مكانة اليهود

في الدولة العثمانية

ظهرت ظاهرة بين اليهود نتيجة لمكانتهم الخاصة في الدولة العثمانية، وأدى ذلك إلى كثير من التمرد ولكن بسلوك غير مثير للدولة، في الأناضول تحديدًا وغيرها، ومنها: عدم حرص الكثير منهم على الانخراط في البنية التنظيمية للطائفة، وضعف الرابطة الروحانية والثقافية، واستخفاف البعض منهم برجال دينهم، ومن ثم أدى ذلك إلى الانعزال، وأصبحوا بؤرة لا بد من التخلص منها.

شكّل اليهود كتلة مؤثرة داخل الدولة العثمانية ثم انقلبت عليهم السياسات

ونتج عن ذلك:

  1. انهيار الأطر الطائفية للمجتمع اليهودي بدءًا من القرن 13هـ/19م، نتيجة للتغيرات العمرانية التي شهدها المجتمع، والتي تمثلت في خروج اليهود من الأحياء القديمة التي اعتادوا عليها، وارتبطوا فيها بشكل وثيق بالمعبد ومؤسساتهم التي تُعد خيرية لهم.
  2. أسفرت سياسة الإصلاحات العثمانية والقوانين الجديدة آنذاك التي سنتها الدولة لتحديد وضع الطوائف، عن أن اليهود في الدولة أصبحوا أقل ارتباطًا بمؤسسات الطائفة، لا سيما وأن الهيئات الحكومية والقضائية العثمانية وفرت لهم الإحساس بالأمن والاستقرار.
  3. أدى حصول أعداد كبيرة من اليهود على قدر كبير من التعليم والثقافة الحديثة في المدارس المسيحية، والحكومية، واليهودية الحديثة، إلى ظهور فئة جديدة من الشباب اليهودي ابتعدت بالكامل عن التقاليد اليهودية المتطرفة.

لذلك، نجد أن التغيير داخل الدولة وتضرر الطائفة المتطرفة سينعكس سلبًا، مما يجعل الدولة تقرر الخلاص منهم، رغم أن سلاطين الدولة اعتمدوا عليهم اعتمادًا صريحًا وواضحًا في تعاملات كثيرة داخل عصب الدولة، لبناء مصالح سياسية واقتصادية وغيرها.

جاءت أوضاع اليهود الاقتصادية في الدولة ذات أثر واضح، وكان ولاؤهم للعثمانيين يزداد بزيادة أعداد هجرتهم إليها، وخاصة في إسطنبول، وكانت نتائج ذلك واضحة، منها الازدهار الاقتصادي والعمراني الذي عمّ المدينة خلال النصف الثاني من القرن 13هـ/19م.

لقد شكّل عددهم فيها نسبة 5%، وتفيد السجلات بالزيادة الملموسة في أعدادهم وهجرتهم إلى الدولة العثمانية، وشكّلوا نسبة 10% من سكان مدينة إزمير بين الأعوام 1300-1311هـ / 1882-1893م، وازداد تمركزهم فيها بسبب الثورة اليونانية وحرب البلقان، وكان في إزمير طائفة يهودية من أصول إيطالية، عاشوا تحت رعاية القنصلية الإيطالية، وبالتالي شهدت المدينة الكثير من المشكلات الطائفية والاجتماعية، نجم عنها حدة التنافس الاقتصادي بينهم وبين العثمانيين، وكذلك الطائفة المسيحية المتعددة الأعراق، مما أسفر في نهاية الأمر عن فقدان اليهود لاحتكارهم المكانة الاقتصادية البارزة، وبالتالي أدى إلى تدهور أوضاعهم الاقتصادية، وتشكل ما نسبته 20% منهم من الفقراء الذين عاشوا بلا أي مصدر للرزق. كما شهدت الفترة انخفاضًا ملحوظًا في عدد المشتغلين من اليهود، وشجع ذلك بالتالي على هجرتهم إلى بلدان مختلفة، واشتغلوا بالتجارة.

في نهاية القرن 13هـ/19م، برز تضاؤل أعدادهم بشكل ملموس نتيجة لحركة الهجرة اليهودية الضخمة، وكان متزامنًا مع هجرة أعداد كبيرة من المسيحيين أيضًا إلى أنحاء متفرقة من أوروبا، ولكن الغالبية منهم كانت من اليهود. وكانت حقبة أحداث تاريخية مهمة، منها نشاط الحركة الصهيونية، وظهور يهود الدونمة، والاستعداد للحرب العالمية الأولى، فضلًا عن الثورات والانقلابات الداخلية في الدولة العثمانية والتي أدت إلى انهيارها وسقوطها نهائيًا، وظهرت بدلًا عنها الجمهورية التركية.

لقد كان من آثار تعاملات سلاطين الدولة مع اليهود كفكر اقتصادي للدولة أن الثقل لهم أصبح في مدينة سلانيك، لاشتغالهم بالتجارة الحرة، وقدر عددهم بـ 75 ألف يهودي، وتلك زيادة ملحوظة وملفتة للانتباه.

بقيت في الدولة العثمانية طبقة من أثرياء اليهود، إلا أن غالبيتهم اعتمدوا على تأمين أنفسهم خارجها عن طريق إقامة مشاريع مع اليهود المهاجرين، فمثلًا، هاجر بشكل عكسي عدد من اليهود الأتراك (وهذا ما تخفيه المصادر)، وأقاموا في الجانب الغربي من الولايات المتحدة الأمريكية، وكانوا على اتصال مستمر بمشاريع تجارية مع يهود الدولة الذين فضّلوا البقاء داخل حدود الدولة العثمانية.

عندما استقر اليهود بعد الأوضاع السيئة التي تعرضوا لها، واختاروا الدولة العثمانية مقامًا لهم، لم يشكلوا أي مشكلة للدولة، واستُثمرت من خلالهم استثماراتها، لولا أن المنغص الحقيقي ضدهم كان وجود المسيحيين المقيمين من الدول الغربية وغيرها.

لقد شعروا بتحولات كبيرة أثناء حقبة التنظيمات والإصلاحات، حيث ذكر الحاخام يوسف فارتس، عالم الجغرافيا اليهودي الذي هاجر من ألمانيا إلى الدولة العثمانية في تلك الحقبة المهمة، بقوله: “إن الوضع السائد في هذه الفترة طيب للغاية، وينعم اليهود في الدولة بالهدوء والاستقرار”.

وشهدت الثلاثينات من القرن 13هـ/19م تحولات قانونية في إسطنبول، حيث تم تعيين الحاخام أفراهام هاليفي رئيسًا لليهود، لكل يهود الدولة العثمانية، وقد صدر هذا القرار تحديدًا في سنة 1254هـ/1838م، يُلاحظ أنه قبل صدور قانون التنظيمات 1255هـ/1839م لتنظيم شؤون طائفة اليهود، قبل أي تنظيم لشؤون طوائف الدولة عامة.

وفي تلك الحقبة المهمة، تم إرساء الأسس التنظيمية لشؤون الطوائف في الدولة، ويتضح من خلال النصف الأول من أحوالهم في هذه الفترة أن أوضاعهم لم تتغير، ولكنهم فقط أرادوا اختبار السلطنة في أن تميزهم وتتعامل معهم بشكل خاص، حتى لا يشعروا أن المسيحيين على أراضيها بأفضل حال منهم.

استغل اليهود في أربعينيات القرن 13هـ/19م الامتيازات، خاصة الحماية المقدمة من قنصليات الدول الأجنبية، مما أدى إلى قوة في نفوذ الكثير منهم اجتماعيًا وقانونيًا وثقافيًا، ووصلت ذروة ذلك بالقانون الذي صدر في بداية النصف الثاني أيضًا من نفس القرن، سنة 1273هـ/1856م، وقد سمح لهم هذا القانون بإصلاح معابدهم وكل مؤسساتهم التعليمية والخيرية، وأنه يحمي ويحافظ على أرواحهم وممتلكاتهم.

أما قانون 1283هـ/1865م، فقد أحدث لهم تغييرًا اجتماعيًا مهمًا، وميزهم عن المسيحيين، لأنه ضاعف من مكانة الحاخامات في المجتمع اليهودي، والدولة بذلك تقصد أن يسيطر على أوضاعهم رجال دينهم، وتزايدت قوة رؤساء الطوائف.

من أهم الآثار السيئة على الدولة لاحتضان اليهود منذ هجرتهم من الأندلس وغيرها وتمكينهم أن:

التغيرات السياسية التي حدثت كانت مهمة، وحتمت على الدولة العثمانية أن تتدخل في شؤون الطائفة اليهودية، وذلك لأن الدولة شعرت بمخاطرهم، ولكن بعد ماذا؟؟؟!!!
ونتيجة للتدخلات، شعر اليهود بأنهم حُرموا من تمتعهم بالحكم الذاتي لأنفسهم، وأضرّ ذلك بمكانة القيادة اليهودية للمجتمع اليهودي، مما أثار اليهود على الدولة.
وبالتالي سمح ذلك بالتدخل الرسمي من قناصل الدول الأجنبية لحمايتهم، كما رأوا أن الحماية لهم تلزم الدولة نفسها بها، كالامتيازات الأجنبية، لأنها وصلت إلى شعور الحق المكتسب.

تلك الأحداث أدخلت الدولة في أن تتدخل في شؤونها، ومنها: تدخل القنصل الفرنسي الكاثوليكي، والإنجليزي، والأمريكي، وذلك في سنة 1288هـ/1871م، وعملوا على توفير الأمن اللازم لهم، وكان ذلك بطلب من اليهود ضد الدولة.

  1. يوسف عمر، أسباب خلع السلطان عبدالحميد الثاني 1876-1909 (القاهرة: دار الكتاب الثقافي، 2005).

 

  1. وديع أبو زيدون، تاريخ الإمبراطورية العثمانية من التأسيس الى السقوط.

 

  1. حياة الرشيدي، الارساليات التنصيرية الأمريكية في الدولة العثمانية 1215-1343هـ/1800-1924م (القاهرة: دار الراية للنشر، 2016).

 

  1. بيتر شوجر، أوروبا العثمانية 1354هـ/1804م: في أصول الصراع العرقي في الصرب والبوسنة، ترجمة: عاصم الدسوقي (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1998).

 

  1. رفيق شاكر النتشة، السلطان عبدالحميد الثاني وفلسطين (الرياض: مطابع الشرق، 1985).