ميناء جدة
أهمله العثمانيون وأطلَقوا يد الأوروبيين فيه من دون حماية
لم يتمتع ميناء جدة بأهمية كبيرة عند العثمانيين، بل بقي مجرد قاعدة بحرية متقدمة لتأكيد الهيمنة والاحتلال العثماني للأماكن المقدسة، ولعل أخطر ما قام به العثمانيون هو تمكين الفرنسيين والإنجليز والهولنديين من فتح ممثليات وسفارات ومكاتب تجارية في جدة، وهو أمر ليس غريبًا على الإهمال العثماني للبلاد العربية؛ إذ يعود الأمر إلى أن السلاطين عقدوا اتفاقيات مُلزِمة مع الأوروبيين، خاصةً الفرنسيين والإنجليز، منها قانون الامتيازات الذي مكَّنهم من إدارة شؤون الجاليات الغربية والمسيحية، وبشكل مباشر في كل البلاد التي كانت تحت الاحتلال العثماني، ومنها بالتأكيد مدينة جدة التي فُتِح فيها ممثليات للبريطانيين والفرنسيين والهولنديين، وعلى ضوئها بُنِيَت مقبرة المسيحيين في ضواحي جدة القديمة.
يقول محمد صادق دياب في كتاب “جدة.. التاريخ والحياة الاجتماعية” عن ظهور البعثات الدبلوماسية في جدة خلال الاحتلال العثماني: “إن البعثات الدبلوماسية الغربية بدأت تأتي إلى جدة مع مطلع القرن الثاني عشر الهجري على شكل وكلاء تجاريين ووكلاء قناصل يُختارون من المسلمين الهنود وغيرهم، ثم ما لبث الأمر طويلًا حتى قام مكتب الخارجية البريطاني بتعيين الإنجليزي Alexander Ogilive في عام 1254هـ/1838م في جدة كممثل رسمي للحكومة البريطانية، كما قامت فرنسا بتعيين الفرنسي Fulgence Fresne في وظيفة مماثِلة، تلتهم بعد ذلك دول أوروبية أخرى”.
اقترب الأوروبيون أكثر من مدينة مكة المكرمة، أقدس أقداس المسلمين بسبب العثمانيين، وهو مخطَّط استعماري بدأه البرتغاليون بعدما عقدوا صفقة مع الصفويين الإيرانيين لاحتلال مكة المكرمة، ولكن المماليك تصدَّوا لهم في العام (1509م)، عندما بنى السلطان المملوكي قانصوه الغوري سور جدة لحماية المدينة من هجمات السفن الأوروبية، التي بدأت بمهاجمة جدة، وقد كان قانصوه الغوري آخر المماليك السلاجقة الذي حكموا جدة في القرن العاشر الهجري، قبل أن يتم احتلالها من قِبَل العثمانيين.
قانون الامتيازات الذي منح الأوروبيين ما لا يستحقون، يطابق تمامًا ما قالته الكاتبة صليحة بغزو في كتابها عن الامتيازات الأوروبية في المنطقة العربية: “لقد استفادت فرنسا من الامتيازات التي منحها العثمانيون لها أكثر مما استفاد العثمانيون أنفسهم”، كما قام الفرنسيون بنشر قنصلياتهم في كافة أنحاء الأقاليم العثمانية بهدف اختراقها والوصول إلى أعماق المجتمع العربي.
لعل الاهتمام بالحرمين الشريفين، وخاصة مكة المكرمة، يبدأ من ميناء جدة، ومع ذلك لم يكن يُمثِّل أي وزن عند العثمانيين، بل بقي ميناءً خطيرًا لا من حيث بناؤه المتواضع وإمكاناته الفقيرة، ولا من حيث الإدارة السيئة التي بقيت مجرد إدارة مالية تحصل الأموال لصالح خزينة إسطنبول.
لم تتلقَّ جدة وميناؤها أي مساهمة تُذكَر، بل بقيت تعيش على الإرث والتنمية التي قام بها المماليك، بل حتى السور الذي بُنِي لحمايتها بناه المماليك؛ خوفًا من إغارة البرتغاليين، كما أن المياه الشحيحة التي لم يقم العثمانيون بأي مجهود لحلها بقيت المعضلة الكبرى التي أثقَلَت كاهل جدة وسكانها وزُوَّارها.
لقد كان السفر إلى جدة عبر مينائها في فترة الاحتلال العثماني واحدًا من أصعب مراحل رحلة الحاج القادم عبر الميناء، وتحوَّلت جدة عبر الأربعمائة عام – التي وقعت فيها تحت الاحتلال العثماني – إلى حامية عسكرية فقط، تدعم عسكر العثمانيين، وتُلبِّي احتياجاتهم القادمة عبر البحر، ولم تَزِد أهمية ميناء جدة المهمل عثمانيًّا إلا بعد الاحتلال الإنجليزي للهند والهيمنة على فارس، كذلك استعمار هولندا للملاوي، حيث تحوَّل ميناء جدة إلى محطة استقبال للحجاج الهنود والإيرانيين والملاويين، ومع ذلك بقي الإهمال العثماني، مع استمرار القوة العسكرية، وعانت جدة أيَّمَا معاناة من قلة الخدمات، خاصةً المياه التي تحوَّلت إلى معضلة لم تُحَلَّ إلا في العصر السعودي.
تَعامَل العثمانيون مع ميناء جدة كما لو كان داعمًا لخزينتهم فحسب، دون النظر إلى تطويره أو حمايته.
ويُورِد أحمد السباعي في كتابه “تاريخ مكة” عددًا من الحوادث التي تؤكد طغيان وقسوة العثمانيين؛ إذ يقول: “وصل أحد الولاة العثمانيين وهو في طريقه إلى اليمن إلى بحر جدة، وغرقت سفينته هناك، وطلب من نائب الوالي في جدة مساعدته على انتشال أمواله من البحر، وعندما لم يستطع الغَوَّاصون استعادة الأموال التي غرقت قام الوالي التركي بشنق حاكم جدة علنًا، ولم يجرؤ أحد على مساءلته”.
كما شهدت جدة خلال فترة الوالي العثماني محمد علي باشا عصيان بلماز، وهو كبير عساكر الأتراك الذين بقوا في مكة، ففي عام (1831) ثار بلماز مع مجموعة من الجند بسبب تأخُّر رَواتبهم، وانتقلوا من مكة إلى جُدَّة، واغتصبوا خزائن الحكومة، واستولوا على بعض مراكب محمد علي الراسية في الميناء، فركبوها مع ما غَنِمُوه من جُدَّة من سلاح وأموال إلى الحديدة والمخا، وسيطروا عليهما لفترة قبل أن يتفرَّقوا في أرجاء الأرض.
احتل ميناء جدة أهمية تاريخية كبرى منذ إنشائه في عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان، إلى أن جاء الاحتلال العثماني، حيث كانت جدة “صنجقية” في النظام الإداري العثماني تخضع للإدارة المباشرة للسلطات الحاكمة في مصر، ونظرًا للأهمية الأمنية التي تمتعت بها، حيث اعتبرتها صنجقية منفصلة عن إمارة مكة؛ فقد كان يتم اختيار ولاتها ممن تتوفر فيهم الخبرة التجارية والعسكرية لإحكام السيطرة عليها، فلعب أولئك الولاة الذين حملوا لقب صناجقة دورًا إداريًّا في قهر الناس، وسياسيًّا لفرض الاحتلال العثماني في تاريخ تلك المدينة، والقصد من هذا كله إحكام السيطرة على جدة لتكون رافدًا للخزينة العثمانية.
- أحمد السباعي، تاريخ مكة (الرياض: الأمانة العامة للاحتفال بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس المملكة العربية السعودية، 1999).
- محمد صادق دياب، جدة.. التاريخ والحياة الاجتماعية (جدة: دار العلم، 2003).
- دعاء عبد الرحمن، “صناجقة جدة ودورهم في العلاقات المصرية الحجازية في القرن الحادي عشر الهجري – السابع عشر الميلادي”، عمَّان، مجلة دراسات في العلوم الإنسانية والاجتماعية، ع6 (2019).