السعوديون حتى في هزيمتهم كانوا أبطالاً سطروا التاريخ بدمائهم
معركة بسل.. الملحمة السعودية التي أثبتت للعثمانيين أن الأرواح حصون الوطن الأولى
استبسل السعوديون في الدفاع عن دولتهم الأولى أمام غُزاة التُّرك، على رغم أن العثمانيين جهزوا جيوشهم بعتادٍ قوي وإمدادٍ لم ينقطع من الجنود النظاميين والمرتزقة، واستنفروا كل ولاياتهم لتحقيق هدفهم في إسقاط عاصمة الدولة السعودية الأولى الدرعية. وكانت معركة بسل التي سطر السعوديون فيها مجدًا منقطع النظير في عصر الدولة السعودية الأولى.
يقع وادي بسل بين الطائف والباحة، متوسطًا المسافة بين تربة والطائف، وتحيط به سلسلة جبلية تشكّل حاجزًا طبيعيًّا للمتجه إلى تربة ونجد.
وقعت في هذا الوادي معركة بسل بعد عامين من هزيمة الجيش العثماني في معركة تربة الثانية التي كان يظن القائد العثماني مصطفى بك أنها في متناول يديه، حتى أذاقه السعوديون مرارة الهزيمة وأجبروه على الانسحاب. وعلى الرغم من هزيمة العثمانيين في تربة إلا أنهم سارعوا إلى إعداد حملات عسكرية أخرى، ولكن هذه المرة بقيادة الوالي العثماني على مصر محمد علي باشا نفسه، محاولاً كسر الخوف في نفوس عساكره الذين بدأوا ينهارون أمام ضربات السعوديين، ولكي يقضي بنفسه على السعوديين في الحجاز، الطائف على وجه التحديد، التي سيُفْتَحُ بسقوطها طريقٌ إلى عاصمة الدولة السعودية الأولى الدرعية.
وقعت معركة بسل في يناير (1815م) بين قوات الدولة السعودية الأولى بقيادة الأمير فيصل بن سعود بن عبدالعزيز والجيش العثماني بقيادة الوالي العثماني محمد علي باشا، الذي توجه لغزو السعوديين بأوامر السلطان العثماني محمود الثاني، بعدما استطاعت الدولة السعودية الأولى ضم عسير والحجاز إليها.
وصف المؤرخون بسل بأنها كبرى ملاحم الدولة السعودية الأولى مع العثمانيين، لما فيها من تفاصيل عسكرية وما حُشد لها من قوات ولأنها كانت مفصلاً فتح الطريق أمام العثمانيين الغزاة للانقضاض على الدرعية.
مارس فيها الوالي العثماني مجزرة بشرية بقطع 5 ألاف رأس من الأسرى السعوديين.
وعد محمد علي باشا السلطان العثماني في إسطنبول بالقضاء على الدولة السعودية الأولى التي أنهكت قوات السلطان في العراق والأحساء والشام، ولكونها تحوّلت إلى خطر على سلطنته.
وواجه محمد علي الأمير فيصل بن سعود قائدا على القوات السعودية نيابة عن أبيه الإمام سعود الذي توفي قبل أيام من المعركة الفاصلة، مكملًا المسيرة تحت لواء أخيه الإمام عبد الله بن سعود.
زحف السعوديون من نجد مع قائدهم فيصل بن سعود، وانضمت إليه أعداد أخرى من قبائل مختلفة تدين بالولاء للدولة السعودية الأولى، وحضر معه القائد السعودي طامي بن شعيب ومعه عدد كبير من قبائل عسير، وفهاد بن سالم بن شكبان من بيشة، وابن دهمان مع كتائب عديدة من فرسان قبيلة غامد، ومسلط بن قطنان السبيعي من رنية، وابن حطامل من شهران، وبخروش بن علاس من زهران، وغيرهم الكثير من قادة قبائل الحجاز وفرسانهم، قدرت هذه القوات بحوالي خمسة وعشرين ألفًا.
بدأت الملحمة بخطة سعودية مُحكمة للقضاء على الجيش العثماني ومحمد علي باشا نفسه، فأشاعوا أن جيشًا يتقدم من القنفذة باتجاه جدة سعيًا للاستيلاء عليها، الأمر الذي أربك الجيش العثماني ودفع الكثير منهم إلى الهرب، وبعد عملية التضليل التي قادها السعوديون ضد الأتراك وتوجيه انتباههم صوب القنفذة، هاجموا الأتراك في “بسل” واخترقوا خطوط الجيش العثماني، الأمر الذي دفع محمد علي باشا إلى التراجع.
عرفها المؤرخون بأنها أكبر الملاحم السعودية ضد المُحتل العثماني.
حاول محمد علي جاهدًا بواسطة فرسانه التأثير على خطة السعوديين لكنه فشل، وبعد انقضاء اليوم الأول من المعركة وفشل الخيّالة الترك في إحراز أي تقدم لهم، أدرك محمد علي قوة السعوديين وخشي الهزيمة، فحاك خطة أخرى وجمع قواده وأمرهم بالتقدم نحو المواقع السعودية، ومتى وصلوا إلى أقرب نقطة اشتباك أطلقوا النار بغزارة وتراجعوا تراجع المهزوم دون تنظيم نحو الوادي -في محاولة إيهام السعوديين بفرارهم-.
نفّذ الجيش العثماني الخطة كما وضعها الباشا، وما إن رأى السعوديون صفوف الأتراك تتراجع والبلبلة بينهم حتى تركوا مواقعهم الجبلية الحصينة ونزلوا إلى السهل، وهذا ما توقعه محمد علي، حتى ابتعد السعوديون عن الجبال التي كانوا يتحصّنون ويقاتلون منها فأرسل فرسانه وتمركزت قواته ومدفعيته فوق الجبال وقصف الجيش السعودي لتنتهي المعركة لصالحه.
حرص محمد علي أن يكون معظم جيشه من مرتزقة بادية شمال أفريقيا المتمرسين والمدربين على القتال في الصحراء إذ وصل عددهم لنحو عشرين ألف مقاتل، منهم 1200 فارس على خيولهم، ومئات المدافع والآلاف من البنادق الحديثة التي لم تكن متوفرة للجيش السعودي، إضافة إلى 3000 جمَّال من الشام، و2000 شخص من ليبيا لحمل المؤن التي قدرت بأنها تكفي لقتال شهرين كاملين.
الجيش السعودي كان في أكثره من قبائل سعودية أغلب فرسانها قدموا للدفاع عن دولتهم ووطنهم تحت رايةٍ واحدة لمقاتلة المحتل العثماني، وقدّرت القوات السعودية بأكثر من 25 ألف مقاتل، معظمهم من المشاة، إضافة إلى بنادق قديمة وشخصية وبدون مدافع.
سُجِّلت معركة بسل كواحدة من المعارك الكبرى التي خاضتها الدولة السعودية الأولى في دفاعها عن أراضيها ضد المحتل العثماني الغازي، الذي جاء من خارج الجزيرة العربية برجاله وعتاده ومرتزقته وأسلحته الحديثة، ليحتل أراضٍ لا يملكها وليس له فيها حق، وفي مرحلة تاريخية من عُمر الجزيرة العربية كانت فيها متوحدة تحت الراية السعودية، لم تكن معركة بسل هي المواجهة الوحيدة مع المحتل العثماني، بل هي جزء من حرب كبرى دارت معاركها على امتداد رقعة الدولة السعودية من المدينة المنورة وينبع إلى جدة ومكة المكرمة وامتدادًا على طول ساحل البحر الأحمر في القنفذة وتهامة عسير.
وقد تسببت الخديعة التركية في نزول القوات السعودية من أعالي الجبال رغبة منهم في القضاء نهائيًا على الأتراك واعتقال محمد علي نفسه، ما جعلهم ينسون النظام الحربي الصحيح الذي اعتمدوه، كما أن المفاجأة التي انتظرتهم عند بروز هذا العدد الكبير من فرسان الأتراك والقصف المدفعي أفقدهم القدرة على المقاومة.
نهاية المعركة:
بعد انتهاء المعركة انسحب جانب من جيش فيصل بن سعود إلى تربة، بينما تفرّق الباقون وعادوا إلى مناطقهم خاصة إلى الباحة وعسير، وتتبعهم جيش محمد علي إلى تربة، وحين علم الأمير فيصل بذلك، انسحب منها إلى رنية، ومنها إلى نجد، بينما تابع محمد علي زحفه، محتلاً تربة ورنية وبيشة وعسير.
ارتكب العثمانيون مجازر كبرى في حق أسرى الجيش السعودي، ووضع محمد علي باشا جائزة قدرها 6 جنيهات ذهبية عن كل رأس مقاتل سعودي، وفي ساعات قليلة تكدس أمامه خمسة آلاف رأس مقطوعة من غير الشهداء السعوديين الذين استشهدوا في أرض المعركة.
وبرغم مرارة الهزيمة وتفرُّق الفرسان وانسحابهم إلى الداخل، سطَّر السعوديون بطولات لا يزال التاريخ يحتفظ بها حتى اليوم، ومنها أن الفارس فهاد بن سالم بن شكبان من بيشة وبعض مئات من رجاله استطاعوا اختراق الطوق التركي والانسحاب بسلام إلى مناطقهم. كما أن القائد بن رقوش أحد قادة زهران قتل بيده عددًا من ضباط الوالي العثماني، وعندما فقد حصانه انتظر حتى سنحت له فرصة رمي أحد الفرسان الأتراك عن جواده، فامتطاه منسحبًا مع مقاتليه إلى دياره، وضربت القوات العسيرية أعظم أمثلة التضحية، إذ تقول المصادر إن كثيرًا منهم وجدوا قتلى مكبلين بالحبال في الجبال المجاورة لوادي بسل، بعد أن أوثقوا أقدامهم بأنفسهم، مقسمين بالله على عدم الهرب أمام الأتراك، ومقاتلين حتى الرمق الأخير ليبقوا على تلك الحالة وينتهي بهم الأمر مثالاً لشهداء الوطن العظام، الذين كتبوا التاريخ بدمائهم.
الشهداء كبلوا أيديهم بأنفسهم في مواقع القتال ثباتًا في مواجهة الموت.
- عبدالرحيم عبدالرحمن، الدولة السعودية الأولى، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1987).
- عبد الفتاح حسن أبو علية، محاضرات في تاريخ الدولة السعودية الأولى، ط2 (الرياض: دار المريخ، 1991).
- عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971).
- فليكس مانجان، تاريخ الدولة السعودية الأولى وحملات محمد علي على الجزيرة العربية، ترجمة: محمد خير البقاعي (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز ، 2003).