عار الأندلس
الذي يهرب منه العثمانيون الجدد!!
سؤال دائمًا ما يتردد بين الباحثين والمؤرخين لماذا خذل العثمانيون دولة الأندلس، التي شكلت خلافة أموية أخرى في إسبانيا الحالية، سؤال بعيدٌ جدًّا عن عوام العرب والمسلمين الذين غيبت عنهم الحقائق عمدًا، لسبب يكمن في أجندة العثمانيين الجدد، ومن المناسب كشفه وتسليط ضوء التاريخ عليه.
فقد لا يعرف الكثير أن الأسطول العثماني بحجمه الكبير – حينها – كان مرابطًا بين ليبيا والجزائر لترسيخ سيطرة العثمانيين على الأقاليم المغاربية، وكان سهلاً عليه نجدة الأندلسيين لو أن السلطان بايزيد الثاني استمع لبكاء الأطفال وعويل النساء ورجاء الوفود التي جاءت على عجل حتى وقفت بين يديه واسترحمته وطلبت دعمه، لكنها عادت مكسورة الخاطر من خذلان من اعتقدت أنهم إخوة في الدين.
دعونا نعود بالذاكرة إلى الخلف أكثر من خمسة قرون، إلى العام 1480 م تحديدًا، كانت هناك ثلاث عواصم عربية وإسلامية مهمة، تَسُود المشهد في الإقليم من مكة المكرمة وحتى شمال الأناضول، ثم مصر وانتهاء بالأندلس.
أولا: القاهرة مقر الخلافة العباسية في رحلتها الثانية عقب سقوط بغداد وانتقالها إلى مصر تحت حماية المماليك، وشهدت في تلك الرحلة من تاريخها تمدُّدًا حتى وصلت إلى شمال سوريا ولبنان وفلسطين والحرمين الشريفين.
ثانيا: غرناطة في الأندلس إذ شَكَّلت مع بقية الإمارات الأندلسية خلافةً أموية أخرى عوضًا عن تلك التي سقطت في دمشق، وأخيرًا إسطنبول عاصمة السلطنة العثمانية التي كانت دائما ما تنظر إلى العالم من خلال عيونها الأوربية في بلغاريا وألبانيا والبوسنة، جازمة أنهم امتدادها الطبيعي، ولم تكن أبدًا تعطي للعرب أهمية ولا شأنًا، فهم في العقل الجمعي “التركي العثماني” أقل مكانة حتى هزمت على أيدي الفرنسيين وأصبحت السلطنة تحت تهديد الفقر وتعثّرت مواردها، فاتجهت أنظارها جنوبًا حيث البلاد العربية المليئة بالخيرات، لتدخل في حرب طاحنة مع المماليك للسيطرة على دولتهم والاستيلاء على ثرواتهم.
لعبة التزوير التاريخي التي دأب على أدائها الأتراك والعثمانيون الجدد خاصة، لعبةٌ ممجوجة لا يمكن قبولها، وإذا كانت الدراما التركية تغسل عقول العوام فمن حقهم أن يعرفوا الوقائع كما حدثت لا كما تصورها استوديوهات أردوغان في شواطئ أنطاليا.
وصورة السلطنة العثمانية وتوظيفها سياسيًّا في العالم العربي تحديدًا مهمة واسعة يقوم بها الحكم التركي الحالي وفلول الإسلام السياسي المنخرطون في مشروع إعادة الهيمنة العثمانية من جديد.
وإعادة ترميم تلك الصورة تأخذ وجهين، الأول: يأتي من فهم العثمانيين الجدد للفضائح التي ارتكبتها السلطنة في حق المسلمين، والإخفاقات السياسية التي ارتكبها السلاطين في حق جيرانهم العرب على وجه الخصوص، وعلى رأس تلك الإخفاقات قضيتي الأندلس وفلسطين، ولذلك يحاولون ردم تلك التشوهات وإعادة بناء صورة جديدة مزوقة تغمرها الرومانسية والاستناد -دائمًا- على مفهوم الخلافة الذي يتمتع عند كثير من المسلمين بعلاقة وجدانية رومانسية.
الثاني: يسعى إلى بناء صورة غير حقيقية وتقديم مُسَوِّغات سياسية وعسكرية وهمية لمواقف السلاطين من القضايا الإسلامية المصيرية في سعيهم إلى إعادة هيمنة العثمانيين على الممالك القديمة تحت مسمى الخلافة الجديدة، في العراق والشام والجزيرة العربية ومصر وشمال إفريقيا التي احتلوها طوال أربعة قرون.
واحدة من القضايا الكبرى والإشكاليات العالقة بتاريخ الأتراك والتي لا يمكنهم تجاوزها أو التحايل عليها هي علاقتهم بالأندلس وخذلانهم لها ولأهلها، ولذلك يريدون إبقاء تلك العلاقة في منطقة معتمة لا يسمحون لأحد بتناولها ولا تسليط ضوء التاريخ عليها.
إنها الأندلس تلك البقعة الإسلامية العربية التي تخلى عنها سلاطين بني عثمان وتركوها للإسبان ومتطرفي المسيحية عن قصد، على الرغم من أن الأندلسيين سارعوا بطلب النجدة من إسطنبول متوقعين أن الأخوة الإسلامية والنخوة ستدفعهم إلى نجدتهم، لكن سلاطين بني عثمان تركوهم لمصيرهم المشؤوم.
فالذي يقوم به العثمانيون الجدد لم يكن إلا توظيفًا سياسيًّا يُوجَّه إلى عوام المسلمين وليس أكثر، لخدمة مشروعهم في إعادة احتلال وجدان المسلمين والعرب قبل الوصول إلى الاحتلال العسكري والسياسي، ولذلك من المهم عندهم تنظيف سمعتهم وسمعة أسلافهم من السلاطين وقادة الجيوش وغسل العار الذي لحق بهم، لكن تلك المحاولات تصطدم دائمًا بالحقيقية التاريخية التي لا يمكن تغييرها.
والأدهى في علاقة السلطنة العثمانية بسقوط الأندلس المدوي، أنهم استقبلوا اليهود بمئات الآلاف في أقاليمهم وقدموا لهم الحماية والرعاية كما يقول ذلك أردوغان بنفسه، لكنهم لم يستقبلوا أندلسيًّا واحدًا من الذين هربوا من عذابات سقوط دولتهم، فقط لأنهم عرب.
فالذين لا يعرفون تاريخ العثمانيين الحقيقي في خذلان مسلمي الأندلس وتركهم لمصيرهم سيُصدمون كثيرًا من تفاصيل تلك الفضيحة، مع فرض إسبانيا أسوأ أنواع التعذيب والاضطهاد ضد مسلمي غرناطة وغيرها من البلدات وإجبارهم على تغيير دينهم وأسمائهم؛ ولم يكن أمام أهل الأندلس بعدما ضاقت بهم الأرض سوى الاستعانة بالدولة العثمانية –كما توهموا- فبدأوا بإرسال الوفود والسفراء إلى قصر السلطان بايزيد الثاني، مقدمين بين يديه كل أنواع التبجيل والتفخيم التي كانت لِزَامًا على كل من يقابله، وألقوا قصائد تفطر القلب تحمل في تفاصيلها مشاعر النفوس التي تهشمت وتشردت ولاقت مصيرًا لا يمكن تحمله.
مع ذلك تركهم بايزيد ولم يرسل معهم جنديًّا واحدًا، لم يعلن النفير العام، لم يرسل المدد ولا الإعانات، بل تفرغ هو ابنه سليم الأول لحرب دولة المماليك حتى أسقطوها، لتسقط خلافتان في نفس الوقت، الخلافة الأموية في الأندلس والعباسية في مصر، لقد قدم العثمانيون مصلحتهم وتوقهم إلى سرقة الخلافة على الحفاظ على الوحدة الإسلامية فخذلوا الأندلسيين واستولوا على خلافة العرب.