امتيازات الصهيونية في الدولة العثمانية

كان رعايا الدولة العثمانية ينتظمون في مجموعات طائفية، وفقًا للمِلة التي ينتمون إليها ولكن بصفة غير رسمية، إلى أن سقطت القسطنطينية في أيدي العثمانيين، فأصبح لأولئك مكانة تكفُلُها الدولة، وتنظيمات شِبه مستقلة، واستخدم مصطلح “المِلة” في العصر الإسلامي تعبيرًا عن المسلمين أساسًا، لكن العثمانيين استخدموه لغير المسلمين.

إن الحريات الدينية، التي تمتعت بها طوائف الدولة ومنهم اليهود، لم يحدث مثلها في دول أخرى، ونتج عن ذلك حسبما يرى الكاتب أحمد عبد الرحيم في كتابه: “في أصول التاريخ العثماني”، بأن تمارس الطوائف كامل حريتها، ومنها استخدام لغتها الخاصة، وإنشاء معاهد دينية وتعليمية، وتحصيل الضرائب وتسليمها إلى الخزانة المركزية، وكان أغلبهم يعيشون في القسم الأوروبي من الدولة العثمانية.

وفي عام 1876م، صدر قانون ينص على أن رعايا الدولة من الطوائف المختلفة، يُعَدُّون عثمانيين، وذلك يكفل لهم حماية الدولة، أما من يتمكّن منهم من تعلم اللغة التركية، فله الحق أن يتقّلد المناصب والوظائف المتنوعة في الدولة بجانب حقوق أخرى، وبذلك أصبح ولاء الطوائف مرهونًا بالأهواء، وشعروا بأنهم يستطيعون التغلغل وفرض سيطرتهم بطرق ملتوية، بل أصبح ذلك ظاهرة فيما بعد.

أما الصهاينة من اليهود، فكانت الدولة تعاملهم بقدر كبير من الاستقلال الذاتي والإداري، فعملوا في كل فروع العمل والتجارة والصناعة ومجال التعليم وهذا الأخطر، كما سُمح لهم باختيار رؤساء وزعماء روحيين، وتُعَدُّ الدولة العثمانية الوحيدة التي لم تصدر ضدهم أي ضوابط، فزاد  ذلك من أعدادهم وتدفقهم خاصة نحو الأناضول، بعد طردهم من إسبانيا 1492م، وقد رحب بهم آل عثمان وسمحوا لهم بالإقامة، تحت مزاعم أنهم نقلوا علوم ومعارف الحضارة التي طُردوا منها لسوء سلوكهم.

ومما عانته الدولة منهم، أنهم تفرقوا في مقاطعات الدولة مثل بورصة وأماسيا وسلانيك، وبرزوا في مجال الطب، فأصبحوا أطباء القصر السلطاني، ويوضح مؤرخون أتراك وغيرهم، أن انتشار حالات القتل بالسم داخل القصور، كانت نتيجة مؤامرات برعاية أولئك الأطباء وغيرهم من بني جلدتهم، وعملوا كذلك مترجمين لارتباطهم بأوروبا، وظلوا شديدي الحرص على المحافظة على التراث الذي جلبوه معهم .

وكان اليهود في الدولة على مجموعتين، اليهود العثمانيون وكانوا أتباع التلمود، وهم من الناطقين باللغة اليونانية في الدولة وكان احتواؤهم كبير، واليهود المهاجرون وهم السفارديم، وعُرفوا كذلك تِبْعا للدولة التي جاءوا منها، وهؤلاء شكّلوا عبئًا لكثرة توافدهم، وتأثيرهم على الحياة الاجتماعية، ومن ثم تغيرت توجهات الدولة ضد رعاياها، وكانوا من صُناع السلاح واحتكروا صناعتها.

ظهرت مشاكل اليهود في تاريخ الدولة العثمانية، منذ بداية القرن التاسع عشر، وكانت منبعثة من أنهم شعب تجمعه ديانة واحدة وتفرقوا في الأرض، فتعاملوا مع وضعهم بأنه يجب تحقيق حلمهم في أنهم لابد أن يجمعوا شتاتهم في العالم في مكان واحد، ومن أخطر ما قام به الصهاينة اليهود داخل البلاط السلطاني اعتناق البعض منهم للدين الإسلامي تَقِيَّةً ليسهل عليهم تأدية مهامهم الخاصة بهم.

وبذلك اندمجوا في صفوف العثمانيين بكامل حرياتهم، وتحدث معظمهم ثلاث لغات على الأقل وهي الإسبانية والتركية والفرنسية، فما لم يحصلوا عليه بعد طردهم من أوروبا وجدوه في الدولة العثمانية.