الواقع الذي يحاول تزييفه المؤدلجون

العثمانيون تعاملوا مع البلاد العربية كمحميَّات ليست أصلًا في حدود دولتهم

أخذ الاحتلال العثماني للبلدان العربية جدليةً واسعة بين المؤرخين، منهم من يراه امتدادًا للدولة الإسلامية، وآخرون يرون بأنه لا يَعدُو كونه احتلالًا حقيقيًّا، بحكم ما اقترفه العثمانيون من جرائم وفظائع منذ أول سِنِي احتلالهم ضد العرب والمسلمين، وبسبب استنزافهم الاجتماعي والاقتصادي والفكري للمنطقة العربية.

لذا يحاول المدافعون عن العثمانيين رفض أي سرديَّة تبيِّن جُرم العثمانيين وكرههم للجنس العربي، ويعزونها إلى نظرية المؤامرة، فيما أنهم في الوقت نفسه يتجاهلون الأحداث والوقائع الحقيقية والمصادر التاريخية التي عاصرت الأحداث، ويحاولون في الوقت نفسه الابتعاد عن كل مصدر يَدِين العثمانيين أو يذكرهم بما يكشف حقيقتهم.

ووفق الواقع التاريخي فإن الدولة العثمانية لم تكن إلا محتلة احتلالًا حقيقيًّا للبلاد العربية، بل إنه لا يختلف عن الاستعمار الأوروبي الذي تلاه بعد ذلك في بعض المناطق، فالعثمانيون تعامَلوا مع المنطقة العربية من دون دمجها ضمن منظومة الدولة، إنما تعامَلوا معها كما تعامَلوا مع أي منطقة أخرى استعمروها، بالاستنزاف والتجهيل والتأخير والقهر الاجتماعي، والشيء الوحيد الذي كانوا يعتبرون من خلاله أن المنطقة العربية ضمن منظومة الدولة؛ هو الشعارات التي كانوا يسوقونها لكسب الولاء وفرض السيطرة فقط، وباعتبارها خزانًا للجيوش (مصر، تونس، الجزائر) أو مصدرًا لشرعنة سياستهم التوسعية من خلال احتلالهم للحرمين الشريفين.

هذه العلاقة الهجينة بين البلدان العربية والدولة العثمانية دفعت هذه الأخيرة إلى إقحام هذه المستعمرات في سلسلة من المساومات السياسية والدبلوماسية، والتي أثبتت رعونة في تقديرات الموقف لدى إدارة العثماني عبد الحميد الثاني.

لقد شكَّلَت الحرب العثمانية الروسية سنة (1877) بداية الاندحار السياسي والترابي للعثمانيين، وهو ما دفعهم للجوء إلى ما يسمى في حقل العلاقات الدولية بـ “دبلوماسية المحاور”، وذلك من خلال اللجوء إلى بريطانيا لدعمها ضد تغلغل القوات الروسية التي أصبحت على مرمى ومرأى من العاصمة إسطنبول.   

وهنا وقع العثمانيون ضحية دهاء البريطانيين الذين أقنعوهم بأنهم “حلفاء وأصدقاء العثمانيين ضد المطامع الروسية.. ولم ينتهِ مؤتمر برلين إلا وقد وقَّعت الدولة العثمانية اتفاقًا سريًّا مع بريطانيا يسمح للبريطانيين باحتلال جزيرة قبرص في حال تحركت القوات الروسية بشكل يهدِّد الدولة العثمانية”.

اعترف عبد الحميد الثاني في مذكراته بتقاعسه في الدفاع عن تونس ومصر، ومع ذلك يستميت المؤدلجون من تيارات الإسلام السياسي في إيجاد المبررات وتقديم المسوغات التي تبرئ السلطان العثماني من هكذا اتهام، وهنا نجد أحد أبرز المراجع الإخوانية يؤكد على هذه النقطة بالقول: “إن السلطان عبد الحميد الثاني نجح في إحياء شعور المسلمين بأهمية التمسك والسعي لتوحيد صفوف الأمة تحت راية الخلافة العثمانية”.

ورغم أن الدولة العثمانية ظلت تدَّعي بأن لها حقوق سيادية على مصر؛ إلا أنها تقاعست عن الوقوف في وجه المشروع الاستعماري البريطاني لمصر، وهنا نسجل بأن “الباب العالي كان قد اعتاد لحقبة من الدهر امتهانَ أوروبا لكرامته، واعتداءها على حقوقه، وتعديها على سلطاته، وعليه أن ينصاع راضيًا أو كارهًا لأوامرها، ولذا كان السلطان عبد الحميد قد وطَّن العزم على كظم غيظه وانتظار الظروف”.

بمذكراته: اعترف عبد الحميد الثاني بتقاعس دولته حيال الاحتلال الإنجليزي لمصر.

إن اعترافات عبد الحميد الثاني في مذكراته وشهادة ممثل التيار الإخواني، بالإضافة إلى الطرح أعلاه، كلها قرائن تقطع بأن الدولة العثمانية فرَّطت في واجب الدفاع عن مصر، واعتبرت بأن الدفاع عنها مغامرة سياسية قد يكلِّفها أجزاء من قلب الدولة، وهو ما يقطع بأن السلطنة كانت تعتبر المناطق العربية مجرد محميات لم تَرْقَ لأن تكون جزءًا من تراب الدولة. 

ويمكن القول أن عبد الحميد حاول اللجوء إلى “دبلوماسية المحاور” من أجل الضغط على إنجلترا من أجل رفع يدها عن مصر، إلا أن دهاء الدبلوماسية البريطانية جعلها تنجح في “تنويم” المطالب العثمانية حين “أبدت رغبتها في الجلاء ولكن بشروط تتعلق بظروف مصر الداخلية والخارجية، وتقدير إنجلترا لهذه الظروف”.

وبطبيعة الحال فإن تقدير الظروف الداخلية والخارجية لمصر يدخل في نطاق “التقدير التمييزي” لبريطانيا، وهو ما أعطاها مبرِّرًا للاستمرار في مصر حتى بعد سقوط الدولة العثمانية. وإن العلاقة بين مصر والدولة العثمانية لم تكن علاقة عامودية بين الدولة وإحدى ولاياتها، وإنما كانت تبعية اسمية، زاد من تأكيدها حكم محمد علي الذي لم يكن ليقبل أن يتم استعماله فقط للبطش بالحركات المطالِبة بالحرية والعدالة الاجتماعية.

ولعل الغريب في هذه العلاقة ما وثقته معاهدة لندن سنة (1840)، التي تقرَّر من خلالها “استقلال مصر داخليًّا مقابل دفع جزية سنوية للسلطان العثماني… وبذلك أصبحت مصر دولة ناقصة السيادة”.

ويجدر بنا التذكير إلى أن معاهدة لندن تؤكد ما ذهبنا إليه أعلاه من كون علاقة الدولة العثمانية بمصر هي علاقة “حماية” وليست علاقة بنيوية، على اعتبار أن اتفاقيات الحماية تترك للدول حرية ممارسة شؤونها الداخلية، مع احتكار كل ما يتعلق بالشأن الخارجي.

إجمالًا يمكن القول بأن العثمانيين أرادوا بقاء مصر تحت سلطانهم ولو اسميًّا؛ لما تمثله مصر إستراتيجيًّا وتاريخيًّا، كما استعملوا جيوشها في إخماد بعض الحركات الاستقلالية، وبعد انفراط عقد العلاقة بإسطنبول وجدت مصر نفسها دولة ضعيفة وناقصة السيادة، وفريسة سهلة للاستعمار البريطاني.

  1. جرجي زيدان، مصر العثمانية، تحقيق: محمد حرب (الإسكندرية: دار الهلال، 2003).
  2. سيِّد محمد، مصر في العصر العثماني في القرن السادس عشر (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1997).
  3. عبد الرحيم عبد الرحمن، فصول من تاريخ مصر الاقتصادي والاجتماعي في العصر العثماني (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990).
  4. مذكرات السلطان عبد الحميد، ترجمة: محمد حرب، ط3 (دمشق: دار القلم، 1991).