كسرت قواعد الفطرة الإنسانية
مزدكية الفرس.. شريعة فرضت الفسق والانحلال
آمن الفرس بالزَّرادشتية (المجوسية)، التي كانت تؤمن بوحدة الوجود والحلول، وأن هناك إلهين اثنين: النور والظلمة، وأن هناك كائنًا أعلى، انبثق منه الوجود، ثم جاءت المانوية متفقة مع الزَّرادشتية في أصلها العقدي، وكان لها أتباع كُثُر يعتقدون أن المعرفة هي التي تقود إلى الخلاص، وتحقق ذلك بانتصار النور على الظلام الخبيث. فالمانوية من العقائد الثنوية التي تقوم على معتقد أن العالم مُركّب من أصلين قديمين كالزرادشتية نور وظلمة، وأن الأول هو العنصر المهم للمخلوق الأسمى، حيث نصب الإله عرشه في مملكة النور، أما المَزْدَكيّة فقد جاءت دينًا وثنيًّا منبثقًا من المانوية، مؤسسُهُ الزعيم الديني الفارسي مَزْدَك المتوفى نحو (٥٢٨م).
ولد مزدك بن موبذان في بلاد فارس واختلف في عام ولادته فقيل (٤٦٧م) وقيل (٤٨٧م)، حيث قادَ حَركة مناهضة للزَّرادشتية السائدة، وأراد أن يقوم ببعض الإصلاحات، إلى أن أعلن أنه نبي إله الخير أهورامزدا، وراح يناقش قضية الظلمة والنور، ويرى أن امتزاجهما هو المسؤول عن نشأة العالم صدفةً، مؤسسًا دينه الذي دعا إلى الاشتراكية القديمة، أبرزها المشاركة في الأموال والنساء.
يصف المؤرخ ابن جرير الطبري (توفي: 923م) المزدكية في كتابه: “تاريخ الرُسُل والملوك” بقوله: “قال مزدك وأصحابه إن الله جعل الأرزاق في الأرض ليقسمها العباد بالتآسي، ولكن الناس تظالموا وزعموا أنهم يأخذون للفقراء من الأغنياء، ويردون من المكثرين على المقلين، وأنه من كان عنده فضل من الأموال والنساء والأمتعة، فليس هو أولى به من غيره، فافترص السفلة ذلك واغتنموه وكانفوا (أي عاونوا) مزدك وأصحابه وشايعوهم، فابتلي الناس بهم وقوي أمرهم، حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره فيغلبونه على منزله، ونسائه وأمواله، لا يستطيع الامتناع منهم، وحملوا قُباذ على تزيين ذلك وتوعدوه بخلعه، فلم يلبثوا إلا قليلًا حتى صاروا لا يعرف الرجل منهم ولده، ولا المولود أباه ولا يملك الرجل شيئًا مما يتسع به.. وصيروا قُباذ في مكان لا يصل إليه أحد سواهم.. ولم يزل قُباذ من خيار ملوكهم حتى حمله مزدك على ما حمله عليه، فانتشرت الأطراف وفسدت الثغور”. وفي وصف الطبري تأكيد على ما أحدثته المزدكية من فوضى بين الفرس ثقافية وسياسية.
انتشرت شريعة مزدك وعقيدته الفاسدة انتشارًا واسعًا في فارس في أواخر القرن الخامس الميلادي، خاصة بعد أن اعتنقها ملك الفرس قُباذ الأول (449-531م)، كما أشار إلى ذلك الطبري وغيره من المؤرخين، ففي شريعة مزدك لا يكلف الرجل نفسه في كسب المال والكدح في تحصيله، وأيضًا لا يكلف نفسه النفقة على زوجته وأولاده، فيكفيه أن يتبع تلك الشريعة المنحرفة عن الفطرة الإنسانية، فكل امرأة تعلقت رغبته بها فهي مباحة له وحلال حسب شريعة مزدك، فقُبلت دعوته عند السفهاء والفساق والفجار، والكسالى والعاطلين.
ويكاد يتفق معظم المؤرخين على أن ما أحدثه مزدك في المجتمع الفارسي من الشر والفساد والظلم والمذهب الإباحي الفوضوي، قد كانت له آثاره السيئة من انتشار الظلم والفواحش بأنواعها والدعوة إلى الشر والفساد، فقد كثر في بلاد فارس اللقطاء نتيجةَ اختلاطِ الرجال بالنساء، فولّدت المزدكية جيلاً مختلط النسب، فضاعت أنسابهم واختلط الحابل بالنابل.
ومما نُقل عن كسرى أنوشروان (512-579م) وصفه للمزدكية: “حتى اختلط أجناس اللؤماء بعناصر الكرماء، واتصلت السفلة إلى النساء الكرائم التي ما كان أولئك يتجاسرون على أن يملأوا أعينهم منهن إذا رأوهن في الطريق”، ووصف أنوشروان يترجم الأثر البالغ والضرر العظيم الذي أحدثته شريعة مزدك في المجتمع الفارسي.
وأمام هذا التدهور والانحطاط الأخلاقي والفكري الذي ضرب أعماق المجتمع الفارسي ثار الكهان الزرادشتيون والمجتمع الفارسي على المزدكية، التي اعتبروها شيطانية، فما كان من أنوشروان ابن قُباذ إلاّ أن قتل مَزدَك وأتباعه.
ويقول المؤرخ المصري أحمد أمين في كتابه “فجر الإسلام”: “فترى في هذا أن تعاليمه (أي: مزدك) اشتراكية من أسبق الاشتراكيات في العالم”، ويَذْكُرُ أيضا أنه رُغم استئصالهم بالقتل، إلا أن هناك من ظل يعتقد بعقيدة المزدكية في بعض قرى كرمان في إيران، حتى عصر الدولة الأموية، وذلك فيما نقله عن الإصطخري وابن حوقل.
آمن الفرس بالمزدكية المُنْحلَّة حتى عصر الدولة الأموية في كرمان الإيرانية.
- أحمد أمين، فجر الإسلام، ط2 (القاهرة: هنداوي للتعليم والثقافة، 2012).
- عبد اللطيف السلطاني، المزدكية أصل الاشتراكية (الجزائر: د.ن،1974).
- فراس السواح، موسوعة تاريخ الأديان، ترجمة: عبد الرزاق العلي (بكين: التكوين، 2016).
- محمد الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد إبراهيم، ط2 (القاهرة: المعارف، 1968).
- محمد الشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق: محمد سيد كيلاني (بيروت: دار المعرفة، 1982).
كانت نتيجة الصراع الطبقي الاجتماعي
نهاية المزدكية بمذبحة القصر الملكي الفارسي
قبل أن يدعو مزدك بن موبذان لعقيدته المزدكية؛ كان في الأصل كاهنًا زرادشتيًّا، لكنه خرج على الديانة الزرادشتية، ووجه إليها كثيرًا من النقد، كما هاجم سلطة الكهنة الزرادشتيين، ومع ذلك يرى كثيرٌ من المؤرخين أن المزدكية في رؤيتها وعقيدتها كانت متأثرة -إلى حدٍ بعيد- بعقائد الزرادشتية، كذلك المانوية. ذلك يُفسِّر ويؤصِّل كون ديانات الفُرس القومية ذات أصلٍ ومنشأٍ واحد، وإن تصارعت واختلفت.
وتمسّكت المزدكية بالتراث الزرادشتي فيما يتعلق بالرؤية الثنائية للوجود، النور والظلام، وكان يرى مزدك في النور عالمًا حسَّاسًا، وأن عالم الظلام جاهل أعمى، وأما إلى نظرته إلى الكون، فقد رأى أن الكون يشتمل على ثلاثة عناصر: الماء والأرض والنار، فلما اختلطت هذه العناصر بعضها ببعض حدث مدبر الخير، وما كدر الحياة فهو من مدبر الشر حسبما افترضه مزدك.
ويتحدث مزدك عن معبوده ويصوره على صورة الجالس على كرسيه في السماء، ولكي يقرب هذه الصورة إلى أذهان العامة من أتباعه، شبه معبوده الجالس على عرشه في السماء العالم العلوي، بخسرو الجالس على العرش في العالم السفلي. وحرَّم أكل اللحوم على أتباعه، وعلَّلَ ذلك بكون اللحم في حد ذاته يشتمل على عناصر من الظلام نفسه، ولما كان الظلام مكروهًا في المزدكية، ويعبر عن الشر، حَرُمَ أكل اللحوم.
ويعتقد البعض أن سبب تحريم أكل اللحم عند المزدكية يعود إلى كراهية فكرة الذبح والقتل في ذاتها، وإن كان بعضهم يرى في ذلك وسيلة من مزدك لزيادة أتباعه من الفقراء الذين لا يأكلون اللحم.
ودخل مزدك في خلاف حاد مع كهنة الزرادشتية، رافضًا نفوذهم الكهنوتي وسيطرتهم على العامة وعلى مقدرات الأمور في البلاد، كما اختلف مع المانوية رافضًا نظرتهم التشاؤمية للحياة، إذ رأى أنه يمكن أن ينتصر النور من خلال حشد الأتباع وتغيير مقدرات الحياة من خلال الثورة الاجتماعية.
ركز بعض المؤرخين على نظرة مزدك إلى الاشتراكيَّة بصفة عامة؛ إذ اتجه مزدك إلى الميل إلى فكرة المِلْكِيَّةِ المُشَاعَة، فرفض فكرة المِلْكِيَّةِ الخاصة إلى حد بعيد، ورأى أن سيطرة النبلاء على مقدرات الأرض والحياة أمرٌ مرفوض من وجهة نظره، لأن الإله الذي تصوره قد وزع هذه المقدرات على الجميع، أقوياء وضعفاء، نبلاء وعامة.
وقد شجّعت أفكاره كثيرٌ من العامة، والفقراء خاصة إلى الإيمان بالمزدكية، التي انتشرت انتشارًا سريعًا، لا سيما بعد اعتناق الملك قباذ الأول نفسه المزدكية، مُحاوِلاً تقليص نفوذ كهنة زرادشت، وعلاج تداعيات القحط الشديد الذي عصف ببلاد فارس وكان ينذر بثورة اجتماعية.
وبناءً على اعتقاد مزدك في فكرة المشاعية والاشتراكية، سمح لأتباعه بنهب صوامع الغلال الحكومية، وتوزيعها على العامة، وأدى ذلك إلى ازدياد عداء النبلاء والكهنة له؛ لأن ذلك اعتداءً سافرًا على الملكية العامة، وأيضًا خوفًا على ممتلكاتهم التي تطلع إليها العامة بناءً على العقائد والأفكار المزدكية.
كانت المزدكية دينًا للفقراء والمُعدمين، غازلتهم بمُشاعيتها واشتراكيتها انتصارًا على النبلاء.
لم تقتصر عقائد المزدكية على فكرة المشاعية في الثروة فقط، وإنما امتدت إلى فكرة أخرى حساسة اجتماعيًا، وهي فكرة مشاعية النساء، وبداية رفض مزدك فكرة تعدد زوجات الأغنياء، وعجز الفقراء عن الزواج، ويشير البعض إلى ترويج مزدك وأتباعه فِكرةَ الشيوع في النساء، ويتحدث بعضهم عن حفلات الجنس الجماعي التي نظمها أتباع مزدك، وأنها دفعت مزيدًا من العامة إلى الدخول في المزدكية لتعويض حرمانهم في هذا الجانب.
ورغم أن المؤرخين والمفكرين المسلمين بينوا فساد المعتقدات الفارسية كافة، إلا أنهم ركزوا في انتقادهم على الجانب غير الأخلاقي في العقائد والطقوس المزدكية؛ ومنهم الشهرستاني الذي أكد في كتابه الملل والنحل أن مزدك: “أحل النساء وأباح الأموال وجعل الناس شركاء فيه كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ”.
وانتشرت المزدكية انتشارًا واسعًا نتيجة أفكارها ومعتقداتها المشاعية الفوضوية، خاصةً في أوقات القحط وبين صفوف العامة حتى وصف بعضهم العَالَمَ الفارسيَّ بأنه انقسم إلى قسمين: عالَم مزدك وديانته، وعالَم الديانات الأخرى، بل دخلت المزدكية إلى أرمينيا المسيحية.
أدرك الملك الفارسي كسرى أنوشروان خطر المزدكية ومعتقداتها على مجريات الأمور في بلاده، فدعا مزدك وأتباعه إلى مأدبة في القصر الملكي، وجعل لهم هناك مذبحة كبرى، لمزدك وأتباعه الأقربين، وتلى ذلك صدور مرسوم من الملك بتجريم المزدكية، وعدم إقامة طقوسها على أراضي فارس، وتتبع مريديها في طول البلاد وعرضها.
- حسن بيرنيا، تاريخ إيران القديم من البداية حتى نهاية العصر الساساني، ترجمة: محمد نور عبد المنعم، والسباعي محمد السباعي (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2013).
- فراس السواح، موسوعة تاريخ الأديان، ترجمة: عبد الرزاق العلي ( بكين: التكوين، 2016).
- عبداللطيف السلطاني، المزدكية أصل الاشتراكية (الجزائر: د.ن،1974).
- محمد الشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق: محمد سيد كيلاني (بيروت: دار المعرفة، 1982).
- هوما كاتوزيان، الفرس: إيران في العصور القديمة والحديثة، ترجمة: أحمد حسن المعيني (بيروت: دار جداول، 2014).
فرض الفرس طقوسهم القديمة بالمذهبية والتصوف المُنحرف
من حرب "بابك" إلى الاختراق الإيراني للعالم العربي
إذا أردنا إِعدادَ دراسة تاريخية تُبلور المفاهيم العقدية، وتُبَيِّنُ تَطَوُّرَ العقائد الدينية في بلاد فارس، فإننا لا نستطيع الخروج عن فلسفة الصراع بين الخير والشر، التي أصبحت قاعدة إيمانية في الثقافة الفارسية، تشكلت على إثرها دياناتُهم، فصارت الأديان الفارسية تدور في مشهد عَرْضٍ مسرحيٍّ للصراع الوجودي، ومصدرًا للتأطير السلوكي، وتركيز الديانات الفارسية على ثنائية الخير والشر، والنور والظلام مَرَدُّهُ إلى تماهي هذه الظواهر والمبادئ مع الفطرة الإنسانية التي تميل إلى رفض الشر والانتصار للخير، وتفضيل نعمة النور على غياهب الظلام.
على الرغم من اختلاف التفاصيل المفاهيمية، فإن “المبدأ الثنوي” يمكن اعتباره، ليس نقطة التقاء الأديان التي انتشرت في بلاد فارس فَحَسْب، بل مع بعض المعتقدات الصوفية المُتطرفة الشاذَّة التي وَجَدت في فارس بيئةً حاضنةً قابِلةً للمرتكزات الصوفية التي اشتغلت أيضًا على ثنائية الخير والشر.
أقحمت الديانات الفارسية أتباعها في جدلية الصراع الأزلي بين آلهة الخير وآلهة الشر، ودفعتهم إلى ضرورة القيام بالأعمال الخَيِّرة التي ستساعد آلهة الخير على حسم المعركة، وتَبَنَّوا الاعتقاد القائل بأن النار هي رمز لآلهة الخير، ومن ثَمَّ عَكَفُوا على إشعالها في معابدهم حتى تتقوى على آلهة الشر وتنتصر عليها.
وبالعودة إلى الآثار الزرادشتية والمانوية والمزدكية نجد أنهم يجتمعون على الإيمان بـ “المبدأ الثنوي”، الذي ينبثق بالأساس من مكونات العالم، ويفترقون حول مدى التشدد في تطبيق المبدأ، وصياغة الأديان الفارسية لخدماتها للمجتمع الفارسي والمشروع السياسي معًا.
في هذا السياق، لم يكن الاختلاف بين الديانات الفارسية القديمة مرتبطًا بما هو ميتافيزيقي، بقدر ما كان الاختلاف حول القدرة على التأطير الجماهيري، من جهة، والعلاقة مع السلطة الحاكمة من جهة أخرى، التي حددت موقفها من هذه الديانات بناء على مفهوم المصلحة، الذي وجه أسلوب تعامل الحاكم مع هذه التعبيرات الدينية.
وعلى المستوى السياسي، وباستثناء بعض الدول التي تعاملت مع الدين باعتباره مُعطىً مقدسًا موضوعيًّا يجب تنزيله وتنزيهه دون محاولة استغلاله لتحقيق الأهداف السياسية للدولة، مصداقًا لقوله تعالى: “وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم”، فإن مجموعة من الكيانات السياسية جعلت من الدين ملاذًا لمحاولة شرعنة قرارات سياسية خالصة.
وارتباطًا بهذه النقطة، يمكن القول بأن الحكومات التي ترادفت على بلاد فارس قد حددت تعاملها مع الديانات المختلفة بناء على شرطين أساسيين؛ أحدهما ذاتي والآخر موضوعي.
فبالنسبة للشق الذاتي، فإن الديانات التي كانت تروم الانتصار للعرق الفارسي في مواجهة باقي الأعراق، وشكلت أداة للضبط المجتمعي، وجدت لها دعمًا من طرف السلطة. أما الشق الموضوعي فمرتبط بقدرة الديانة على حشد الأتباع لمواجهة أعداء فارس، خاصة الأمويين والعباسيين في فترة ما بعد الفتح الإسلامي، وهو ما ينطبق على المزدكية والخرمية، التي جعل أتباعُها من أنفسهم حطبًا لحروب الفرس ضد الفاتحين العرب.
عقلية السلطة الإيرانية الحالية تشكّلت بناءً على مُعطيات الديانات القديمة انتصارًا للعِرق الفارسي.
وعلى مستوى تحقيق التوازن لبنية الحكم، وجد الفرس في الزرادشتية، قيمة مضافة وعامل استقرار مناسب لتثبيت سلطة الساسانيين، بالنظر إلى أن الزرادشتية كانت المرتكز الشرعي لتأسيس الدولة، على اعتبار أن ساسان جدّ أردشير كان كاهنًا زرادشتيا كبيرًا، ومن ثَمَّ فإن الارتباط بالزرادشتية كان بمنزلة صك لإضفاء الشرعية على أي حاكم ساساني جديد.
ومن جهة أخرى، لم تحظ باقي الديانات بدعم السلطة الفارسية بسبب التهديدات التي قد يشكلها انتشار تعاليم دينية قلقة مثل المزدكية والخرمية، وإذا كان التخوف من المزدكية مرده إلى إيمانها بمشاعية الجنس، وأيضًا أدوات الإنتاج، ومِن ثَمَّ تهديد نقاء العِرق ومصالح كبار الملاك المتحالفين مع السلطة، فإن الخرمية كانت تعبيرًا عنيفًا عن المبادئ الاشتراكية، خاصة بعد تحولها إلى حركة مسلحة متمردة.
ويبدو أن الفرس لم يلجؤوا إلى استئصال المزدكية والخرمية، لكونهما ساهما في مواجهة الفتوحات الإسلامية، خاصة أن بابك الخرمي (798-838م) نجح في تقوية الفكرة وانتشارها بين عموم الناس، كما امتلك أموالاً ورجالاً آمنوا بفكرته، فأنشأ جيشًا قويًّا، ووضع نصب عينيه هدف القضاء على السلطة السياسية للعرب.
إن محاولة فهم البنية السلوكية لحكام إيران اليوم، تقتضي الرجوع إلى التراكمات التاريخية التي ساهمت فيها مجموعة من الديانات، التي حددت طبيعة التعاقد الاجتماعي والسياسي بين السلطة والمجموعات الدينية والعِرقية، التي تقتصر على ثنائية الانتصار للعِرق، وأيضًا تبني تعبيرات عدائية تجاه من يصنفون في خانة الأعداء الأزليين للفرس، هذا المعطى كان وراء التسييس المذهبي وتطويعه لما يخدم الأجندة العِرقية لحكام إيران الحاليين.
- أحمد أمين، فجر الإسلام، ط2 (القاهرة: هنداوي للتعليم والثقافة، 2012).
- حسن بيرنيا، تاريخ إيران القديم من البداية حتى نهاية العصر الساساني، ترجمة: محمد نور عبد المنعم، والسباعي محمد السباعي (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2013).
- عبد اللطيف السلطاني، المزدكية أصل الاشتراكية (الجزائر: د.ن،1974).
- فراس السواح، موسوعة تاريخ الأديان، ترجمة: عبد الرزاق العلي (بكين: التكوين، 2016).
- هوما كاتوزيان، الفرس: إيران في العصور القديمة والحديثة، ترجمة: أحمد حسن المعيني (بيروت: دار جداول، 2014).