التوجه الاستراتيجي للعثمانيين الجدد:
السيطرة على العقول عبر الدراما
سعى العثمانيون الجدد بكل جهد لإعادة كتابة تاريخ الدولة العثمانية بطريقة تدعم ارتباطهم بسلالة آل عثمان. هذه المحاولة تُستغل في تعزيز منظومة القوة الناعمة، والتي يسعى بعض الأتراك إلى الاستفادة منها لإحياء العقيدة التوسعية على حساب بعض البلدان العربية، خاصة تلك التي تأثرت بالإيديولوجية الدينية، وحاولوا تدمير بعض الأوطان تمهيداً لتحقيق “التمكين” لمشروعهم السياسي.
الأتراك أرادوا إعادة كتابة التاريخ لتحقيق الأجندة السياسية.
في هذا السياق، عمل التنظيم الإخواني على تلميع صورة وتاريخ العثمانيين، حتى أن بعض العرب المخدوعين يتمنون أن يعودوا للحكم تحت القيادة التركية التي يظنونها خلافةً للمسلمين جاءت لتجدد الدين. هذا الاتجاه الغريب تجلى بوضوح خلال ما سُمي بـ”الربيع العربي”، كما رأيناه في استقبال إخوان مصر لرجب طيب أردوغان بشعارات مثل “أردوغان أردوغان يا حبيب الإخوان”.
في سبيل ذلك، استعان العثمانيون الجدد بأشباه المؤرخين لتضخيم شخصية “أرطغرل” وتقديمها على أنها شخصية ذات دور رائد في الإسلام، ورفع مشعل الجهاد تحت راية السلاجقة، ليكمل ابنه عثمان مسيرة والده المجاهد. إلا أن العودة إلى المصادر التاريخية تكشف أن أرطغرل لم يكن مسلماً، بل كان وثنياً ذا أطماع توسعية، جعلت السلطان السلجوقي علاء الدين الأول يشك في نواياه ويمنحه أراضي كبيرة لتجنب إشراك أتباعه في الجيش السلجوقي.
وفي الواقع، أحد المؤرخين الموالين للأطروحة العثمانية امتدح تاريخ سلاطين الدولة العثمانية لكنه اعترف ضمنيًا بأن أرطغرل لم يكن على عقيدة الإسلام. عبد العزيز الشناوي، في كتابه “الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها”، ويذكر أنه على عهد الأمير عثمان، وفي وقت مبكر، تحدد الوضع الديني والعسكري والسياسي للأتراك العثمانيين، فقد اعتنق هذا الأمير الدين الإسلامي وتبعه الأتراك العثمانيون. وكانت عقيدتهم الدينية قبل ذلك غير واضحة تمامًا، ويحتمل أنهم كانوا في حالة تحول من الوثنية أو من عقائد أخرى إلى الإسلام”.
هذا الاعتراف يؤكد أن الأتراك العثمانيين، بمن فيهم أرطغرل، كانوا على الوثنية، ولم يبدأوا في اعتناق الإسلام إلا بعد تولي عثمان بن أرطغرل قيادة التنظيم العثماني. ربما رأى العثمانيون في الإسلام وسيلتهم لتحقيق ما حققه السلاجقة، نظراً لصعوبة منافستهم خارج إطار الدين الإسلامي.
لجأ بعض المؤرخين الموالين للأطروحة التركية إلى ترويج أساطير حول تأسيس الحكم العثماني، مثل ادعاء أن أرطغرل وقع على القرآن في بيت أحد المشايخ وظل يقرأه حتى الصباح، ثم رأى رؤيا تبشر بأن ذريته ستحكم لقرون إذا احترموا القرآن. هذه الروايات طُعِن فيها من قبل المؤرخين، ومن بينهم المؤرخ الألماني Giese ، الذي رأى أن ” هاتين الروايتين محاولتان لدعم مشروعية حكم العثمانيين لسائر القبائل التركية بآسيا الصغرى بتدخل إلهي. وقد حمل المؤرخ التركي المعاصر الأستاذ محمد فؤاد كوبريلي حملة عنيفة على هاتين الروايتين”، وانتقدها أيضًا المؤرخ التركي المعاصر محمد فؤاد كوبريلي.
أنصار الطرح الأردوغاني حاولوا بشدة إثبات “إسلام” أرطغرل، ورفضوا نظرية جيبونز، مستندين إلى المؤرخ التركي محمد فؤاد كوبريلي لتأكيد نظريتهم. لكن بالعودة إلى كتابات كوبريلي، نجد أنه لم يتحدث عن أرطغرل بشكل صريح، بل تناول بشكل عام أن العثمانيين لم يعتنقوا الإسلام إلا في مرحلة لاحقة بعد وفاة أرطغرل.
يعترف كوبريلي بأن الإسلام لم يكن منتشرًا في الأراضي العثمانية الأولى ولا في بقية المناطق التركية، ويقول: “وإنه لأدنى إلى الصواب والحيطة، إزاء هذه الدلائل، ألا نتصور دخولا سريعا في الإسلام لا في الأراضي العثمانية ولا في أراضي الإمارات التركية الأخرى بغرب الأناضول”. لم نجد في كتابه حول قيام الدولة العثمانية أي دليل على إسلام أرطغرل.
ما يعنينا في هذا السياق هو التحذير من محاولات تسميم الفكر العربي بصناعة ميول مؤيدة للأطروحة العثمانية. هذا التوجه الاستراتيجي يعبر عنه الإخواني محمد العوضي، من خلال تقييمه لمسلسل أرطغرل، قائلاً: “نحن انتهينا من المعركة الاقتصادية وأثبتنا أنفسنا…ثم انتقلنا إلى المعركة السياسية…الآن معركتنا هي معركة المزاج العام أي معركة الدراما من أجل امتلاك العقول”.
- أكمل الدين إحسان أوغلى، الدولة العثمانية: تاريخ وحضارة (إسطنبول: ارسيكا، 1999م).
- عبدالعزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها (القاهرة: مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة 1980م).
- محمد فؤاد كوبريلي، قيام الدولة العثمانية، ترجمة: أحمد سليمان (القاهرة: دار الكاتب العربي 1967م).
- وليد فكري، الجريمة العثمانية: الوقائع الصادمة لأربعة قرون من الاحتلال (القاهرة: الرواق للنشر والتوزيع، 2019).