذا يُباح فيه كل شيء لأي أحد؛ أصبح أساس الأخلاق متزعزعًا، فصارت المحرماتُ النسبية -التي تواضعت على حرمتها طبائع أهل الأقاليم المعتدلة- موضعَ خلاف”
ويذكر ول ديورانت في قصة الحضارة عن الفرس أن الأخ كان يتزوج أخته، والأب ابنته، والأم ولدها، حتى إن الملك الفارسي يزدجرد الثاني الذي حكم في أواخر القرن الخامس الميلادي تزوج ابنته ثم قتلها، والملك بهرام جوبين كان متزوجًا بأخته في القرن السادس.
- أسامة عدنان، الديانة الزرادشتية ملاحظات وآراء (بغداد: آشور باني بال، 2016).
- سعد سمار، الآلهة أنهيتا دراسة التطور التاريخي (العراق: جامعة واسط، 2018).
- عبدالله العباداني، تاريخ الديانة الزرادشتية، ترجمة: عبدالستار كلهور (دهوك: مطبعة خاني، 2011).
- الشفيع الماحي، “زرادشت والزرادشتية”، حوليات الآداب والعلوم الاجتماعية، جامعة الكويت، الحولية 11، الرسالة 160 (2001).
- محمد الساعدي، “أبعاد فلسفية في الديانة الزرادشتية”، مجلة جامعة الزيتونة، ع.16 (2015).
(الدخما) جعلت جثث موتاهم فريسة للنسور
معتقدات الفرس الزرادشتية تشكلت بثقافة هندية آمنت بالأساطير
ارتبطت معتقدات وديانات إيران القديمة وطقوسها المختلفة بالعقائد المنحرفة، والمرتبطة في معظمها بالأساطير والخرافات، التي تعدُّ جزءًا مؤثرًا في العقلية الفارسية، انطلاقًا من عبادة الفُرس الأوائل للشمس والقمر والنجوم ومظاهر الطبيعة، وهي معتقدات متأثرة بالمعتقدات الهندية.
تشابهت آلهة الهند مع آلهة الفرس كما هو الحال مع الآلهة ميترا، ومهر، وآندرا، وأرونا، وغيرها من الآلهة المعبودة من دون الله، ومنذ القرن السابع والسادس قبل الميلاد ظهرت الزرادشتية التي تُنسب إلى مؤسسها زرادشت، الذي قال عنه الشهرستاني (توفى: سنة 548ه -1153م) في كتابه الشهير الملل والنحل عن الزرادشتية: “أولئك أصحاب زرادشت بن يورشب الذي ظهر في زمان كشتاسب بن لهراسب الملك، وأبوه كان من أذربيجان وأمه من الري واسمها دغدوية، وزعموا أن لهم أنبياء وملوكا أولهم كيومرث، وكان أول من ملك الأرض، وكان مقامه بإصطخر، وبعده أوشنهك بن فراوك، ونزل أرض الهند، وكانت له دعوة ثم بعده طمهودت.. ثم بعده أنبياء وملوك منهم؛ منوجهر ونزل بابل وأقام بها. وزعموا أن موسى عليه السلام ظهر في زمانه حتى انتهى الملك إلى كشتاسب بن لهراسب، وظهر في زمانه زرادشت الحكيم، وزعموا أن الله عزَّ و جلَّ خلق من وقت ما في الصحف الأولى والكتاب الأعلى من ملكوته خلقًا روحانيًّا، فلما مضت ثلاثة آلاف سنة أنفذ مشيئته في صورة من نور متلألئ على تركيب صورة الإنسان، وأحفَّ به سبعين من الملائكة المكرمين، وخلق الشمس والقمر والكواكب والأرض، وبني آدم غير متحركين ثلاثة آلاف سنة، ثم جعل روح زردشت في شجرة أنشأها في أعلى عليين، وأحفَّ بها سبعين من الملائكة المكرمين، وغرسها في قمة جبل من جبال أذربيجان.. وله كتاب قد صنفه، وقيل إن ذلك أنزل عليه وهو زند أوستا، وقد قسم فيه العالم إلى قسمين: مينة، ووكيتي، يعني الروحاني والجسماني وتدعي الزرادشتية أن له معجزات كثيرة”.
يُفهم من كلام الشهرستاني، أن هذه الديانة قامت على الادعاء والأساطير والخرافات، لا سيما أن كتاب زرادشت احتوى شعائر وأناشيد وقوانين بتفاصيل ليس لها أصل أو منطق عقلي. فقط بما يحاكي شعوب أواسط آسيا من تصورات حول قوى الطبيعة التي يؤمنون برمزيتها الإلهية.
كانت الزرادشتية الدين الرسمي للإمبراطوريات الأخمينية والبارثية والساسانية، وعُرفت بالمجوسية، ويؤكد ول ديورانت في كتابه قصة الحضارة أن الميديين هم الذين أعطوا فارس لغتهم الآرية، وحروف هجائهم التي تبلغ ستة وثلاثين حرفًا، وهم الذين لقّنوهم قوانينهم الأخلاقية، وأرشدوهم إلى أن يعتمدوا أثناء السلم على الزراعة، وأخيرًا لقنوهم دين زرادشت.
الميديون منحوا الفرس أحرفهم وطوروا لغتهم التي يعتزون بها اليوم.
وبذلك آمنت الزرادشتية أن طقس النار القديم رمزٌ للنور، وقانون الإله الكوني، فالفرس منذ ما قبل الإسلام كانوا يدينون بالزرادشتية (المجوسية) المبنية على وحدة الوجود، منحدرة من اتحاد أو حلول بين انبثاقات صادرة عن إلهين اثنين النور والظلمة، وكان مذهب الأكثرية المجوسية يُرجِع مبدأي النور والظلمة إلى كائن أعلى واحد منه انبثق الوجود، ثم جاءت المانوية متفقة مع الزرادشتية في أصل العقيدة.
أما تعبّد الزرادشتية، فلم تكن لهم في البداية معابد خاصة، بل كانت أماكن مجردة يقيمون فيها طقوسهم الدينية، ثم ظهرت بالتدريج بعض الطقوس التي لم يقرّها زاردشت على ما يبدو، مثل استعمال مادة الهاووما، نوع من السم، في طقوسهم وصلواتهم الباطلة، وذبح الثيران تقربًا للإله مترا، وقد دمج زرادشت في ديانته طائفة من المعبودات الفارسية القديمة، وقسّم آلهته إلى نوعين: آلهة خيرِّة وأخرى شريرة ، وعلى رأس النوع الأول (أهورا مزدا)، وتعاونه مع ستة آلهة تعبر عن عن المعاني المجردة، مثل الفكر السليم، والاستقامة، والملك الإلهي، والتقوى والخلاص والخلود.
وعلى رأس النوع الآخر (أهرمان) النضال بينه وبين مزدا، ما يلخص فلسفة الكون لدى الزرادشتية. وعلى العموم فالسمات الظاهرية للزرادشتية مأخوذة من عبادة الهندوس والسيخ، فالنار مقدسة لدى الزرادشتية ويستعملونها في شعائرهم وطقوسهم، وترمز إلى بعض المواد الصافية، كما ترمز إلى الماء والأرض، وانتهى بهم حرصهم على عدم تدنيس مظاهر العبادة إلى التدقيق المبالغ فيه في وسائل التطهير.
يرتدي الزرادشتيون بعض الرموز الدينية باعتبارها جزءًا من لباسهم اليومي لتذكرهم بدينهم، ومن ذلك لبس الحزام المقدس (الكوشتي) المربوط فيه اثنتان وسبعون خيطًا، ترمز إلى فصول كتاب (الياسنا)، ويربط الحزام عدة مرات في اليوم كناية عن ثبات العزيمة أخلاقيًّا ودينيًّا.
ومن رموزهم أيضًا القميص السادري، الذي يرمز للدين نفسه، والكهنة منهم يلبسون أردية بيضاء وعمامات وأقنعة فوق أفواههم أثناء القيام بطقوس النار المقدسة، وذلك كي يتجنبوا تدنيسها بنفس زفيرهم. ولابد للمرء منهم أن يخضع لطقس التطهير قبل الصلاة والاعتراف بالذنوب التي ارتكبت بالفكر والقول والعمل.
كما يرى الزرادشتيون أن الموت من عمل الشيطان، لذلك فالجثة هي مسكن الشياطين، وكلما زاد صلاح المتوفى زادت قوة الفعل الشيطاني، لذلك يعمدون إلى وضع الجثث في بروج الصمت (الدخما) حيث تفترسها النسور، وهم يتشابهون بذلك مع سكان هضبة التبت في وضع جثث موتاهم فريسة للنسور.
- محمد الشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق: محمد سيد كيلاني (بيروت: دار المعرفة، 1982).
- عبدالله العباداني، تأريخ الديانة الزرادشتية، ترجمة: عبد الستار كلهور (دهوك: مؤسسة موكرياني، 2011).
- فراس السواح، موسوعة تاريخ الأديان، ترجمة: عبد الرزاق العلي وآخر (بكين: التكوين ، 2016).
- محمد غربال، الموسوعة العربية الميسرة (القاهرة: دار الجيل، 1995).
- ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة: إبراهيم أمين الشواربي (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1947).
خلطت إيران بين عقيدتين تاريخيتين:
الزرادشتية الفارسية والباطنية بالتشيع على الطريقة الشعوبية
ارتكزت أنماط التدين الفارسي على الديانة الزرادشتية باعتبارها تعبيرًا دينيًّا مهمًّا قديمًا، انتشر في بلاد فارس نتيجةً لبعض المبادئ التي تتقاطع مع البنية السلوكية للفرس، هذا بالإضافة إلى تميز الزرادشتية بمعالجة ظاهرة الصراع الأزلي بين الخير والشر والنور والظلام، ودافعت عن وحدانية الله واختيارية البشر وفق مفهومها المشوه المنحرف البعيد عن التشريعات الإلهية السماوية.
استفادت الزرادشتية من عدة عوامل في بقائها واستمرارها؛ ولعل أهمها التماهي العقدي لمؤسس الدولة الفارسية الأولى (كورش) مع مبادئ الزرادشتية. كذلك استمرار تداول وتوارث مبادئ الزرادشتية، من خلال تدوين مبادئها من طرف الدولة الساسانية التي قامت بتجميع وتدوين النسخة الوحيدة من “الأبستاق” (الأفستا)، ومن ثم حافظت على بعض مبادئ الزرادشتية في كتاب اجتمع عليه الفرس.
ولأن الدولة الساسانية اتخذت الزرادشتية دينًا رسميًا لإيران، ولم يكن لها دين رسمي حتى ذلك الوقت، ساهم ذلك في بقائها واستمرارها، بينما كانت الشعوب التابعة لإيران حرة في اعتناق الدين الذي يقبله كل شعب منها، ويبدو أن هذه الحالة كانت وقتية لظروف مرحلة تاريخية في صعوبة فرض الثقافة والدين الفارسي على الشعوب الأخرى، لكن بعد تسلطهم اختلف الأمر، حتى أصبح لدى الفرس هوس في التغلغل وفرض الثقافة، كما هو في وقتنا المعاصر بما تقوم به إيران حاليًّا من فرض ثقافتها وإرادتها على غيرها من الشعوب خدمة لقوميتهم وفارِسِيَّتهم.
استمرار السلوك الديني في مجتمع الفرس اضطر إلى إيجاد شوكة قاهرة له؛ لفرض قبول ظاهر من الجميع، وهما الشرطان الضروريان للمراكمة لأي معتقد ديني، فيتحول المؤمنون به إلى أشرس المدافعين عنه، هذا المعطى جعل الزرادشتية تصمد -ولو نسبيًّا- أمام رياح التغيير الثقافي والديني قبل أن يأتي الإسلامي ليخرج الفرس من ظلمات المعتقدات إلى نور الإسلام المبين، ولتبقى معه الزرادشتية على هامش المعتقدات الفارسية التي رأى فيها الإيرانيون تعبيرًا عن البنية العِرقية التي تحدد تعبيراتهم العنصرية تجاه باقي المكونات العرقية والطائفية في الداخل والخارج.
وبالإضافة إلى التفسيرات المنطقية التي تؤطر بقاء آثار الثقافة الزرادشتية واستمرارها بين الفرس رغم ضعف بناءاتها ومستنداتها، يمكن رصد أحد الأسباب الإضافية لهذا الصمود، يعود إلى طبيعة الهدف والرسالة التي تدافع عنها الزرداشتية وتبشر بها أتباعها، وهنا نجد أن تعاليم الزرادشتية تبشر وتؤكد على العمل في سبيل النهوض بقومية الفرس من خلال معتقداتهم وتصوراتهم المشوهة، منها أن الخيرين من الفرس سيلحقون بـ (آهورامزدا) في الجنة التي يتصورونها، فأما أهل الشر والسوء فسيسقطون في فجوة عميقة من الظلام، يكون طعامهم فيها السم الزعاف على الدوام.
من جانب آخر، ساهمت كتابات المستشرقين لاعتبارات غير بريئة، في إشعاع مبادئ الزرادشتية واستمرار تداولها، حيث نشطت كتابات المستشرقين حول هذه الديانة الفارسية خصوصًا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، يؤكد ذلك أحد الباحثين بقوله: “ومنذ ذلك الحين، تقدمت دراسات وبحوث الأفستا بخصوص اللغة والمضمون سريعًا، وقام العديد من العلماء المختصين الأوروبيين بنشر نصوص وأبحاث مهمة حول زرادشت والزرادشتية، مثل: “هكذا تكلم زرادشت” للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844-1900) في الربع الأخير من القرن التاسع عشر”.
ساهم المستشرقون لاعتبارات غير بريئة في الترويج للزرادشتية ونشر مبادئها في العديد من أرجاء العالم.
ورغم أن إيران تبنت المذهب الباطني واعتبرته الخط الرسمي للدولة، من خلال تسييس المذهب الشيعي وتوجيهه لخدمة المشروع الصفوي للدولة، إلا أن العقيدة العِرقية الفارسية ظلت تتحكم في التعبيرات السياسية والرسم الإيديولوجي للفرس، ولعل التقاطعات العِرقية مع الزرادشتية دفعت الساسة الإيرانيين إلى الانتباه إلى ضرورة تثمينها وتشجيعها ورفعها إلى مستوى جزء من المكون الحضاري الإيراني.
لذلك فطن الشاه رضا بهلوي إلى أهمية إدماج الزرادشتية ضمن الهوية الإيرانية ولذلك سعى كثيرًا من أجل تقوية الشعور بالفخر القومي، من خلال الاهتمام الكبير الذي أولاه لعظمة الإمبراطوريات الإيرانية السابقة: الأخمينية، والبرثية، والساسانية؛ وبهذا الشكل تطابقت أهداف الشاه مع الأهداف الزرادشتية.
في المحصلة سنجد أن لإيران الفارسية عقيدتين، الأولى والأكثر تأثيرًا هي العقيدة العرقية القومية التي تدعم المبادئ الزرادشتية باعتبارها مكونًا فارسيًّا، والثانية التشيع باعتباره خيارًا استراتيجيًّا لفرض الثقافة الفارسية وتحقيق تطلعاتها في مد هيمنتها وفرض ثقافتها على الشعوب الأخرى. لذلك نجد أن كثيرًا من التداخل حدث بين العقيدتين الفارسية الزرادشتية والتشيع الفارسي الباطني.
- جاد محيدلي، تعرفوا إلى الزرادشتية…الديانة الإيرانية الغامضة، صحيفة النهار اللبنانية، (2019).
- حسن بيرنيا، تاريخ إيران القديم…من البداية حتى نهاية العصر الساساني، ترجمة: نورالدين عبدالمنعم والسِّباعي محمد (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2013).
- عبدالله العباداني، تأريخ الديانة الزرادشتية، ترجمة: عبد الستار كلهور (دهوك: مؤسسة موكرياني، 2011).
- ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة: إبراهيم أمين الشواربي (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1947).