الأتراك والفرس في مواجهة العرب

تقاطعات عنصرية على تهجير البشر واحتلال الحجر

إن مظاهر الاستعلاء الفارسي والتركي تجاه العرب لا يمكن تفكيكها في مقالة أو مقالتين، وإنما الأمر يحتاج إلى أبحاث ومجلدات من أجل استيفاء “الظاهرة” حقها من التحليل والفهم. والثابت أن اعتناق الفرس والترك للدين الإسلامي لم يُخمِد عقيدة الحقد والكراهية تجاه الفاتحين الأوائل، بل اعتبر بعضهم أن الإسلام كان سببًا في رفع العرق العربي إلى مصافِّ التسيُّد والسيادة، وهو ما ترفضه روح الإسلام الذي لا يفرق بين عربي ولا أعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى.

وارتباطًا بمحاولات انسلاخ الفرس عن الإسلام، ومحاولات تأسيس هوية تعريفية خاصة، “أنحى المفكرون العلمانيون الواعون لتخلف إيران وعجزها إذا قورنت بالغرب جانبًا من لائمة التخلف الإيراني على الإسلام، ودفعهم ذلك إلى السعي لتأسيس تعريف جديد أكثر أصالة ومصداقية لمفهوم (الإرْيَنَة) بُني على الماضي ما قبل الإسلام”.

إن رفض الفرس للتدين الذي حمله العرب من قلب الخلافة الإسلامية إلى أطرافها لن يقف عند هذا الحد، بل تعداه ليرتقي إلى مستوى الحقد الوجودي على كل ما هو عربي، والذي يبقى في نظر بعض عُتاة المتشددين الفرس المسؤولَ الأول عن انهيار عقيدة الشمس والنار.

وهذا ما جعل ميرزا كرماني (1853- 1896) يرى في الإسلام “دينًا غريبًا فرضته على الأمة الآرية النبيلة.. حفنة من آكلي السحالي، الحفاة العراة، بدو يقطنون الصحراء، إنهم العرب المتوحشون، ما جلب دمار الحضارة الإيرانية”.  

وإذا كان تروتسكي قد رأى في الحقد “أسهل معاول الصراع الطبقي”، فإن الفرس رأوا في هذه العقيدة السلوكية أحد أهم معاول الصراع الحضاري، وبالتالي فإن استمرار أي طرف لا يمكن أن يتم إلا على أنقاض الطرف الآخر، وهنا تبنَّى الفرس عقيدة متطرفة تتلخص في اعتبار الكرة الأرضية لا تتَّسع لهذين العِرقَين، وبالتالي وجب مسح المكون العربي جنسًا ولسانًا وحضارة.

إن التراكم السلوكي السلبي دفع الفرس إلى العمل على ابتلاع الأراضي العربية، بدءًا من الأحواز، حيث اجتهدوا في حرمان العرب من امتلاك الأراضي الزراعية ومصادرة جميع الأراضي التي كانوا يملكونها، وكذلك العقارات.

على الجهة المقابلة لم يختلف تعامل الترك مع العرب عن تعامل الفرس، فبالرغم من وجود تقاطعات عقدية سُنية بين جمهور العرب والترك، فإن ذلك لم يمنع الأتراك من تبنِّي عقيدة عِرقية استعلائية تجاه العرب، خاصةً أنهم رأوا في العرب الحاضنة الشرعية للرسالة السماوية التي نزلت بين ظهرانيهم، ودافعوا عنها بالنفس والمال والجهد، وكانوا خير سند للرسول محمد صلى الله عليه وسلم حتى عمت رسالته ربوع العالم.

إن بدايات القرن السادس عشر الميلادي عرفت انطلاق التنزيل المادي للإستراتيجية التركية في حق العرب، حيث عانى هؤلاء من حكم العثمانيين “الذين جلبوا إلى دمشق الخوازيق منذ بداية احتلالهم عام 1516م، ووزعوها على كل حارة من أجل نشر الرعب بين السكان، فكان من يجرؤ على انتقاد السلطة الجديدة مصيره “الخزوقة””.

ولعل ما قام به الأتراك في حق العرب تجاوز ما قام به المستعمر غير المسلم (إذا ما اقتصدنا في العبارات)، على اعتبار أن الاستعمار الغربي كان يريد نهب خيرات العرب مع محاولة نسج علاقات ودية ومتداخلة معهم، ولعل هذه الإستراتيجية جعلت العرب يقاومون الاستعمار الغربي، وفي الوقت نفسه ينفتحون ويمتحون من تجاربه ويستفيدون من خبراته في مجموعة من المجالات.

وعلى النقيض من ذلك يُجمع المؤرخون أن الوجود العثماني في المنطقة العربية خلق حالة من “السبات الحضاري” امتدت في بعض المناطق لقرون من الزمان، ذلك أن الأطماع التركية في المنطقة لم تعكس الشعارات التي رفعها آل عثمان، بل على النقيض من ذلك كان دخولهم إلى المنطقة إيذانًا ببداية تنزيل عقيدة عنصرية حاقدة واستئصالية.

إفرازات عنصرية للقوميتين الفارسية والتركية؛ كان كره العرب محورها

في هذا الصدد نجد أحد مؤرخي دمشق، وهو شمس الدين بن طولون، يصف دخول الأتراك إلى دمشق فيقول: “هجمت العساكر الرومية على دمشق وضواحيها للسكنى، وأخرجت أناسًا كثيرة من بيوتهم، ورُمِيَت حوائجهم ومؤنهم، وتعرَّضوا لشدة لم تقع على أهل دمشق من قبل”، ويضيف قائلًا: “جرى ترحيل أهل قيسارية القوّاسين في دمشق، وتحويل محلتهم إلى مطبخ السلطان سليم، فيما صدر أمر سلطاني بمصادرة جزء كبير من القمح والشعير من بيوت أهل دمشق، وكتب الدفتردار إلى كل عشر قرى مرسومًا بإحضار رؤسائها وأكابرها ومعهم الخدم، فحضروا، فطلب منهم مغل (محصول الأرض) هذه السنة”.

إن هذه المشاهد لم تكن لتشكِّل الاستثناء في تعامل الأتراك مع العرب، وإنما كانت القاعدة والسُّنة التي رسَّخها هؤلاء في المنطقة طيلة مدة احتلالهم للبلاد العربية، وهو التصرف العنيف الذي دفع العرب بصفة عامة، وعرب نجد والحجاز بصفة خاصة، إلى إعلان الحرب ضد الاحتلال العثماني، والانتصار لأصالة الدين الإسلامي وتطهير الجزيرة العربية من قوة استعمارية كان الانتصار للدين آخر هَمِّها وتطوير المنطقة آخر اهتماماتها. 

  1. جويا بلندل، صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث (عمَّان: الأهلية للنشر والتوزيع، 2007).

 

  1. حسين مجيب المصري، صلات بين العرب والفرس والترك (القاهرة: الدار الثقافية للنشر، 2001).

 

  1. سيار الجميل، العثمنة الجديدة.. القطيعة في التاريخ الموازي بين العرب والأتراك (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015).

 

  1. محمد بن طولون، مفاكهة الخلان في حوادث الزمان (بيروت: دار الكتب العلمية، 1998).

اتفق الفرس والترك

على تجويع وتهجير العرب من أراضيهم

ما هو المتشابه والمختلف بين الفرس والعثمانيين في تعاملهم مع الإنسان العربي واضطهاده؟

سؤال كبير بحجم الأذى والدمار والدماء والقتل والتغريب الذي لحق بالعرب الذين لم يكن ذنبهم إلا أنهم وقعوا تحت الاحتلال أو الإدارتين الفارسية والعثمانية، احتلال مدمر استمر ما يقارب أربعمائة عام.

الإنسان العربي عانى من أمَّتَين كان قدره أن يحمل لهما الإسلامَ ويُخرجهما من الظلمات إلى النور، بنشره لرسالة الإسلام وهديه، وكان جزاؤه على أيديهم الاحتلال والترحيل والتهجير والتجويع وفرض التخلف، إنها النظرة الاستعلائية التي لم ترضَ أن يحمل الإسلام العرب، ويكون النبي عربيًّا.

(1505) بداية سنوات الشؤم العربي:

لم يكن ظهور الدولتين الصفوية والعثمانية في المدار العربي إلا نذير شؤم استمر لأربعة قرون بعدها، ولا تزال تبعات ذلك الاحتلال ظاهرة لليوم في بعض الأقطار العربية التي تجاور الأمتين الفارسية والتركية، ففي العام (1507) احتل الصفويون مدينة ذي قار العراقية، الموالية للمماليك، ليضعوا أقدامهم على أرضٍ عربية خالصة، بعدما كانوا يعيشون في بَوادي خرسان، إنها الأمنيات القديمة التي لطالما عاشها الفرس منذ سقوط عرشهم في معركة القادسية.

الأتراك العثمانيون اشتبكوا أيضًا مع المماليك العام (1516) في موقعة مرج دابق الشهيرة، وسقطت الأراضي العربية واحدة تلو الأخرى في أيدي الاحتلال العثماني، التي تحوَّلت إثر ذلك إلى مجرد أراضٍ ترسل المحاصيل والضرائب والرسوم إلى السلطنة، وأبناؤها العرب مجرد عمال في الحقول والمعامل يُنتِجون ليستمتع العثمانيون بالاحتلال.

لم يكن احتلالًا ناعمًا فرضه الفرس والعثمانيون، بل كان مليئًا بالأحقاد والتعالي والفواتير القديمة، التي أراد الأتراك والفرس من العرب سدادها لا لشيء إلا لأن العرب في نظرهم أمةٌ متواضعة الإمكانات، لا يحق لها أن تَسُود نفسها، فضلًا عن أن تسود أممًا أخرى.

نظرت عنصرية الترك والفرس للعرب على أنهم مكوِّن لا يستحق أن يعلو على قومياتهم.

التجويع والقهر:

اعتمد الصفويون والعثمانيون سواسية على سياسة الأرض المحروقة مع كل الأمم التي احتلوها، وخاصة الأمة العربية، وكانت المحاور الثلاثة التي يديرون بها الأرضي العربية هي المفضلة لديهم.

أولًا: التهجير والتفريس أو التتريك بديلًا للإنسان العربي، فالفرس في الأقاليم العربية اعتمدوا تهجير المواطن الأحوازي العربي من بلاده، وتغيير التركيبة السكانية وإبدالها بالعنصر الفارسي، أما الأتراك العثمانيون فقد فعلوا ذلك مرارًا، وكان التهجير والتغريب عقابًا دائمًا، ويُرسل العرب من بلادهم إلى بلغاريا والقرم وألبانيا وصربيا، وأغلب من يتم تهجيرهم لا يعودون، وفي الوقت نفسه يتم إبدال العنصر العربي بأتراك وموالين للدولة العثمانية.

ثانيًا: القتل والترويع، فكل من يخالف الأوامر أو يُبدي مقاومة يتم قتله أو عقابه بالخوازيق التي اشتهر بها العثمانيون، لقد كانت الحاميات والولاة الفرس والأتراك مجرد جلادين للإنسان العربي، استخدموا معه أقسى أنواع الاضطهاد والقتل والترويع.

ثالثًا: التجويع والعطش، فتخفيض منسوب مياه الأنهر ووضع السدود في طريقها لاحتجاز المياه التي تصب في الأقطار العربية، وتجفيف الأهوار العربية في العراق، هي سياسة قديمة لا تزال مستخدَمة مع جيرانهم العرب، الهدف منها منع العرب من التقدم أو حتى تحقيق الاكتفاء الذاتي من الطعام والمياه.

ففي تقرير نشره الباحث عبده الأسمري في صحيفة الجزيرة السعودية عن سياسة “الأرض العطشى” التي يتبعها الإيرانيون ضد عرب الأحواز: “شرعت إيران خلال الأعوام الأخيرة في تهجير أهالي الأحواز العرب من أقاليمهم؛ حيث حوَّلت المياه إلى استخدامات أمنية وحرب خفية على أهالي الأحواز العرب، من خلال خطط عدة لتدمير البيئة في الأحواز من خلال بناء السدود والتلوث الجوي وتجفيف منابع المياه، وأكَّدت الدراسات أن تجفيف المياه في الأحواز أدى إلى قطع أرزاق نحو أربعين قرية يقطنها الآلاف، الأمر الذي أدى إلى هجرة إجبارية”.

وفي بحث آخر منشور عبر منصة الحرة يتحدث عن تجويع الأطفال الأحوازيين العرب وتدمير مستقبلهم: “إن بعض أطفال الأحواز مُجبَرون على البحث في النفايات الصناعية عن مواد بلاستيكية وزجاجية لبيعها لمصانع إعادة التدوير، ويقوم أطفال آخرون ببيع المياه بنقلها على مسافات طويلة بحثًا عن مشترين، وحتى إن بعض الأطفال يصبحون باعة متجولين يبيعون الأزهار بجوار إشارات السير المزدحمة في أغلب الأحيان أو في المقابر المحلية، أو يعرضون غسل زجاج السيارة الأمامي”.

يصعب تحديد عدد الأطفال المُجبَرين على العمل، بما أن السلطات أو الجمعيات الخيرية الحكومية لا تنشر نتائج الإحصاءات، وهذه الجمعيات لا ترصد سوى الأطفال المسجَّلين لديها. وتقدم جمعيات دعمًا ماليًّا محدودًا، بالإضافة إلى عدد من الخدمات التعليمية البسيطة، ما لا يكفي لتخفيف معاناة هؤلاء الأطفال ولا عائلاتهم.

الاستيطان الإيراني في الأراضي العربية:

يكشف كتاب “الاحتلال الإيراني لإقليم الأحواز العربي وقرارات الأمم المتحدة والعقود الدولية لإنهاء وتصفية الاستعمار” جزءًا مهمًّا من التصرفات الإيرانية مع عرب الأحواز، وكيف تقوم السلطات الإيرانية بأعمال ممنهجة لفرض الاستيطان وتغيير التركيبة السكانية العربية، فقد بُنِيت الآلاف من المراكز السكانية في الأحواز لإبدال سكانها الأصليين بسكان ذوي أصول فارسية غير عربية، إن سياسة التهجير والترحيل تتجلى بشكل واضح في الأعمال الإيرانية مع عرب الأحواز”.

نقمة الاستيطان العثماني:

يصف المؤرخ الدمشقي الشهير محمد بن طولون في كتابه “مفاكهة الخلان في حوادث الزمان” دخول سليم الأول إلى دمشق – كنموذج لتعامل العثمانيين مع السكان والأراضي العربية التي يحتلونها- ما يلي (فغَرَّق، وقتل، وخوزق، وحبس)، كما يورد ابن طولون لقد كانت إقامة السلطان سليم الأول في أي مكان لعنة على أهله، كانوا يُطرَدُون من بيوتهم وتُصادَر أطعمتهم، ويُسَخَّرون لصالح خدمة السلطان، حتى سافر عن الشام إلى مصر كلُّ مَن له قدرة، والفقراء سكنوا الجوامع والمدارس مع أسرهم.

‎يقول أيضًا: “جرى ترحيل أهل قيسارية القوَّاسين في دمشق، وتحويل محلتهم إلى مطبخ السلطان سليم”، فيما صدر أمر سلطاني بمصادرة جزء كبير من القمح والشعير من بيوت أهل دمشق، وكتب الدفتردار إلى كل عشر قرى مرسومًا بإحضار رؤسائها وأكابرها ومعهم الخدم، فحضروا فطلب منهم مغل (محصول الأرض) هذه السنة، فتضرر أهل القرى وأربابها بذلك، كما ذكر ابن طولون.

توثيق شنيع لتعامل الأتراك مع السكان المحليين، وكيف أنهم حيثما يحلون يحل معهم الخراب والدمار والتجويع، وتتم معاقبة كل من يخالفهم بتهم النهب والسرقة، بعدما جوَّعوهم واضطروهم للبحث عن الطعام، ليأتي العقاب شنيعًا وقاسيًا من قتل وخوزقة وتغريق في المياه.

  1. رحيم حميد وياسر الأسدي، “أطفال الأحواز في إيران.. جياع ومتضرِّرون ومرغمون على العمل”، منصة الحرة، على الرابط: https://www.alhurra.com/

 

  1. عبده الأسمري، “إيران تستخدم المياه أمنيًّا لتهجير وتدمير البنية البيئية في الأحواز”، صحيفة الجزيرة السعودية، على الرابط: https://www.al-jazirah.com/

 

  1. عامر الدليمي، الاحتلال الإيراني لإقليم الأحواز العربي وقرارات الأمم المتحدة والعقود الدولية لإنهاء وتصفية الاستعمار (عمَّان: دار الأكاديميون للنشر والتوزيع، 2011).

 

  1. محمد بن طولون، مفاكهة الخلان في حوادث الزمان (بيروت: دار الكتب العلمية، 1998).
تشغيل الفيديو

إيران وتركيا

إدانة تاريخية لأعمالهم العنصرية ضد العرب

وقع العرب عبر التاريخ في شَرَك قوميتين: الفارسية العنصرية والتركية الطورانية، ولعل من أهم مظاهر التشابه بين السياستين الفارسية والطورانية اضطهاد العرب، ويظهر ذلك جليًّا في سياسات التهجير التي اتبعتها إيران وتركيا مع السكان العرب في المناطق العربية التي احتلوها، والجدير بالذكر أن سياسات التهجير القسري تعتبر في عرف القانون الدولي من أفظع الجرائم ضد الإنسانية.

وإذا حاولنا رصد وتتبع ذلك في السياسة الإيرانية فإن سياسة التهجير القسري تتضح جليًّا في الاضطهاد المتعمَّد من جانب طهران تجاه السكان الأصليين العرب في منطقة الأحواز، ويبدأ ذلك منذ الغزو الإيراني لإمارة المحمرة العربية، وضمِّها إلى أملاك الشاه عام (1925)، بتواطؤ صريح بين طهران وبريطانيا التي خذلت الشيخ خزعل الحاكم العربي الشرعي للبلاد.

الفارسية والطورانية: تشابَهت الأحقاد واتفقت السياسات العنصرية.

وفي مذكرة قانونية من وجهة نظر القانون الدولي يصف عامر الديلمي ضمَّ إيران للأحواز بأنه بمثابة “احتلال وفقًا لقرارات الأمم المتحدة والعقود الدولية لإنهاء الاستعمار”، من هنا يرى الديلمي أن إيران خالفت المواثيق الدولية التي تنظم وضع “الاحتلال”؛ إذ تطور وضع الاحتلال الإيراني ليتحول إلى “الاضطهاد الفارسي لعرب الأحواز”.

والحق أن طهران بدأت منذ وقت مبكر تنفيذ سياسات التهجير في محاولة منها لإحداث تغيير ديموغرافي واسع في منطقة الأحواز، فمنذ عام (1928) عمدت طهران إلى جلب آلاف العائلات من المزارعين الفرس إلى مناطق الأحواز، هذه المناطق التي تتميز بخصوبة أراضيها، لتبدأ عملية إحلال وتبديل في عناصر السكان.

ولعل أبشع مظاهر سياسة التهجير القسري والتمييز الديموغرافي هو تشجيع طهران قيام رجال الإقطاع من الفرس على سلب أراضي الفلاحين العرب البسطاء في الأحواز، ومالكي الأراضي من العرب العاملين في مهن أخرى، مثل موظفي الخدمات وسائقي الأجرة، وحاولت طهران تبرير هذا العمل المخالف لكل المواثيق الإنسانية بأنه تم تعويض هؤلاء العرب بأراضٍ أخرى في شمال إيران! وفي الحقيقة كانت طهران تسعى من وراء ذلك إلى دفع العرب إلى ترك موطنهم في الأحواز لصالح رجال الإقطاع الفرس، مما يعتبر في حقيقة الأمر نوعًا من أنواع التهجير القسري.

واستمرت سياسة التهجير القسري لعرب الأحواز في العصر الجمهوري بعد الثورة الإيرانية في عام (1979)؛ حيث تم تهجير عدة آلاف من العرب من موطنهم، وخاصة الأراضي الخصبة على طرفي نهر كارون، كما أنشأت طهران العديد من المستوطنات الزراعية في الأحواز وجلبت لها مستوطنين فرسًا من أجل المزيد من التغيير الديموجرافي في الأحواز لصالح العناصر غير العربية.

وقد أشارت منظمة العفو الدولية إلى ذلك في تقريرها: “إن السلطات الإيرانية تصادر مساحات شاسعة من الأراضي بهدف حرمان العرب من أراضيهم، ويندرج ذلك في سياق إستراتيجية غايتها نقل العرب بالقوة من أراضيهم إلى مناطق أخرى، وتسهيل انتقال غير العرب إلى عربستان”.

ولا تختلف السياسات التركية في هذا الشأن عن السياسات الإيرانية تجاه العرب، ولعل حادثة “سفربرلك” عام (1915) خير شاهد على ذلك؛ إذ احتلت القوات التركية بقيادة فخري باشا المدينة المنورة، في محاولة لضمها مباشرةً لتركيا، وعزلها عن بقية الحجاز، خشية اشتراك المدينة المنورة في الثورة العربية التي اندلعت بالفعل بعد ذلك في الحجاز، لكن ما يهمنا هنا هو سياسة التهجير القسري التي قامت بها القوات التركية تجاه سكان المدينة المنورة؛ إذ قام فخري باشا بتحويل المدينة المنورة إلى ثكنة عسكرية حصينة.

ويصف محمد الساعد ما قامت به القوات التركية من جريمة قائلًا: “إنها قصة أهالي المدينة المنورة المروعة مع جريمة “سفر برلك”، كارثة التهجير الجماعي والقسري التي طبقتها الدولة العثمانية في حق الآلاف من الرجال والنساء والأطفال، لتُخلِّف خلال خمسة أعوام مدينة منكوبة يسكنها 2000 من العسكر الأتراك، وبضعة عشرات من النساء والأطفال ممن حالفهم الحظ ونجوا من ذلك الترحيل الجماعي”.

وبالفعل قام فخري باشا بترحيل سكان المدينة المنورة قسريًّا إلى مناطق بعيدة عن وطنهم، سواء في الشام أو العراق أو تركيا، وأدَّت هذه الجريمة إلى ضرب النسيج الاجتماعي للمدينة المنورة لعدة عقود لاحقة”، ودخلت هذه المأساة ميدان الأدب؛ إذ قام الأديب السعودي مقبول العلوي بمعالجتها في رواية مهمة حملت عنوان “سفر برلك”.

واستمرت السياسة التركية فيما يتعلق بالتهجير حتى الآن، ويمكن أن نرصد ملامح ذلك في سياسة تركيا تجاه اللاجئين السوريين على أراضيها؛ إذ أعلنت منظمة هيومن رايتس ووتش أن السلطات التركية اعتقلت واحتجزت ورحَّلت بشكل تعسُّفي الآلاف السوريين اللاجئين إلى سوريا بين فبراير ويوليو (2022).

ودعت المنظمة تركيا إلى “إنهاء عمليات الاعتقال والاحتجاز والترحيل التعسفية للاجئين السوريين إلى شمال سوريا، وضمان عدم استخدام القوى الأمنية ومسؤولي الهجرة العنف ضد السوريين أو غيرهم من الأجانب المحتجزين، ومحاسبة أي مسؤول يستخدم العنف”، وقالت نادية هاردمان، باحثة في حقوق اللاجئين والمهاجرين: إن ما قامت به السلطات التركية في هذا الشأن يُعَدُّ “انتهاكًا للقانون الدولي”.

هكذا يتَّضح لنا اشتراك السياسات الإيرانية والتركية، عبر العقود التاريخية، في اضطهاد العرب، واتباع سياسات التهجير القسري ضدهم.

  1. فرح صابر، رضا شاه بهلوي، التطورات السياسية في إيران 1918- 1939 (السليمانية: منشورات مركز كردستان، 2013).

 

  1. عامر الديلمي، الاحتلال الإيراني لإقليم الأحواز العربي وقرارات الأمم المتحدة والعقود الدولية لإنهاء الاستعمار (عمَّان: دار الأكاديميون، د.ت).

 

  1. عذبي العتبى، الاحتلال الإيراني لإمارة عربستان وحق تقرير المصير لشعبها، رسالة ماجستير في العلوم السياسية، جامعة الشرق الأوسط، عمَّان، 2013.

 

  1. محمد الساعد، سفر برلك.. قرن على الجريمة العثمانية في المدينة المنورة (الرياض: دار مدارك، 2013).

 

  1. مقبول العلوي، سفر برلك (بيروت: دار الساقي، 2019).

 

  1. المرصد، هيومن رايتس ووتش: تركيا رحَّلت تعسفيًّا آلاف اللاجئين السوريين، 24 أكتوبر 2022.