حاول فتح المفاوضة مع الدولة السعودية الثانية بعد أن أدرك قوتها
أحلام مدحت باشا وخططه انهارت أمام قوة السعوديين سنة (1871)
استغل العثمانيون الأوضاع الداخلية المضطربة التي كانت تعيشها نجد، فتدخّلوا مرة أخرى في شرق الجزيرة العربية، ولكن هذه المرة من خلال طموح والي بغداد أحمد مدحت باشا وتطلّعاته، إذ استطاع إقناع حكومته بإمكانية إرسال حملة عسكرية كبيرة لاجتياح شرق الجزيرة العربية برًّا و بحرًا، وأخذ يعدّ العدّة لذلك.
وقبل أن يتقدم نحو شرق الجزيرة العربية ذكر في مذكراته، أنه أرسل عيونه إلى المنطقة على هيئة مجموعة من التجّار أقاموا مدة شهرين بهدف الوقوف على القوة الحربية للدولة السعودية الثانية ومعرفة قلاعها وأماكنها وعدد قواتها والقبائل المؤيدة لها، وأدرك مدحت باشا أنه سيلقى مقاومة سعودية متوقعة في شرق الجزيرة، وأن السعوديين سيكونون خصمًا عنيدًا كعادتهم، لذا ساورته الخشية من تكرار الفشل الذي كان نصيب سابقيه وحملاتهم العسكرية، لذا أخذ جميع احتياطاته خشية الهزيمة وقطع طرق الإمدادات العسكرية على حملته.
تقدم مدحت باشا بحملته العثمانية الغازية عبر طريق البر والبحر بخمسة طوابير مشاة، وفرسان من الفيلق السادس من الجيش العثماني، يصحبهم رجال المدفعية، وأبحرت السفن العثمانية التي بلغ عددها ستة سفن محملة بالمدافع والذخيرة إضافة إلى ثماني قوارب شراعية، مرافقة لها من جهات البصرة والكويت.
وصلت الحملة الغازية في مايو (1871) إلى رأس تنورة كأول محطة لها على ساحل شرق الجزيرة العربية، ومنه انطلقت إلى القطيف، وبدأت المقاومة السعودية من حاميات القطيف والدمام في محاولة منها للوقوف أمام تقدم تلك القوة الغاشمة، ولكنها تعرضت لهجوم عنيف وقصف مدفعي مُركّز من البر والبحر، وأدركت المقاومة السعودية أنه لا فائدة من المواجهة في تلك المناطق الساحلية، بالإضافة إلى التفوق في العدد والعتاد، فتراجعت محاوِلةً كسب الجولة في أرض بعيدة عن الساحل كأسلوب استراتيجي.
وضع الإمام سعود بن فيصل حملة مدحت باشا في ظروف قاسية في الصحراء وما فيها من مخاطر عديدة، من حيث المناخ شديد الحرارة إذ لم يعتد عليه جنود الأتراك، وندرة المياه، وهجمات قبائل البادية، كل تلك الأمور كانت وراء تراجع الإمام سعود بن فيصل نحو الداخل.
قاومت هذه الاستراتيجية التي استخدمها الإمام فيصل للإطاحة بالحملة الغازية، وحاولت اللجوء إلى نقطة تتقوى بها، لذا سارت نحو إلى الأحساء احتلتها متجنبةً المواجهة مع جيوش السعوديين شرقًا. وبعد ذلك أصدر العثمانيون بيانًا باللغة العربية خُصص للسعوديين وورد في ديباجته الأولى “أيها الناس والعشائر الساكنون في الأحساء والقطيف وجهات نجد كافة..”، حاولوا من خلاله إيهام الناس وتبرير حملتهم وغزوهم بأنه لإعادة الأمن لربوع نجد، وأنهم حاولوا إرجاع الأمور إلى نصابها بالطرق السلمية إلا أنهم لم يُفلحوا في ذلك، ولذا اضطروا إلى إرسال العساكر إلى تلك الجهة.
دهاء الإمام سعود بن فيصل أربك حملة العثمانيين بعد أن استدرجهم إلى داخل الصحراء وأبعدهم عن مراكز الدعم والمساعدة.
حاول مدحت باشا تحييد الأهالي وخديعتهم بتطمينهم بطرق ساذجة حتى يبتعدوا عن صفوف المقاومة، بينما كان السعوديون على وعي بهذه الخديعة، وبأن ما حدث من غزو لم يكن إلا اعتداءً واحتلالاً سافرًا لجزءٍ من أراضي الدولة السعودية الثانية، خاصة عندما تعمّد مدحت تحفيز الباب العالي بالموافقة على الحملة بنقل صورة عما يستطيع تحقيقه من نتائج استعمارية في أراضي السعوديين.
واجه الإمام سعود بن فيصل الأتراك بالسياسة تارة وبالحرب تارة أخرى، وسعى إلى طرد الأتراك وتهديدهم برسائله وإنذارهم بقوة السعوديين، وأنهم أهل حرب وجهاد وطالبهم بالانسحاب الفوري من المناطق التي احتلوها.
وعمليًّا قام الإمام باتخاذ بلدة جودة (شمال غرب الأحساء) قاعدة لشن الحملات العسكرية وقطع طرق الإمدادات المتجهة إلى الغُزاة الأتراك المحتلين للأحساء، مستعينًا بإيمان السعوديين بضرورة طرد المحتل في تلك الجهات من البادية المستوطنة في المنطقة، كما اتصل بالسعوديين في الأحساء واعدًا إياهم بالتحرر من الظلم العثماني، وهو ما زعزع المحتل من الداخل والخارج، مما دعا العثمانيين إلى تقوية حامياتهم في الهفوف والقطيف تحسبًا لأي هجوم قد يشنه عليهم الإمام سعود بن فيصل.
وقد وصل الحال بمدحت باشا في محاولاته لإيقاف عمليات الإمام سعود أن أرسل برسالة إلى شيخ البحرين يطلب منه السماح له بإنشاء قاعدة عسكرية، لوقف أي مقاومة سعودية، إلا أن شيخ البحرين لم يستجب لطلبه، فأزعج ذلك العثمانيين الذين وعوا قوة الإمام سعود بن فيصل في فرض سلطته في المنطقة رغم وجود حاميتهم في الأحساء، وزادت شكوك الأتراك في نيته في التفاوض معهم مستقبلاً، خاصةً حينما استجمع الإمام سعود بعدها قواه وقواته بصورة كبيرة، وقرر مهاجمة الأحساء والقطيف بجيشين كبيرين للضغط على الأتراك في كلا الجهتين.
حاول مدحت والي العراق إقناع العثمانيين بقدرته على الانتصار، فكان فشله أعظم ممن سبقوه من الغُزاة.
ووُضعت الخطة بأن تجري مهاجمة الأتراك في الحاميتين في وقتٍ واحد، إلا أن الأمور لم تأت كما كان مخططًا لها، مما فتح باب التفاوض مع الأتراك كما كانوا يطمحون، ولكنهم كعادتهم لا يحترمون العهود والمواثيق.
- بدر الدين الخصوصي، دراسات في تاريخ الخليج العربي الحديث والمعاصر (الكويت: ذات السلاسل ، 1988).
- جمال زكريا قاسم، الخليج العربي دراسة لتاريخ الإمارات العربية 1840-1914م (القاهرة: جامعة عين شمس ، 1966).
- جون . ب. كيلي، بريطانيا والخليج، ترجمة: محمد امين عبد الله (القاهرة: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1979).
- عبد الله العثيمين، تاريخ المملكة العربية السعودية، ط 12 (الرياض: مكتبة العبيكان، 2003).
- عبد الفتاح أبو علية، تاريخ الدولة السعودية الثانية (الرياض: دار المريخ، 1991).
- عبد الله السبيعي، التصدي السعودي للحكم العثماني للأحساء والقطيف 1288-1331ه/1871-1913م دراسة وثائقية (الرياض: مطابع الجمعة الالكترونية، 1999).
- مذكرات مدحت باشا، ترجمة: يوسف كمال حتاته (القاهرة: المطبعة الهنديّة، 1913).
- محمد عرابي نخله، تاريخ الأحساء السياسي 1818-1913م (الكويت: ذات السلاسل، 1980).
لم يؤخر طردهم سوى المدد الخارجي
الإمام عبدالرحمن بن فيصل أرعب العثمانيين بحصرهم في الأحساء
أدار أئمة الدولة السعودية الثانية مواجهتهم مع العثمانيين في أكثر من موقع ومعركة، تارةً بالحرب وأخرى بالسياسة، إضافةً إلى بعض الاضطرابات التي كانت في الداخل من بعض الزعامات. وحين تسلَّل العثمانيون من جديد إلى شرق البلاد السعودية، وفي الأحساء تحديدًا، مستخدمين أسلوبهم القديم في الاختراقات التي تُقاد من خلال الحملات العسكرية، فوجئوا بردة الفعل السعودية العنيفة التي أربكت وجودهم، مما اضطرهم إلى التخفي من وجه السعوديين ومواجهتهم في المعارك بعد أن احتلوا بعض البلدات وتخفوا فيها من خلال حامياتهم التي لم تكن بالقوة التي تفرض إرادتها على السعوديين. وفي مهمةٍ غاية في الأهمية وصل الإمام عبد الرحمن بن فيصل إلى بغداد مبعوثًا من أخيه الإمام سعود بن فيصل عام (1871) بعد أن ألحَّ العثمانيون على المفاوضات، وكان أول عمل سياسي رسمي باسم الدولة السعودية الثانية للإمام عبدالرحمن، بهدف مفاوضة الوالي العثماني وممثل العثمانيين مدحت باشا على استعادة الأحساء لصالح الدولة السعودية، لكن الوالي العثماني رفض أي مفاوضات ولم يكن لديه أي استعداد للتفاهم لسحب قواته من الأحساء، علمًا بأن المفاوضات كانت بطلبٍ منه شخصيًّا، وبإلحاحٍ امتدَّ لفترة طويلة.
ولأن العثمانيين اعتادوا خيانة العهد، والعمل بلا شرف في ضروب السياسة ولا أخلاق ولا دين، قام مدحت بفرض الإقامة على الإمام عبدالرحمن عنده، رغم أنه وصله مبعوثًا من الإمام سعود للتفاوض، ليبقى الإمام رحمه الله مقيمًا بقوة إجبار مدحت في بغداد قرابة عامين.
وتأمل مدحت باشا أنه بما قام به مع الإمام عبدالرحمن سيُهدئ ذلك من مقاومة السعوديين لهم في الأحساء، التي ينظر إليها العثمانيون بأن لها أهميةً كبرى في استراتيجيتهم لفتح باب الوصول إلى المحيط الهندي، لتكون طريقهم البحري الوحيد للتجارة مع الهند والصين وبقية الشرق، كما أن الأحساء هي ميناء الدولة السعودية الثانية في تلك الأيام، ومن خلالها كانت تتنفس وتدير تجارتها مع بقية نواحي الخليج العربي، ومن هنا يأتي الحرص التركي في عدم التفريط بها وبذل الجهد وإرسال الجيوش للاستيلاء عليها من دولتها السعودية، وإبقاء الحاميات التركية مسيطرة عليها.
في أوائل شهر أغسطس عام (1874) وصل الإمام عبدالرحمن بن فيصل إلى البحرين قادمًا من البصرة عن طريق البحر، ومعه عشرة أشخاص من أتباعه المخلصين، ولدى وصوله إلى البحرين استُقبل بحفاوة من أميرها الشيخ عيسى بن علي آل خليفة. وعندما سمع كثير من السعوديين الموجودين في البحرين بقدومه اتصلوا به، ومن فوره بدأ الإمام بالتواصل وبدأ في بناء أولى خططه وتجهيز تحركاته لطرد العثمانيين من الأحساء، وقد ضج المكان الذي أقام فيه الإمام عبدالرحمن في البحرين بالسعوديين، وكان كثير منهم ممن ينزلون إلى البحرين للتجارة يأتون للسلام على الإمام.
علم قائد الغُزاة العثمانيين بالأحساء بما كان الإمام عبد الرحمن يقوم به من نشاط سياسي وعسكري؛ فأصابه القلق مما سمع من استفسارات رُسل الإمام عبدالرحمن، وعن موقف السعوديين المؤيد لإمامهم، وأدى توجس العثمانيين إلى قيام الوالي التركي بتحذير حاكم البحرين الشيخ عيسى بن علي آل خليفة من وجود الإمام عبدالرحمن في البحرين، وكتب إليه في أكتوبر (1874)، رسالة قال فيها: “تلقيت استخبارات فحواها بأن عبدالرحمن الفيصل وفهد بن صنيتان موجودان في البحرين حاليًّا، وتقودهما نواياهما السيئة هادفة خلق اضطرابات ضد الحكومة التركية كما تميل تصرفاتهما إلى التمرد، وأنت تساعدهما … فكان من الضروري أن أحذرك”.
شكّلت الأحساء أهمية كُبرى في الأطماع العثمانية لموقعها الفريد ودورها في النقل البحري العالمي.
وحين علم الإمام عبد الرحمن بن فيصل بفحوى رسالة قائد الحامية العثمانية التي كانت تتوجس خيفة من أي تحرك سعودي، غادر البحرين وتبعه خمسون شخصًا من السعوديين لإيمانهم بعدالة الإمام وقدرته على طرد المحتل العثماني.
قاد الإمام عبدالرحمن بن فيصل السعوديين إلى مهاجمة الأحساء، ليتمكّن من دخول مدينة الهفوف محاصرًا جنود العثمانيين داخل القلعة، وقد سقط عدد كبير من العثمانيين على أسوار الهفوف على يد قوات الإمام وحوصر الباقي منهم، وانتصر الإمام بعد هذه الحادثة؛ فاستدعى الأتراك قوات كبيرة من خارج الأحساء، وصلت في أواخر ديسمبر (1874)، في محاولة للتخفيف من الحصار الذي ضربه الإمام على الغُزاة داخل الهفوف، ورغم محاولة الإمام عبدالرحمن وجنوده مقاومة المدد العثماني، إلا أن العدد الكبير والمعدات النوعية التي يمتلكونها حالت دون النصر النهائي، ورأى الإمام بعدها أن الانسحاب إلى الرياض أفضل قرار استراتيجي في هذه الحالة، وحين وصل إلى الرياض كان الإمام سعود ابن فيصل قد اشتدّ به المرض وتوفي في 25 يناير (1875) رحمه الله.
ومما أثبتته الحروب المتتالية في الأحساء بين السعوديين والعثمانيين أن السعوديين في كل مكان من أرضهم أقوى من جيوش الدولة العثمانية مهما أخل ميزان العدد والعتاد، بدليل الانتصارات التي يحققها السعوديون رغم قلة عتادهم ومواجهة المدد الذي لا ينقطع من الأتراك العثمانيين، تُثبت وثيقة تاريخية نشرتها صحيفة الشرق الأوسط، وهي عبارة عن رسالة من أحد العثمانيين إلى فرحان بن خيرالله عامل الدولة السعودية في الأحساء، وقد وصفت الشرق الأوسط الوثيقة بـــ: “في هذه الوثيقة ما يؤكد الاعتراف العثماني الواضح أن منطقة الأحساء هي من الأقاليم التي تتبع آل سعود، ومن ثم فهي ليست مقاطعة تابعة لمتصرفية البصرة العثمانية ولا لأية سلطة غير حكّام وسط الجزيرة العربية منذ القدم، وحتى خلال فترة الفراغ السياسي ما بين الدولة السعودية الثانية والثالثة”.
انطلق الإمام عبد الرحمن بن فيصل من البحرين ليربك غُزاة الأتراك في الأحساء.
وبيَّنت الوثيقة العثمانية ضعف حيلة الأتراك أمام قوة السعوديين في أراضيهم، بكيل كثير من العبارات المتناقضة بين الترغيب والتهديد، مما يدلل على ضعف الحيلة التي حاصرتهم، إذ لم يكن أمامهم سوى فتح باب الحوار والتفاوض؛ لأنهم آمنوا بما يمتلكه السعوديون من قوة إيمان بوطنهم، رغم قلتهم مقارنة بالقوات الغازية، وضعف عتادهم وأسلحتهم مقارنةً بالأسلحة التركية التي كانت متطورة بشكلٍ ملحوظ عما كان يمتلكه السعوديون.
- عبد الله العثيمين، تاريخ المملكة العربية السعودية، ط12 (الرياض: مكتبة العبيكان، 2003).
- عبد الفتاح أبو علية، تاريخ الدولة السعودية الثانية (الرياض: دار المريخ، 1991).
- عبد الله السبيعي، التصدي السعودي للحكم العثماني للأحساء والقطيف 1288-1331ه/ 1871-1913م دراسة وثائقية (الرياض: مطابع الجمعة الإلكترونية، 1999).
- مذكرات مدحت باشا، ترجمة: يوسف كمال حتاته (القاهرة: المطبعة الهنديّة، 1913).
- محمد عرابي نخله، تاريخ الأحساء السياسي 1818-1913م (الكويت: ذات السلاسل، 1980).
- اكتشاف وثيقة عثمانية نادرة بخط عربي تصحح خطأً تاريخيًّا ظل مثيرا للجدل، صحيفة الشرق الأوسط، الاثنيـن 24 نوفمبر (2003)، عدد رقم (9127).
حاول العثمانيون استغلال شرق الجزيرة بعد افتتاح قناة السويس
صحَّح السعوديون مفهوم الدولة الإسلامية الذي شوهه العثمانيون قرونًا من الزمن
المتتبع للتاريخ وتحولاته يكشف السر الذي جعل العثمانيين يكثفون حملاتهم على الجزيرة العربية ووسطها بدايات القرن التاسع عشر الميلادي بعد قرونٍ من الإهمال المتعمد، إذ لم يهتم العثمانيون كثيرًا بداخل شبه جزيرة العرب، إلا بعد أن طردهم السعوديون وحرروا الحرمين الشريفين من احتلالهم.
سياسة الدولة العثمانية تغيرت بعد ذلك تجاه داخل الجزيرة مع بروز نجم الدولة السعودية الأولى، ثم إعادة إحيائها من جديد في الدولة السعودية الثانية، مما جعل العثمانيين يكونون أكثر إلحاحًا في غزو أراضي السعوديين.
يرى المؤرخ الفرنسي الشهير هنري لورانس أن الصدام بين آل سعود والعثمانيين كان حتميًّا، نتيجة أن آل سعود لم يعترفوا بالدعاية العثمانية المزيفة التي روَّجوا لها وسوغوا بها استنزافهم العالَمَ العربي، من خلال مسوغات دينية غير صحيحة وفق الفهم التركي المشوه، الذي أراد تشويه الذاكرة الدينية الإسلامية النقيَّة، ويقول هنري: “… والحال أن الموحدين الذين يسميهم أعداؤهم بالوهابيين إنما يرفضون سلطة السلطان العثماني وزعمه ممارسة مهام خليفة المسلمين”، ويشير هنا إلى رفض آل سعود المفهوم المشوَّه للخلافة الذي يروج له العثمانيون، لأن الخلافة في نظرهم عربية خالصة قائمة على الشورى.
ورغم الغزو العثماني الغاشم في عصر الدولة السعودية الثانية، لا سيما على يد خورشيد باشا، ونفي الإمام فيصل بن تركي إلى مصر، إلا أن الأخير استطاع العودة إلى نجد، واستعادة قوة الدولة السعودية الثانية من جديد، ويجمع المؤرخون على أن الدولة السعودية الثانية بلغت منذ منتصف القرن التاسع عشر درجة كبيرة من القوة لفتت بها نظر القوى الدولية في العالم.
الصراع بين العثمانيين والسعوديين أمر حتمي نتيجة عدم اعتراف العرب بخلافة الأتراك
ويشير المؤرخ المصري السيد رجب حراز إلى أمرٍ مهم يختص بسياسة الدولة العثمانية تجاه الدولة السعودية، فيقول: “لم تلبث الدولة العثمانية أن انتهزت فرصة انسحاب القوات المصرية من الحجاز ونجد واليمن، وانتهاء الوجود المصري من شبه الجزيرة العربية عام 1840، فحاولت غزو المناطق التي لم تخضع لها إبان العصر العثماني الأول، أو التي خضعت لها ثم استقلت عنها، ومن ثمّ فقد شهد العصر العثماني الثاني محاولات متتالية من جانب الأتراك لسد الفراغ بعد انسحاب محمد عليّ، وهي محاولات كانت تصطدم بالقوى المحلية النامية”.
من هنا عملت الدولة العثمانية- لا سيما والي بغداد- على الاستفادة من الاضطرابات الداخلية بعد وفاة الإمام فيصل بن تركي -رحمه الله، حيث حاول والي بغداد مدحت باشا إذكاء الاضطرابات، وتُجمِع المصادر على أنه كان يطمع في الاستيلاء على الأحساء ونجد مباشرةً.
أرسل مدحت باشا حملته لفرض النفوذ العثماني في المنطقة، وصاحب هذه الحملة إعلانًا منه إلى أهل نجد يدعوهم إلى الطاعة، ويقول فيه: “إن نجد من الممالك المقدسة الراجعة إلى الدولة العثمانية، وإن كانت الدولة قد تغافلت عنها حينًا من الزمن، فقد كان ذلك لإنشغالها عنها، ونتج عن ذلك استحكام الفوضى في داخلها، وأن الدولة تتدخل الآن لإصلاح ما فسد”. علمًا بأن العثمانيين لم يكن لهم أي سلطة على وسط الجزيرة العربية من المرحلة التي طرأوا فيها على التاريخ حتى يقول بأنها تعود إلى العثمانيين.
وحقيقةً لم يكن غرض مدحت باشا إصلاح الأمور، بقدر تغير سياسة الدولة العثمانية ونظرتها إلى الخليج العربي بعد افتتاح قناة السويس عام (1869)، من هنا بدأت رغبة الدولة العثمانية في إثبات وجودها ضمن هذا الشريان الحيوي “الخليج العربي” الذي تتصارع عليه العديد من القوى الدولية، ومن هنا تأتي المواجهة الحادة من جانب الدولة العثمانية للدولة السعودية الثانية، والتلاعب بالقوى المحلية وضرب بعضها ببعض من أجل تأكيد السيادة العثمانية على المنطقة.
أكد المؤرخون أن الدولة السعودية الثانية بلغت من النفوذ والقوة ما لفت أنظار الدول العظمى
- هنري دودويل، الأزمات الشرقية، المسألة الشرقية واللعبة الكبرى (1768- 1914)، ترجمة: بشير السباعي (الكويت: آفاق للنشر والتوزيع، 2018).
- السيد رجب حراز، الدولة العثمانية وشبه جزيرة العرب (1840- 1909) (القاهرة: د.ن، د.ت).
- محمد عرابي نخله، تاريخ الأحساء السياسي 1818-1913م (الكويت: ذات السلاسل، 1980).
- عبد الله السبيعي، التصدي السعودي للحكم العثماني للأحساء والقطيف 1288-1331ه/1871-1913م دراسة وثائقية (الرياض: مطابع الجمعة الإلكترونية، 1999).
- مذكرات مدحت باشا، ترجمة: يوسف كمال حتاته (القاهرة: المطبعة الهنديّة، 1913).