المنظور الديني صاغ تاريخها بقداسة

"البراجماتية" العثمانية

استنزفت "الأندلس"

يتداخل التاريخ بالأساطير بشدة عندما يتم توظيف التاريخ توظيفًا دينيًّا لخدمة أغراض سياسية، ونجد ذلك واضحًا في حالة الدولة العثمانية عندما يُعالج تاريخها من المنظور الديني فقط، ويكون التركيز على أنها آخر خلافة إسلامية، ويكون نتاج ذلك تاريخًا ناصع البياض، تاريخًا مقدسًا، مع أن التاريخ الحقيقي بطبعه رمادي اللون. لذلك نجد تاريخ الدولة العثمانية لدى كتابات الإسلام السياسي ناصع البياض، مغلفًا بحكايات الأساطير، تاريخًا شبه مقدس، وربما أبعد ما يكون عن الواقع التاريخي الرمادي.

من النقاط المثيرة للجدل في هذا الشأن مسألة موقف السلاطين العثمانيين من مسألة استرداد الأندلس على يد الإسبان، ومحنة أهل الأندلس؛ إذ أشاد البعض كثيرًا بمسألة رسائل أهل الأندلس إلى سلاطين آل عثمان لنجدتهم من تعسف الأسبان، واعتبروا ذلك دليلاً على المكانة الدينية للدولة العثمانية. لكن لا يوجه هؤلاء الاهتمام نفسه إلى رسائل واستنجاد أهل الأندلس بمعظم حكام المسلمين سواء في المغرب أو المشرق؛ إذ يعني ذلك أن طلب الاستغاثة لم يكن حصرًا للعثمانيين وحدهم، وإنما لشتى دول الإسلام، لكن نلاحظ الاهتمام الكبير في إبراز رسائل أهل الأندلس إلى آل عثمان، وكأن الآخرين هم وحدهم حماة الإسلام.

ونجد من أنصار الإسلام السياسي محاولة أيديولوجية واضحة لإبراز شأن آل عثمان في نجدة الإسلام والمسلمين في الأندلس إزاء اضطهاد الأسبان لهم، والحق أن هذا الأمر مُبالَغٌ فيه بشدة وينم عن هوى وغرض، وأبعد ما يكون عن الواقع التاريخي.

وإذا تصفحنا بعض أهم الدراسات الأكاديمية عن تاريخ الدولة العثمانية سنجد ما ينقض التاريخ الأسطوري عن علاقة العثمانيين بالأندلس، ومن أهم الدراسات عن التاريخ العثماني بشكلٍ عام، والسياسة الخارجية العثمانية على وجه الخصوص كتاب الأستاذة الألمانية ذات الأصول الشرقية ثريا فاروقي “الدولة العثمانية والعالم المحيط بها”، وأيضًا كتاب المؤرخ التركي الشهير خليل إينالجيك “تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار”.

ومن بداية دراستها تركز ثريا فاروقي على الطابع “البراجماتي” في السياسة الخارجية العثمانية، حتى أنها تضع عنوانًا جانبيًّا مثيرًا في هذا الشأن: “الشريعة الإسلامية والبراجماتية السلطانية”، ومن هذا العنوان المثير تنطلق لتنقد المقولة التاريخية السائدة في الكثير من الكتابات عن العصر العثماني “دار الإسلام ودار الحرب”، وأن دار الإسلام هي عالم المسلمين، وما عدا ذلك هي دار الكفار وهي دار حرب. تصل ثريا فاروقي إلى نتائج مهمة وخطيرة أن العثمانيين منذ البداية أدركوا معنى السياسة وأنها براجماتية بحتة، وبالتالي علينا أن نفرق بين سياسة السلاطين التي كانت براجماتية، وبين تمسك بعض العلماء بالمقولة التقليدية “دار الإسلام ودار الحرب”. وتشير فاروقي بذكاء إلى مسألة جوهرية في السياسة وهي التناقض ما بين ما هو معلن وما هو واقعي، وما هو للاستهلاك المحلي والتأثير على الرعية بالنزعة الدينية، وبين متطلبات السياسة الخارجية:

ثريا فاروقي: تعطلت الحرب المقدسة في العلاقة بين العثمانيين والفرنسيين والبنادقة للمصلحة السياسية والاقتصادية.

“كما يتضح من المنظور العثماني، لعب توسيع رقعة الأراضي الإسلامية من خلال الحرب على الكفار دورًا رئيسًا في إضفاء الشرعية على حكم السلاطين. في حين أن التوافق بين الحكام العثمانيين ونظرائهم البنادقة وأسرة الهابسبورج لم يكن نادرًا في الأقاليم الحدودية، فإننا نجد أن المواجهات حظيت بشهرة أوسع في كل من المواد الثقافية الشفهية والمكتوبة… وكان ميل البندقية إلى تقديم الاعتبارات التجارية مع العثمانيين على الحرب المقدسة قد نال قدرًا كبيرًا من النقد اللاذع، وكان ملك فرنسا فرانسوا الأول هو الوحيد بين كبار ملوك أوربا الذي أبدى استعدادًا لتحمل الدعاية المناوئة الواسعة بدخوله في تحالف مع العثمانيين” بحسب وصف فاروقي. 

إن دراسة ثريا فاروقي هنا تأتي على قدر كبير من الأهمية لأنها تنقض المقولات التقليدية الشائعة في الأدبيات العثمانية عن دار الحرب “دار الكافرين”، وأن السياسة الخارجية للسلاطين العثمانيين في أوروبا كانت سياسة “إسلامية”؛ إذ توضح بجلاء أنها كانت سياسة براجماتية بحتة. وعلى الطرف الآخر نجد الشيء نفسه، تخلى أعدى أعداء الدولة العثمانية البنادقة وأسرة الهابسبورج عن مبدأ “الحرب الصليبية المقدسة” من أجل بقاء المعاملات التجارية مع الدولة العثمانية، بل يصل الأمر بملك فرنسا إلى إقامة تحالف عسكري مع العثمانيين ضد دول أوروبية مسيحية، إنها السياسة والاقتصادية والبراجماتية في أعلى مراحلها.

وبمطالعتنا لوقائع الحرب والسياسة للسلاطين العثمانيين من خلال كتابات فاروقي وخليل إينالجيك نكاد لا نجد ذكرًا للأندلس؛ إذ لم تحرك السياسة العثمانية العواطف الدينية وإنما المصالح الاقتصادية أولا.ً

ومن ناحية أخرى كان آخر سقوط لمعاقل المسلمين في الأندلس هو سقوط غرناطة عام 1492 م. ويوضح إينالجيك بجلاء انشغال العثمانيين آنذاك في العديد من المعارك في الأناضول وشرق أوربا والمشرق الإسلامي، فكيف يوجه العثمانيون اهتمامًا إلى مسألة الأندلس؟ يُطلق إينالجيك على الفترة من 1402 م إلى 1526 م عنوانًا مثيرًا هو “الاحتضار والانبعاث”؛ إذ بدأت الفترة بهزيمة مروعة للعثمانيين على يد تيمورلنك قرب أنقرة كادت أن تقضي على دولتهم، بل أُسر السلطان العثماني نفسه بايزيد الأول، لذلك انكفأ العثمانيون على أنفسهم لإعادة بناء الدولة من جديد، واستعادة مواقعهم في البلقان والأناضول، ومكنهم ذلك من فتح القسطنطينية في عام 1453 م. وبعد ذلك تركز اهتمام محمد الفاتح على البلقان ومواجهة صربيا وضم المورة 1460 م، وفتح البوسنة والهرسك في عام 1463 م، كما واجهته مشاكل كبرى في الأناضول بخصوص إمارة قرامان، هذا إلى جانب معارك ضارية في ألبانيا وحصار شكودرا في عام 1474 م والصدام من جديد مع البندقية، وفي عام 1480 م أرسل جيشًا إلى جزيرة رودس، ولكنه سرعان ما توفى في عام 1481 م.

خليل إينالجيك: حتى عام 1491 لم يرد ذكر الأندلس ولا مسلميها في وقائع السياسة الخارجية العثمانية.

وبعد وفاة محمد الفاتح اندلع تمرد عنيف في صفوف الإنكشارية وشَبَّ نزاع عنيف على السلطة بين ابني محمد الفاتح “جم وبايزيد”، وسرعان ما تولى الحكم بايزيد الذي نصُِحَ في أوائل عهده بالتخلي عن سياسة والده بكثرة الحروب التي أرهقت الإنكشارية وأثرت على خزانة الدولة. وزاد من تفاقم الأمر فرار أخيه الأمير جم إلى مصر وطلب مساعدة المماليك ضد أخيه بايزيد، مما أدى إلى عدة حملات عسكرية بين بايزيد والمماليك حتى عام 1491 م أضعفت -في الحقيقة- الطرفين. 

هكذا وحتى عام 1491 م على الأقل لا يرد ذكر الأندلس ولا مسلمي الأندلس في وقائع السياسة الخارجية العثمانية، التي انشغلت بالبلقان ونزاعات الأناضول، فضلاً عن بدايات الصدام العثماني المملوكي.

1) خليل إينالجيك: تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، ترجمة: محمد الأرناؤوط، دار المدار الإسلامي، 2002.

2) ثريا فاروقي: الدولة العثمانية والعالم المحيط بها، ترجمة: حاتم الطحاوي، دار المدار الإسلامي، 2008.