مقر الحكم الفعلي لسلاطين الدولة العثمانية

"الحرملك"

حيث امتهان الزوجات والجواري

وبقية النساء!

لم يكن وجود نساء وجواري في قصور الدولة العثمانية بالأمر الجديد، فإمبراطوريات التاريخ عرفت تلك الظاهرة، لكن سلاطين الترك لم يكتفوا ببضع نساء كما كان من قبلهم، بل توسعوا في شراء الفتيات من شتى أنحاء العالم، وأسسوا مؤسسة الحرملك التي ضمت جواري وزوجات سلاطين العثمانيين، ووضعوا لتلك المؤسسة قوانين صارمة وجعلوا هناك مناصب للجواري يتدرجن فيها حتى أصبحن أمهات للسلاطين ومتحكمات في البلاد التي حكمها بنو عثمان.

هذا التطور الذي وصفه مؤرخون بأنه دلالة على كيف لهث سلاطين العثمانيين وراء النساء ومجالس اللهو والاسترخاء على الأسرّة، تاركين شئون الحكم، هو ما أدى في النهاية إلا أن يُصبح الحرملك، وهو المكان المخصص للنساء في قصور سلاطين العثمانيين، المقر الحقيقي لحكم البلاد ومنه صدرت القرارات وحيكت المؤامرات التي هددت أركان الدولة العثمانية قبل أن تتسبب في زوالها

وكما تؤكد المصادر التاريخية، فإن سلاطين العثمانيين لم يكن في قصورهم أجنحة خاصة للحريم حتى جاء السلطان محمد الفاتح (1444- 1481)، المُغرم بالنساء فجمع مئات الجواري والزوجات وخصص لهن مكان داخل قصر الحكم وسمّاه “الحرملك” -أي مُحرم على الرجال دخوله-.

أسس محمد الفاتح نظام الحرملك لمراقبة زوجاته وجواريه

ومن ناحية أخرى أراد السلطان محمد الفاتح مراقبة نساؤه وجواريه، إذ إن بعض الجواري ينتمين لإمبراطوريات معادية للدولة العثمانية، وكان يتم جلب نساء الحرملك عن طريق أسواق النخاسة التي روّج لها سلاطين الترك، وبات هناك تجّار مهمتهم هي البحث عن فتاة جميلة تليق بحرملك بني عثمان الذين صرفوا آلاف الليرات الذهبية من أجل ملذاتهم وشهواتهم الخاصة.

ولذلك ابتدع سلاطين العثمانيين نظام الآغاوات، أي الرجال المخصيين المكلفين بخدمة الحرملك في الظاهر لكن مهمتهم الفعلية مراقبة هؤلاء النسوة وتتبع حركاتهن.

ومنذ اللحظة الأولى لتأسيس الحرملك، فُرضت عليه السرية والقوانين الصارمة، وليس هناك مبالغة في قول أن هذا المكان كان في قائمة أولويات سلاطين العثمانيين الذين أهتموا بالنساء أولًا وأخيرًا.

فرض السلاطين السرية الكاملة على نساء الحرملك وقتلوا أي رجل يقترب منهن

يدلل على ذلك أن الحرملك كان تابع للسلطان العثماني مباشرة، أما عن تقسيمات الحرملك المعمارية، فكما توضح المصادر التاريخية إنه تكون من عدة مباني متداخله من أجنحة وغرف، وممرات تفضي إلى مداخل ومخارج لتقييد الحركة الداخلية، كما اشتمل على ممرات سرية لدخول السلاطين وخروجهم.

ويحوي الحرملك ما يزيد على 400 غرفة لأسرة السلطان وجواريه، بجانب أجنحة للخدم والموظفين من النساء للاهتمام بالجواري ومرافقة زوجات السلاطين، كما يحوي الحرملك على حمامات وصالونات ومكتبات، وبالطبع تم عزل هذا المكان عن الأعين داخل قصور الحكم وظل جزء غامض حتى للعاملين في القصر نفسه. 

أما قواعد الحرملك فلا يمكن سوى وصفها بأنها قواعد عبودية من الطراز الأول، بداية من إجبار كافة الجواري والإماء على اعتناق الإسلام كرهًا وهو أمر نهى عنه الدين الإسلامي بنصوص صريحة وواضحة، ثم بعد ذلك تربيتهن على بعض القواعد الاستعبادية التي فرضها سلاطين العثمانيين، فمحظور عليهن النظر إلى عين السلطان، ويجب تقبيل أطراف ثوبه حين يقترب من أي جارية، وغير مسموح لهن بالخروج من الحرملك، وبالطبع عليهن تهيئة أنفسهن كل ليلة تحسبًا لرغبة سلاطين العثمانيين.

وحتى لا يعرف أحد ماذا يفعل سلاطين الترك داخل هذا الجزء الغامض من قصور الحكم، فُرضت عقوبات وحشية على نساء الحرملك، فمن تخالف منهن تعليمات السلطان تتعرض للطرد في العراء، أما الجارية التي تقيم علاقة مع أي رجل فمصيرها هو القتل.

وبالنسبة للرجال فإن اقتراب أي رجل من الحرملك كان يعني هلاكه، فتشير المصادر التاريخية أن أحد التجار من رعايا مدينة البندقية تجرأ وحاول أن ينظر عن بعد إلى أجنحة الحريم السلطاني مستخدمًا نظارة تقريب المسافات وسرعان ما اكتشف أمره فأمر السلطان مراد الرابع (1623-1640)، بشنقه فورًا، وتكررت المحاولة بعد أن قام رجل أرميني يعمل مترجمًا للسفير الفرنسي في إسطنبول، فألقت السلطات العثمانية القبض عليه وأسرعت بشنقه قبل أن تتدخل السلطات الفرنسية لتطلب العفو.  

ورغم أن الله لم يميز بين الناس إلا بالعمل، فقد دأب آل عثمان على تقسيم الناس درجات وأصناف، فداخل الحرملك نفسه لم يكن النساء متساويات فيما بينهن فهناك مناصب ودرجات ويتحدد نفوذ الجارية حسب جمالها وإعجاب السلطان بها.

وترأس النظام الهرمي داخل الحرملك “والدة سلطان”، وهي أهم شخصية داخل الحرملك باعتبارها والدة السلطان الحاكم، وكانت هي الوحيدة المسموح لها بالاتصال بالعالم الخارجي، أما اكتساب هذا المنصب فيأتي بمجرد أن يتم تعيين سلطان جديد من آل عثمان فتتولى أمه هذا المنصب.

وتكشف المصادر التاريخية أن والدة سلطان، لعبت أدوار أخرى مهمة من خلال تقديم الاستشارات الضرورية للسلطان فيما يخص الحرملك وسلوك النساء داخله، أي يمكن القول إنها الجاسوسة الأولى للسلطان بين نساءه .

ترأست والدة السلطان نظام الحرملك وتمتعت بنفوذ قوي بسببه

بعد والدة سلطان، يأتي دور “القادن أفندي” والمقصود بالمصطلح طبقة الجواري اللاتي أنجبن ولدًا للسلطان الحاكم، وبمجرد الولادة ينتقلن إلى تلك الطبقة التي تتمتع بمعاملة خاصة، إذ يخصص لهن جواري تعمل على خدمتهن باعتبارهن أمهات لأولاد السلاطين.

ويطلق على من تنجب الابن البكر للسلطان لقب “الباشقادن” لأنها بذلك تصبح عمليا السلطانة الوالدة المقبلة داخل الحرملك العثماني حسبب قوانين الولاية العثمانية.

وفي المرتبة الثالثة  تأتي “الجوزة” والمقصود بالكلمة، الجارية التي استطاعت الاستحواذ على اهتمام المسئولين داخل القصر سواء السلطان نفسه أو غيره، وكان هذا الاستحواذ يسمح لها بالترقي داخل الحرملك، أما من استحوذت على اهتمام السلطان مؤقتًا فكان يطلق عليها لقب “إقبال” وكانت تحظى أيضًا بوضع خاص داخل الحرملك.

بعد ذلك تأتي منزلة “الكلفة” وهن مجموعة الجواري اللاتي لهن وظائف مهمة لتسيير أمور الحرملك، ويتمتعن بمقام أعلى من باقي الخدم، ويتزيل القائمة الجواري أصحاب المهام الروتينية كأمينة المجوهرات أو أمينة الخزينة داخل الحرملك .

لكن برغم هذا النظام الصارم الذي وضعه سلاطين العثمانيين، والسرية التامة التي فرضوها على مجالس اللهو وليالي ألف ليلة وليلة التي أقاموها بأموال المسلمين الذين عانوا في عهدهم الفقر والتخلف، فإن هذا النظام لم يصمد طويلًا وسرعان ما تم كشف ما كان يحدث داخل هذا الجزء الغامض من قصور الحكم.

وتؤكد المرويات التاريخية أن الحياة داخل الحرملك تجاوزات كل المحظورات التي نهى عنها الدين الإسلامي، وبات الحرملك يلبي رغبات وشهوات سلاطين العثمانيين الذين بنوا أحواضًا من الحليب لاستحمام الجواري فيها، كما شهدت جدران الحرملك ما يمكن وصفه بالأشعار المبتذلة لإثارة الجواري والنساء الجميلات ناهيك عن تصرفات أخرى خجل المؤرخون من ذكرها.

بالإضافة إلى ذلك استطاع الكثير من الآغاوات الذين خدموا جاريات ونساء سلاطين الترك أن يجمعوا أموالًا طائلة، سواء نظير خدمتهم لنساء الحرملك أو من خلال إدارة أموال بعض النسوة خاصة زوجات السلاطين، وتخطت ثروة بعض الآغاوات ثروات باشات ووزراء الدولة العثمانية نفسها.

شهد الحرملك أبشع أشكال الفجور والفسق لسلاطين العثمانيين

  1. أحمد الشنتناوي وآخرون، دائرة المعارف الاسلامية (بيروت: دار المعرفة، د.ت).
  2. أماني الغازي، الدولة العثمانية من خلال كتابات المستشرقين في دائرة المعارف الاسلامية (جدة: الأعمال الثقافية ، 1433هـ ).
  3. أكمل الدين احسان اوغلي، الدولة العثمانية تاريخ وحضارة (إسطنبول: مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، 1999م).
  4. حسن الضيقة، الدولة العثمانية الثقافة المجتمع والسلطة، (بيروت: دار المنتخب العربي، 1997م).
  5. خليل اينالجيك، تاريخ الدولة العثمانية من النشوء الى الانحدار، ترجمة محمد الأرناؤوط (المدار الاسلامي، بنغازي، 2002م).
  6. عبدالعزيزمحمد الشناوي، الدولة العثمانية: دولة إسلامية مفترى عليها (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1980م).