العداء التركي والفارسي للعرب

مواجهة داخل المنظومة الدينية

استمرارًا لمنهجية “فهم التاريخ” وضبط الأحداث فإن تفكيك البنية السلوكية لبعض الأعراق التي تميَّزت عن غيرها بعقيدة استعلائية وعُقدة عِرقية وتاريخية تجاه كل ما هو عربي يحتاج لكثيرٍ من البحث والفهم، ولعل تناول الأتراك والفرس مَرَدُّه إلى الاحتكاكات المتكرِّرة لهذين العِرقَين مع المكوِّن العربي، الذي تحوَّل تاريخًا وحاضرًا إلى نقطة ثابتة في البناء الإستراتيجي للأتراك والفرس، بل هناك تنافُس شَرِس على اقتسام النفوذ بين الطرفين على مستوى رقعة الشطرنج العربية.

في هذا السياق مخطئ من يظن أن المواجهات الفارسية التركية (العثمانية) كانت مرجعيتها ودوافعها دينية أو عِرقية، وإنما كان الصدام دائمًا محكومًا بحسابات سياسية وأطماع توسُّعية للطرفين، ولذلك نجد أن الأتراك منصهِرون في النسيج الاجتماعي والسياسي الإيراني، والعكس صحيح، أما الصراع مع العرب فقد اتخذ بُعدًا عِرقيًّا وتحدِّيًا تاريخِيًّا انعكس حتى على عملية فهم النص الديني والتأويلات الفقهية، على اعتبار أن الفرس والترك يستشعرون عُقدة النقص العَقَدي، بالنظر إلى أن العرب هم الورثة الشرعيون لرسالة الإسلام وهَدْي خير الأنام.

لقد انتبه الغرب إلى أن الأتراك والفرس لا يشكِّلون كتلة سلوكية أو دينية متجانسة مع العرب، واستشعر المُنَظِّرون الغربيون تلك الشعلة من الحقد الدفين تجاه كل ما هو عربي، فراهَنوا عليهم من أجل وضع اليد على خيرات المنطقة العربية من خلال تفاهمات فارسية-تركية برعاية غربية، ولذلك نجدهم يصنِّفون كلًّا من إيران وتركيا في خانة المحاور الجيوسياسية التي يجب تقويتها ودعمها ضد التصدعات العرقية الداخلية التي قد تؤدي إلى انفجارها من الداخل.

انتبه الغرب إلى أن الأتراك والفرس لا يشكِّلون كتلة سلوكية أو دينية متجانسة مع العرب.

إن حِدَّة التمايُز السلوكي بين العرب من جهة، والفرس والترك من جهة أخرى، يقابله ذلك التماهي الكبير في البنية السلوكية (التزام ديني رخو، الرغبة في التوسع، الاستعلاء العِرقي، المصلحة مقدَّمة على المبدأ، النص الديني في خدمة الأجندة السياسية..)، ولعل هذا التماهي يجد أوَّل آثاره في العصر العباسي، حين استشعر بنو العباس خطورة التغلغل الفارسي في بلاط الحكم، فلجؤوا إلى أواسط آسيا لاستيراد العنصر العسكري التركي من أجل تحقيق التوازن العِرقي مع الفرس.

لقد عمد الخلفاء العباسيون إلى تقسيم السلطة في بطانة الحكم إلى سلطة ثقافية لا بأس من التأثير الفارسي فيها، وسلطة عسكرية استجلبوا لها مقاتِلين تُرْكًا، وهو التوازن الهجين الذي أسَّس لتفاهمات تركية-فارسية لتدبير شؤون الحكم في مجموعة من المناسبات، ولذلك نجد العديد من الشخصيات التركية في قلب مربع صناعة القرار الإيراني، دون أن يؤثر ذلك على ولاء هؤلاء لإيران دولةً وعرقًا ومؤسسات.

إننا نعتقد بأن العداء التركي-الفارسي لكل ما هو عربي يبقى مُعطًى ثابتًا لا يحتاج إلى تدليل أو تِبيان، لكن السؤال مرتبط بالخلفيات التي أسَّست لهذا العداء التاريخي والعقدي والسياسي، وهنا تقودنا الإحالة في مجال الإستراتيجية على مفاهيم “الإستراتيجية الهجومية” و”الإستراتيجية الدفاعية”.

في هذا الصدد فإن ردة فعل الفرس تجاه العرب تدخل في نطاق الإستراتيجية الدفاعية العكسية، على اعتبار أن الفرس يرون في العرب سبب انهيار إمبراطوريتهم الساسانية، رغم أنها أخرجت أهل فارس من جاهلية عبادة الشمس والنور والنار إلى توحيد الخالق الواحد الأحد.

لقد انتبه الفرس إلى أن مواجهة العرب خارج منظومة الشرعية الدينية ستكون مواجهة فاشلة، ولذلك عملوا على تطويع النص الديني من خلال عملية اختراق مشبوهة للمذهب الشيعي، وتشويه نصوصه بما يخدم الأجندة العِرقية للفرس، وقد نجحوا في اختراق جزء مهم من المكوِّن العربي الذي انطلت عليه “تقية” الانتصار لـ”مظلومية آل البيت”، فتحوَّل إلى حطب يُشعِل الدول ويفتت الأوطان، ويخرج على طاعة السلطان.

بالمقابل يرى الأتراك في فشل “إستراتيجيتهم الهجومية”، ومواصلة احتلال للمنطقة العربية “فشلًا حضاريًّا” قضى على أحلام الأتراك في استمرار إمبراطورية ممتدَّةَ الأطراف تتبنَّى الإسلام ظاهرًا، وتفرض عقيدة عنصرية استعلائية باطنًا، ولذلك فإن العبارة الشاذة “متسخين.. هي أول كلمة تقابلك من أول شخص تركي تسأله في استطلاع رأي تقوم به حول: كيف يفكِّر الأتراك في العرب؟”.

لقد نجح الساسة الأتراك في رسم صورة نمطية حول كل ما هو عربي، حتى أصبح المواطن التركي العادي يرى في العربي رمزًا لعدم النظافة، والكسل، وقلة الذكاء، ولتعدد الزوجات، وسوء معاملة الآخر، وبالتالي خلق حالة من الرفض العِرقي للعنصر العربي داخل تركيا، وهو ما يُفسِّر التعامل الاستعلائي للأتراك تجاه السياح العرب.

انطلاقًا مما سبق يتبيَّن أن المنطقة العربية ابتُلِيَت بما يمكن أن نطلق عليه “لعنة الجغرافيا”، وهي اللعنة التي زاد من تأثيرها غياب توجُّه عربي وَحْدَوِي بالنظر إلى أن الدول العربية ليست جميعها على قلب رجل واحد، بل تجد ولاء بعض المكونات العربية للأتراك أو الفرس أكثر من ولائها لوطنها، وهو ما جعلها تتحوَّل إلى طابور خامس ينخر الجسد العربي الجريح.

  1. حسين المصري، صلات بين العرب والفرس والترك.. دراسة تاريخية أدبية، القاهرة، 2001.

 

  1. خالد البري “الترك والفرس ومماليك العرب”، مقالة نُشِرَت على موقع سكاي نيوز عربية على الرابط: https://cutt.us/jHcGC

 

  1. زبغنيو برجنسكي، رقعة الشطرنج الكبرى، ط2 (واشنطن: مركز الدراسات العسكرية، 1999).

الفارسية والطورانية

قوميتان متطرفتان مارستَا العنصرية ضد العرب

تعتبر إيران وتركيا من دول الجوار للمنطقة العربية، وكان من المفترض أن تسود علاقات حُسن الجوار بين هذين البلدين والبلاد العربية، لكن وقائع التاريخ تثبت لنا عكس ذلك، فعلى الجانب الإيراني كانت النظرة الاستعلائية الفارسية تجاه العرب عائقًا دائمًا أمام أي محاولة لتوطيد سياسة حسن الجوار، وربما كان للفتح الإسلامي لبلاد فارس أثره العميق في النفسية والعقلية الفارسية المجوسية، الذي بدوره عبَّر عن نفسه في شكل عقدة نفسية مزمنة هي “المجد الخالد للفرس”؛ إذ لم يَنْسَ الفرس أنهم -ومعهم الروم- كانوا سادة العالم القديم حتى الفتح الإسلامي، ما أدَّى إلى نمو النزعة الاستعلائية لدى الفرس، وازدياد الكراهية للعنصر العربي.

وعلى الجانب الآخر ارتبط صعود القومية التركية “الطورانية” في القرن التاسع عشر، خاصةً بين النخبة التركية، إلى تكوُّن نظرة استعلائية تركية تجاه القوميات الأخرى، لا سيما العرب، نتيجة تأثير الثقافة العربية والخط العربي والتاريخ العربي على الدولة العثمانية، من هنا لجأ الأتراك، لا سيما في عصر الاتحاديين، إلى سياسة “التتريك”، وفَرْضها على العرب، في محاولة استعلائية من جانبهم للتخلص من عقدة النقص لديهم تجاه الثقافة العربية.

وبعرض بعض مظاهر النزعة الاستعلائية لدى الفرس تجاه العرب، والمحاولات السيئة التي توضح عقدة النقص لديهم تجاه العرب، خاصةً بعد الفتح العربي لبلاد فارس، ينظر بعض المؤرخين إلى تأييد أهل خراسان للدعوة العباسية على أنه أحد مظاهر عقدة النقص الفارسية تجاه العرب؛ إذ نظر الفرس إلى الدولة الأموية على أنها دولة العرب، وأنها قامت أساسًا على العنصر العربي، وأنها نظرت إلى الفرس على أنهم “موالي”، من هنا كان اندفاع الفرس في الوقوف وراء الدعوة العباسية، ليس حبًّا في العباسية، ولا حتى آل البيت، ولكن كراهيةً للعنصر العربي، ويؤكد البعض على ذلك بموقف أبي مسلم الخراساني، القائد العسكري الفارسي الذي تبنَّى انطلاق الدعوة في خراسان؛ إذ أصدر أبو مسلم أوامره إلى مساعده قائلًا: “إن قدرت ألا تُبقِي بخراسان مَن يتكلم بالعربية فافعل”.

وتتجلَّى عقدة النقص الفارسية تجاه العرب وتظهر بوضوح عند أهم شعراء اللغة الفارسية أبي القاسم الفردوسي؛ إذ يعتبر الفردوسي أحد أهم المؤسِّسين للنزعة الفارسية المتطرفة تجاه العرب، وتعتبر “الشاهنامه” المَعِين الفكري الذي استند إليه التيار القومي الفارسي المتطرف بعد ذلك، ويبكي الفردوسي في الشاهنامه على أطلال مجد الأكاسرة المجوس، وكيف استطاع الفتح العربي الفارسي مَحْوَ هذا المجد، وله في ذلك مقولة تنضح بكَمٍّ كبير من العدائية -بل العنصرية- تجاه العرب والفتح العربي لفارس، يقول الفردوسي: “لقد بلغت الحال بالأعراب، مَن شَرِب لبن النياق وأكل الضِّباب، أن يجعلوا عرش ملوك الفرس لهم إربًا، ألا تبًّا لك أيها الفلك تبًّا”.  

ويستمر تأثير الفردوسي ونظرته الاستعلائية والعنصرية تجاه العرب واضحًا لدى التيار القومي الفارسي المتطرف عبر مئات السنين، ويظهر تأثير الفردوسي واضحًا، على سبيل المثال، في أحد أهم الشعراء الإيرانيين في القرن العشرين، وهو الشاعر مهدي إخوان ثالث.

ونستطيع تلمُّس البُعد القومي المتطرف لدى مهدي، ورفضه للإسلام والعرب، من طريقة اختياره لأسماء أبنائه؛ إذ اختار اسم زرادشت لأحد أبنائه، كما اختار اسم مزدك لابنٍ آخر، ويوضح المثال السابق موقف مهدي إخوان تجاه التاريخ الإسلامي العربي لإيران، ونزوعه القومي المتطرف نحو التاريخ الفارسي القديم.

ونستطيع أن نتبيَّن نظرة التيار القومي الإيراني المتطرف في القرن العشرين تجاه العرب، ويمثِّله هنا مهدي إخوان ثالث، مما كتبه في هذا الشأن: “أفسد العرب كل جانب من جوانب الحياة الإيرانية، من الدين والأسطورة المأثورة الشعبية، إلى اللغة والأدب والتاريخ، إن التقاليد العربية المشؤومة، وعدوى التعريب الملوَّثة والفظيعة، أفسدت شِعرَنا التقليدي، ليس فقط على صعيد الشكل، وإنما المحتوى”.

كما يتبيَّن لنا مدى تأثير الفردوسي في مهدي إخوان، واعتباره أستاذه ومرشده في النظرة المتطرفة والاستعلائية تجاه العرب، من الوصية التي تركها مهدي إخوان وأوصى فيها أن يُدفَن بعد وفاته بالقرب من مدفن الفردوسي في مشهد، وبالفعل دُفِن هناك عام (1990).

ولا تختلف النزعة القومية التركية المتطرفة “الطورانية” عن مثيلتها القومية الفارسية المتطرفة، في النظرة تجاه العرب والتاريخ والثقافة العربية بشكلٍ عام، ويمكن رصد الأصول المشتركة بينهما، وخاصةً النزعة في العودة إلى “الوثنية”، وتَخطِّي الفترة التاريخية العربية الإسلامية في الشعر التركي الحديث، كما رصدناه من قبل في الشعر الفارسي، سواء عند الفردوسي أو مهدي إخوان ثالث.

ويتجلَّى ذلك واضحًا عند أحد أهم شعراء التركية في العصر الحديث، وهو الشاعر محمد أمين بك، الذي لمع نجمه بقوة، خاصةً بعد اشتراكه في الحرب التركية اليونانية، وقام بنشر ديوانه وعنوانه “أشعار تركية” عام (1897)، وأخطر القصائد فيه؛ المُعبِّرة عن النزعة المتطرفة، الرافضة للتاريخ العربي الإسلامي، التي تحمل قدرًا كبيرًا من الحنين تجاه العصر الوثني التركي؛ إذ أنشد قائلًا: “أنا تركي، ديني وقوميتي التركية راقيان، قلبي مملوء بالنار”!

وعلى المستوى السياسي تتجلَّى “القومية التركية الطورانية” بشكلٍ واضح خلال عصر حكم الاتحاديين في مطلع القرن العشرين؛ إذ تبنَّى هؤلاء نظرية عنصرية مفادها أن العنصر التركي الطوراني، هو العنصر الأفضل والمتميز، وعليه نادوا بسيادة العنصر التركي على بقية الأجناس، بل وتمادَوا في احتقار بقية الأجناس في الدولة العثمانية، وفي مقدِّمتهم بالطبع العنصر العربي.

من هنا ظهرت سياسة “التتريك”، وهي فرض الصبغة التركية على كافة الأجناس، وفي مقدمتهم العرب، وفي نزعة لا تخلو من الغِلِّ والضغينة تجاه العرب، وضع الكاتب التركي الشهير جلال نوري بك كتابًا بعنوان “تاريخ المستقبل” قال فيه: “إن المصلحة تقضي على حكومة الأستانة بإكراه السوريين على تَرْك أوطانهم، وأن بلاد العرب، لا سيما اليمن والعراق، يجب تحويلها إلى مستعمرات تركية لنشر اللغة التركية التي يجب أن تكون لغة الدين، وليس العربية، ومما لا مندوحة لنا عنه للدفاع عن كياننا أن نحوِّل جميع الأقطار العربية إلى أقطار تركية”.

هكذا يتَّضح لنا مدى النظرة الاستعلائية والعنصرية تجاه العرب، لدى القومية الفارسية المتطرفة، والقومية التركية الطورانية، ومدى انعكاس ذلك في الأدب والسياسة، وتلاشي سياسة حُسن الجوار.

لم يختلف الفرس والترك إلا على النفوذ؛ بينما عملَا على تدمير الجغرافيا العربية.

  1. محمد الخضري، محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية، الدولة العباسية، القاهرة، 2003.

 

  1. حسين مجيب المصري، صلات بين العرب والفرس والترك.. دراسة تاريخية أدبية، القاهرة، 2001.

 

  1. علي ياسين عبيدات، ترجمة: قصيدة الشتاء، للإيراني مهدي إخوان ثالث، الحوار المتمدن، 1، 5، 2014.

 

  1. قيس جواد العزاوي، الدولة العثمانية، قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، الطبعة الخامسة، القاهرة، 2014.
تشغيل الفيديو

العجم.. فُرسًا وتركًا

فرضوا على العرب ضغطًا اجتماعيًّا بهدف تهميشهم

لعل مِن قَدَر العرب أن قوميتين عنصريتين تعيشان على تخومهما، هما القومية الفارسية والقومية التركية، اللتان تحملان نزعات عنصرية واستعلائية تحكم علاقتهما مع الشعوب العربية، ولو عُدْنا إلى جذور ذلك الصدام الحضاري لوجدنا معظم دوافعه لا تتعدى كراهيةً عمياء ضد العرب بسبب رسالة الإسلام، والنبي العربي الذي ظهر فيهم.

لكن ما هو مآل هذه النظرة بالرغم من مرور أكثر من 1400 عام؟ بلا شك لا تزال حية، وكأن دماء قتلى الفرس لا تزال تجري في صحاري خراسان إلى اليوم، أما الأتراك فهم يرون أنهم أحق بالنبوة والنبي من العرب الأجلاف كما يسمونهم، وذلك واضح في الاستيلاء على التراث النبوي كاملًا، ونَقْله من الأماكن المقدسة إلى إسطنبول عاصمة الدولة التركية.

الصراعات التي خاضها العرب مع دول التخوم الأعجمية هي ردة فِعل على مشاعر العداء التركية والفارسية المتجذرة، التي لا تريد أن تتعامل مع العرب كمكون مُجاوِر وأخٍ مسلم في الإقليم، بل إن كل محاولات العثمانيين والفرس تَصُبُّ في محاولة اقتلاع العرب ثقافة وحضارة ولغة وخَطًّا، ولعل ما يواجهه العربُ – اليوم – في العراق وسوريا ولبنان واليمن والأحواز دليل على أن الأعاجم إذا دخلوا أرضًا عربية أفسدوها.

تقاسُم كراهية العرب عند الفرس والترك:

تعرَّف الفرس على العرب في وقت مبكر من تاريخهما قبل الإسلام، وكانت العلاقة سيئة للغاية، وشهدت الجزيرة العربية معقل العرب الأوائل على تلك العلاقة التي عكستها حروب وغزوات متكرِّرة بين الطرفين، بل إن الملك الفارسي المعروف بذي الأكتاف “سابور الثاني” تعمَّد الإساءة للعرب في حربه التي خاضها قبل الإسلام، والتي بدأها من الخليج العربي غربًا داخل الجزيرة العربية.

لم يتوقف العداء الفارسي والاستعلاء الشعوبي بعد الإسلام، بل إنه زاد وترسخ، وأخذ أسبابًا إضافية؛ أهمها سقوط فارس في معركة القادسية، والإهانة التي شعر بها الفرس، وبالرغم من أن الإسلام جاء داعيًا للتسامح والتآخي بين الشعوب إلا أن الرفض للآخر العربي بقي مسيطِرًا على المزاج الفارسي، وظهر ذلك جليًّا في أدبياتهم.

يقول الباحث الأكاديمي علاء حبيب في دراسة له: يشعر الفرس بالنقص إزاء المستوى الحضاري العظيم للأمة العربية، فالفرس عندما استقروا في الهضبة الإيرانية وجدوا العراق موطن الحضارة الإنسانية والإبداع الإنساني، بينما لم يتمكَّنوا هم عبر تاريخهم من تقديم إسهام حضاري مماثل، وكان كل الذي فعلوه أنهم نقلوا إنتاج حضارة وادي الرافدين إلى فارس، لذلك فقد أخذوا موقعهم كمتلقين للحضارة لا صانعين لها، فالديانة (الزرادشتية) لم تكن فارسية، وإنما أخذوها من (الميديين)، ولم يجدوا ما يكتبون به كلامهم إلا الكتابة المسمارية العراقية والآرامية العربية… وكان الإسلام الذي جاء به العرب عاملًا إضافيًّا لجعلهم يكرهون العرب، فبعد أن كانوا يسخرون من العرب أصبحوا جزءًا من الحضارة العربية الإسلامية، فما انفكوا يحلمون بإعادة أمجاد ساسان.

الحركة الشعوبية:

ظهرت الحركة الشعوبية للعيان في بدايات العصر العباسي، حيث تم الاعتماد على العنصر الفارسي وإقصاء العناصر العربية، ويقول عنها القرطبي بأنها حركة تُبغِض العرب وتُفضِّل العجم، كما قال عنها الزمخشري: إنها حركة مَن يُصغِّرون شأن العرب، ولا يرون لهم فضلًا على غيرهم.

وتظهر كراهية الفرس وانتقاصهم من مكانة العرب من خلال المناهج التعليمية، سواء القديمة منها أو المعاصرة، حيث امتلأت كتب التربية والجغرافيا والتاريخ بمئات الأمثلة التي تسيئ إلى العرب، من أجل تنشئة الأجيال الفارسية على كُره العرب ومعاداتهم.

ويشرح الأستاذ الإيراني بجامعة طهران صادق زيبا كلام في مقابلتين نقلهما عنه موقع العربية نت، نقلًا عن صحيفة “صبح آزادي” الإيرانية، عن نظرة الإيرانيين الفرس تجاه العرب والشعوب الأخرى بشكل عام، وتجاه القوميات غير الفارسية في بلاده بشكل خاص، مبيِّنًا النظرة الدونية من الفرس لغيرهم وخاصة العرب، ومُرجِعًا ذلك إلى أسباب تاريخية بعيدة، ومؤكدًا على أن الكثير منا – الإيرانيين – سواء أكان متدينًا أو علمانيًّا يكره العرب.

أما عن عنصرية الإيرانيين تجاه الآخرين فقد قال زيبا: أنا واثق من أن الكثير منا – نحن الإيرانيين – عنصريون، فلو نظرتم بإمعان إلى ثقافات الشعوب الأخرى تجاه سائر القوميات والشعوب والإثنيات، وأخذتم ظاهرة النكت كمقياس، لوجدتم أننا أكثر إساءةً من خلال النكت، فانظروا كيف نسيء إلى الآخرين.

وأرجع الأسباب التاريخية لكراهية الفرس الإيرانيين للعرب فيقول: يبدو أننا كإيرانيين لم نَنْسَ بعدُ هزيمتَنا التاريخية أمام العرب، ولم ننسَ القادسية بعد مرور 1400 عام عليها، فنُخفي في أعماقنا ضغينة وحقدًا دفينَين تجاه العرب، وكأنها نار تحت الرماد قد تتحوَّل إلى لهيب كلما سنحت لها الفرصة.

كراهية العرق التركي للعرب:

الغريب ليس كراهية الفرس للعرب، فتاريخ الأمتين مليء بالصراع كما أن الإيرانيين -كما يقول مثقفوهم- لم ولن ينسوا هزيمة القادسية التي حطمت إمبراطوريتهم، لكن كراهية الأتراك تبدو غير مبرَّرة، إلا من ناحية استكثار أن تكون النبوة والإسلام من عند العرب، ففي التاريخ لم يتعامل العرب مع الترك إلا في القرن الثاني الهجري، عندما استقدم العباسيون الأتراك للعمل في القصور العباسية، ثم بقي الحال على ما هو عليه حتى ظهور دولة بني عثمان وغزوها للعالم العربي في عهد السلطان سليم الأول، وفيها استطاع العثمانيون استخدام الشعوب الأخرى ليكونوا رأس حربتهم ضد العرب في العراق والشام، كما أن العُقدَة المتأصلة في الترك منذ زمنِ استقلالهم عن الدولة العربية تتمثل في كونهم لم يأتوا مجموعات متصلة وقبائل كما يدَّعون؛ ففي الغالب جاء الترك مماليك للعرب، بصكوك ملكية تمرَّدوا عليها مع الوقت وتحرَّروا، وانقلبوا على العرب.

بين التتريك والفرسنة:

في كل سانحة للفرس والأتراك يكونون فيها هم المسيطرون، فإن أول أعمالهم هي محاولة تفتيت العرب والقضاء على قوميتهم، الفرس يقومون بعمليات ممنهجة لطمس الهوية واللغة والخط العربي من الأحواز العربية المحتلة، بدافع عنصري شعوبي استعلائي، وما حصل في الأحواز يحاول الفرس تكراره اليوم في الجغرافيا العربية التي يسيطرون عليها، بتهميش وإخفاء اللغة العربية تدريجيًّا، ومحاولة إحلال الفارسية بكل ما فيها من مشاعر وثقافة أقل بكثير من العربية.

أما الأتراك فقد انعكس تعامُلهم الفوقي مع العرب في الكثير من التعاملات، وحرص الأتراك على إبقائهم مجرد شعوب محتلة، بلا حضارة بلا طريق بلا مساجد بلا مدارس، وحتى عندما طالب العرب في مرحلة متأخرة من عمر الدولة العثمانية بالمساوة التعليمية، حَرَموا العربيَّ من التعلُّم بالعربية، وفُرِض عليهم التتريك.

لقد حاولت القوميتان الفارسية والتركية إخضاع القومية العربية والضغط عليها، فالفرس قصَروا إمكانات عرب الأحواز في كونهم مجرد عُمَّال ومزارعين وصيادي سمك، ولا يُسمَح لهم بالتدرج في المناصب القيادية، والعرب عند القومية التركية كذلك؛ مجرد عمال وفلاحين يقومون بسداد الضرائب والمكوس والرسوم لصالح الخزانة، أو جنود يموتون في الجبهات لصالح توسُّع الدولة العثمانية، وقليلًا ما كان يأخذ العربي موقعًا متقدِّمًا في سلسلة القيادة الإدارية أو العسكرية، بل إن الحكام الفعليين في كل البلاد العربية التي احتلَّها الأتراك هم قادة المحميات التركية، وإذا حصل وكان هناك والٍ عربي فهو مجرد دمية بيد الأتراك، ودوره جمع الأموال، وإثارة الصراعات العصبية بين أبناء العرب.

التتريك شعوبية قديمة في لباس تركي:

كان الشعوبيون الأوائل يحلمون بتجريف الثقافة العربية وإزالتها من طريقهم، وتحميل العرب أزمة هويتهم وتآكلهم الحضاري، فقد وجد الأتراك في العرب عدوًّا جاهزًا، يمكن أن يحمل سبب ضعفهم وتخلُّفهم الحضاري في آخر عهد سلطنتهم العثمانية، التي بدأت تظهر فيها سياسية التتريك بشكل واضح وفجٍّ، وإن كانت العنصرية التركية قديمة قِدَم الاحتلال التركي لبلاد العرب.

وتجلَّى التتريك في مظاهر عديدة، منها التحوُّل عن الكتابة بالخط العربي، وتنقيح اللغة التركية من المفردات العربية، وتحويل الأذان فترةً من التاريخ إلى التركية، وحظر التعامل باللغة العربية في الدواوين والجهات الإدارية والمراسلات، ومنع كتابة العقود والصكوك بغير اللغة التركية، كذلك حظر صدور الكتب والصحف العربية، ومنع المدارس العربية، ومطاردة مَن يُنشئها، وللتذكير فإن ذلك يتكرَّر اليوم مع عرب الأحواز المُحتلَّة أراضيهم من قِبَل إيران.

المظاهر الحضارية بين بلاد الترك وبلاد العرب:

توسَّعت الدولة العثمانية حتى ضمت العديد من الأعراق والشعوب، ومع ذلك تم استبعاد العرب في كثير من الأحيان، وإذا تم الاستفادة منهم ففي وظائف متواضعة جدًّا، لكنها لم تكن بأي حال من الأحوال وظيفة قيادية، ومعظم المناصب الحكومية الرئيسة يشغلها أتراك أو غير عرب، فالعداء التركي للعرب لم يكن سلوكًا عفويًّا نابعًا من مشاعر عداء فقط، بل عمل ممنهج، إضافةً إلى محاولة إخفاء وتمييع الثقافة واللغة العربية، من خلال ما يسمى بالتتريك، وإنكار الثقافة العربية في السلطنة.

محاولات سرقة التراث العربي، والادِّعاء بأنه عثماني تارة، وفارسي أخرى:

منذ تغوُّل الأتراك والفرس في العالم العربي، وكل همهم تجريد العرب من تراثهم الإسلامي وإلصاقه بهم، فالفرس على سبيل المثال أنشؤوا الصفزيباوية لتشكِّل إسلامًا يشبههم، ظاهريًّا إسلام، ولكنه في معتقداته صفوي وفارسي الهوى، والأتراك ما فتئوا يُفكِّكون مظاهر العروبة متى ما استطاعوا ذلك، ولعل النفائس النبوية خير دليل على ذلك.

آخر محاولات الإيرانيين والأتراك لسرقة التراث العربي تجلَّى في احتجاج الإيرانيين لدى وكالة يونسكو أن “جمهورية تركيا” حاولت تسجيل رسم “الخط العثماني” لدى الوكالة على أنه “الخط الإسلامي”، وجاء في الاحتجاج الإيراني أنه إن كان هناك رسم للأحرف يمكن اعتباره خطًّا إسلاميًّا فهو “الخط الفارسي”.

يقول الباحث حسين عبد الحسين في مقال له: “إن اعتبار أن الخط الإسلامي هو الرسم الفارسي تزوير للتاريخ يوحي وكأن أول تدوين لكتاب المسلمين كان بهذا الخط، وهذا غير صحيح، بل إن الخط الفارسي نفسه منقول من الحروف العربية، أما التاريخ الحقيقي فهو أن اللغة العربية كانت تُكتَب بخطوط سابقة للخط الحالي، منها العربي الجنوبي، ومنها الآرامي المعدَّل والمعروف بالنبطي المتأخر، أما أولى مخطوطات القرآن والكتابات الإسلامية الأخرى فكانت بالخط العربي الحجازي، يليه الخط العربي الكوفي المستوحَى على الأرجح من الأسطرنجيلي الآرامي، الذي كان مستخدَمًا في الكنيسة المسيحية خارج بيزنطة، هذا يعني أن “الخط الإسلامي” ليس تركيًّا ولا إيرانيًّا، بل عربي”.

حاوَل الفرس والترك تزوير التاريخ العربي وسَلْب أمجاده.

  1. حسين المصري، صلات بين العرب والفرس والترك.. دراسة تاريخية أدبية، القاهرة، 2001.

 

  1. حسين عبد الحسين، “الإسلام دين عربي، لا إيراني ولا تركي”، موقع الحرَّة، على الرابط: https://www.alhurra.com/

 

  1. زبغنيو برجنسكي، رقعة الشطرنج الكبرى، ط2 (واشنطن: مركز الدراسات العسكرية، 1999).

 

  1. علاء حبيب، “كراهية الفرس للعرب قديمة”، صحيفة الوطن البحرينية، على الرابط: https://alwatannews.net/

 

  1. صادق زيبا كلام، “كراهية العرب.. ظاهرة تنتشر بين المثقفين الإيرانيين”، العربية نت، على الرابط: https://www.alarabiya.net/