مقاومة شعبية من القنفذة إلى ضرماء مرورًا بالرس.. قصة الإنسان السعودي في مقاومة المحتل العثماني
لم تكن القنفذة ميناءً بحريًّا نائيًا، بل كانت ثاني الموانئ ذات الأهمية على البحر الأحمر بعد ميناء ينبع، نتحدث هنا عن العام 1814مـ، وهو العام الذي قرر فيه محمد علي باشا إرسال جيشه للاستيلاء على القنفذة، وكما كانت تربة بوابة نجد، كانت القنفذة بوابة أقاليم الباحة وتهامة وعسير، ولذلك كان لها من الأهمية الشيء الكثير.
لقد كانت الأعوام (1814مـ، 1817 مـ 1818مـ) على التوالي مليئة بالأحداث الجسام التي قررت فيما بعد مصير الدولة السعودية الأولى، إثر اندفاع السلطنة العثمانية والرمي بآخر أوراقها لاحتلال وتدمير الدرعية ورمزيتها كعاصمة لأول وحدة عربية عرفها التاريخ الحديث.
بعدما فشلت الحملة العراقية، ورفض الوالي العثماني في الشام الاحتكاك بالسعوديين، وكذلك انفراط عقد حملة إبراهيم باشا واندحارها في وادي الصفراء قرب المدينة المنورة على أيدي الفرسان السعوديين.
وكانت كل من القنفذة والرس وضرما عند مواعيدها الوطنية في التصدي للمحتل العثماني، وبقي المقاتلون السعوديون ينتقلون من غرب البلاد إلى جنوبها ووسطها في التصدّي للجيش العثماني الغاصب الذي جاء بأسلحته الثقيلة وخيَّالته المرتزقة، لهدف واحد فقط هو وأد الدولة الناشئة في مركز قرارها.
استخدم العثمانيون في القنفذة والرس وضرما نفس السياسة العسكرية القائمة على سياسة الأرض المحروقة والإبادة الجماعية والترويع والتنكيل بالجميع، خاصة المدنيين الُعزَّل ليكون التأُثير في البيئة الحاضنة للدعوة الإصلاحية عميقًا ومؤلمًا.
في القنفذة وصل الجيش العثماني واستولى على المدينة وأعمل فيها السيف والقتل، لكن السعوديين التفوا عليها وسيطروا على منابع المياه، ليعيش المحتل تحت الحصار حتى فر بجلده إلى جدة.
مقاومة شعبية باسلة في الرس وضرما ضد المحتل العثماني.
وفي الرس وعلى إثر حصارها الطويل، لم يكن أمام العثمانيين إلا التفاوض مع الإمام عبد الله بن سعود، على فك الحصار، بالطبع يجب ألَّا ننسى أن الجيش العثماني كان يمتلك الأسلحة الحديثة، خاصة المدافع الثقيلة التي استخدمت ضد المدنيين، وكذلك البنادق الحديثة فضلًا عن آلاف الخيّالة والهدّانة من المرتزقة الأتراك والألبان والمغاربة والليبيين وحتى من غير المسلمين.
دام الحصار ثلاثة أشهر وسبعة عشر يوما دون أن ينال الأتراك منها شيئا، بعدما كان إبراهيم باشا يتوقع أن تسقط في يومين فقط، وإذا ما تحدثنا عن الرس يجب أن نعي مقدار الخسائر التركية التي بلغت 2400 جندي ومرتزق.
اضطر إبراهيم باشا أن يرفع الحصار عن الرس، بعد أن مُني جيشه بهزائم متلاحقة، التف العثمانيون بتجاه عنيزة التي سقطت سريعا، لقد كانت الرس بوابة نجد الشمالية وبسقوطها سقطت نجد فعليًّا، إذ على إثر ذلك تراجع عبد الله بن سعود إلى شقراء، مهموما بالدرعية في محاولة منه لحمايتها من النوايا العثمانية المُجرمة التي جاءت إلى بلاده بلا حق للقضاء عليها وتدميرها.
ما حصل في الرس يمكن تسميته بالمقاومة الشعبية، إذ شارك الأهالي جميعًا في التصدي للهجوم العثماني، وهذا أعجز الباشا عن احتلال الرس، بل كثر القتلى في جنوده. يقول الرحّالة مانجان: (كانت النساء وراء الأسوار يشعلن سعف النخل الجاف المطلي بالصمغ لإضاءة الميدان للمدافعين عنهم، وكان إطلاق النار من البنادق مستمرًا، لقد تصدّى المحاصرون لهجوم الأتراك في كل المواقع، فاضطر هؤلاء إلى التراجع ولم نكن نرى إلا القتلى والجرحى. وقد أدى هذا الهجوم المميت الذي كان التخطيط له سيئًا إلى إصابة 800 رجل بين قتيل وجريح).
ويُكمل الرحّالة مانجان في رصده للمعركة: (كان أهالي “الرس” يدافعون عن أنفسهم بشجاعة ويقومون ببعض الغارات، ولما لم تكن لديهم الإمكانات الكافية ولا الخبرة في فنون الحرب، فإنهم اكتفوا برد طلائع المهاجمين، والانقضاض على المدافع ليسدوا ثقوبها بالمسامير لتصبح غير صالحة للاستعمال، كانوا يهاجمون أعداءهم بالبنادق ذوات الفتيلة والرماح.
ولعل أكبر جريمة ارتكبها العثمانيون هي القتل بالأمان، وهي خيانة ليس بعدها خيانة، إذ يؤمّن الرجل على بيته وعياله ويرمي سلاحه فتدخل القوات العثمانية إلى بيته لتقتله وتستولي على أمواله وتعتدي على أطفاله، لقد حدث ذلك بشكل متوحش في ضرما التي قاومت المحتل لكنه استطاع إسقاطها ثم قتل أهلها على الهوية النجدية مستحلا دماء الأبرياء، فقط؛ لأنهم عرب نجديون مسالمون.
وفي وصفه للمجزرة العثمانية في ضرما يصف المؤرخ النجدي الشهير ذلك بقوله: «ودخل الروم البلد من كل جهة، وأخذوها عنوة وقتلوا أهلها في الأسواق والسكك والبيوت وكان أهل البلد قد جالدوهم في وسطها إلى ارتفاع الشمس، وقتلوا من الروم قتلى كُثُر، لكن خدعوهم بالأمان» وقال أيضا: «ذُكر لي أنهم يأتون إلى أهل البيت والعصابة المجتمعة فيقولون: “أمان أمان” ويأخذون سلاحهم ويقتلونهم، ونهبوا جميع ما احتوت عليه البلد من الأموال والمتاع والسلاح واللباس والمواشي والخيل وغير ذلك» إلى أن قال: «وهرب رجال من أهل البلد وغيرهم على وجوههم في البرية ما بين ناجٍ ومقتول، وبقيت البلد خالية من أهلها». فرّ من بقي من النساء والذرية وحملهم سعود بن عبد الله بن الإمام محمد آل سعود إلى الدرعية، فلما قدموها قام لهم الإمام عبد الله بن سعود الكبير آل سعود وأهل الدرعية، فأنزلوهم وأعطوهم وأكرموهم واستعدوا للدفاع عن الدرعية.