بدءًا من القرن الهجري الأول

طريق الفرس لضرب الهوية العربية بـ "الشعوبية"

بعد أن فشل الفرس عسكريًّا في مواجهة العرب المسلمين في مراحل تاريخية سابقة؛ اتخذوا منهجًا آخر من خلال أيديولوجيا جديدة عمَّقتها الحركة الشعوبية التي تمثل واحدة من فصائل مخطط المؤامرة على العرب المسلمين، وقد عمدت الشعوبية إلى مهاجمة العرب حَمَلَة لواء الإسلام وأصحاب الدولة الإسلامية في تاريخهم وأسلوب حياتهم، ومهاجمة التاريخ الإسلامي، واللغة العربية، والطعن في أصول القيم الإسلامية وجذورها، كذلك عمدت الشعوبية إلى إذاعة المجون، والانحراف، واعتبرت ذلك نوعًا من التحرر.

الشعوبية حركة قديمة قِدم العلاقة بين العرب وجيرانهم من العجم المجاورين على تخومهم في فارس والأناضول والشعوب التي استوطنت بلاد الشام وشمال أفريقيا، فالعلاقة بين الفرس وعرب الجزيرة قبل ظهور الإسلام تؤكد ذلك، ووصف كسرى للعرب بانتقاص أمام النعمان بن المنذر ملك الغساسنة يشير إلى ذلك بوضوح.

الشعوبية ليست -كما يزعم الشعوبيون- ردة فعل لاحقة ظهرت في القرن الأول الهجري نتيجة تصرفات عربية إثر قيام الدولة الأموية في الشام والعراق وفارس ثم الأندلس غربًا والصين شرقًا، لقد كانت في حقيقتها حقدًا على العرب الذين خرجت من عندهم رسالة الإسلام، وحملوها إلى العالم، بل إن ترسيخها توسع في الوجدان الأعجمي وفي أدبيات القرن الثاني الهجري، بعدما استولى الفرس على مفاصل الدولة إثر انقلاب الخليفة المأمون على أخيه الأمين بمساعدة الفرس ودعمهم.

جاء في بحث منشور بمجلة جامعة الأزهر، سلسلة العلوم الإنسانية للباحث عثمان محمد العبادلة، أنه رُصِدَ ظهور الشعوبية مبكرًا في العصر الأموي، وكان الشعر العربي خزان حفظ لتلك النزعة غير السوية التي لا تزال مستمرة حتى اليوم بسبب توريث العداء ضد العرب، فقد ظهرت الشعوبية في الشعر مبكرًا، فافتتحها أحد شعراء العصر الأموي؛ إسماعيل بن يسار النسائي الذي افتخر بقومه وأمجادهم، وعيَّر العرب في جاهليتهم بعاداتهم وطريقة عيشهم. لكن الظروف السياسية والاجتماعية لم تكن لتسمح لهذه النزعة بالاتساع والشمول، والتحول إلى تيار له أنصاره ومؤيدوه. وكان على هؤلاء تحيّن الفرصة المناسبة لتغيير الوضع السياسي.

ويحدد العبادلة “يبدو أن اسم الشعوبية لم يظهر إلا في العصر العباسي الأول؛ لأن أصحاب هذه النزعة التي تحاول مساواة العرب أو تحقيرهم لم تتخذ شكلًا قويًّا واضحًا يصح أن يطلق على معتنقيه اسم إلا في هذا العصر. أما قبل ذلك فقد كانت نزعة خفية لا تستطيع الظهور، وإذا ظهرت أُخمدت. والحاجة إلى اسم إنما تكون بعد أن يتخذ المبدأ شكل عقيدة عامة أو حزب. وكذلك فإن هذا الاسم لم يطلق على هذه النزعة في العصر الأموي. وأقدم ما وصل إلينا من الكتب التي استعملت لفظ الشعوبية كتاب البيان والتبيين للجاحظ”. بل تناولها الجاحظ في العديد من كتبه.

ومما قاله الشاعر الفارسي النسائي فاضحًا ما يحمله تياره الشعوبي من كراهية وحقد على العِرق العربي:

وقد واصل النسائي افتخاره بقومه الفرس على العرب في قصيدة أخرى قالها في حضرة الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، الذي لم يؤذه، وهو ما يؤكد كذب ادعاء الشعوبيين عن كراهية العرب لهم، وكل ما فعله الخليفة إخراجه من مجلسه، حيث قال فيها:

كراهية العرب والإسلام:

وصل الأمر بالشعوبيين إلى كراهية دين الإسلام الذي حمله العرب للعالم، بعدما عبد الفرس النار والشيطان والنجوم، بل عملوا على اختطافه وإدخال المعتقدات والخرافات البائدة فيه بعدما يئسوا من إسقاطه، ويصور الأديب العربي الجاحظ حركة الشعوبية وأهدافها بقوله: “فإنَّ عامَّةَ مَن ارتاب بالإسلام إنما كان أوَّل ذلك رأي الشُّعوبية والتمادي فيه، وطول الجدال المؤدِّي إلى القتال، فإذا أبغض شيئاً أبغضَ أهلَه، وإنْ أبغَضَ تلك اللغةَ أبغض تلكَ الجزيرةَ، وإذا أبغض تلك الجزيرةَ أحبَّ مَن أبغض تلك الجزيرة، فلا تزال الحالاتُ تنتقل به حتى ينسلخ من الإسلام، إذ كانت العرب هي التي جاءت به، وكانوا السَّلف والقدوة“..

أثر الشعوبية في المجتمعات العربية:

لا شك أن صدمةً حضاريةً كبرى وقعت على العجم بعد قيام الإمبراطورية العربية، فما كان يظن الفرس -على وجه الخصوص- أن يقوم للعرب قائمة وهم يعيشون في تلك الصحاري القاحلة بلا موارد ولا إمكانات ولا إرث يستندون عليه، فالاحتقار والنظرة الدونية سبغت العلاقة ودفعت الفرس للإيمان بتفوقهم العرقي على العرب، ووصفوهم في كثير من أشعارهم وكتبهم باللصوص وآكلي السحالي، قال الجاحظ: ” والشّعوبيّة تهجو العرب بأكل العلهز، والفثّ، والدّعاع، والهبيد، والمغافير، وأشباه ذلك” وهي أنواع من الحبوب كانت تُطحن وتُخبز.

لقد صعقهم الإسلام بتحضره وقيمه وأخلاقه ومكارمه، ودفع إمبراطورياتهم القديمة إلى الانكسار أمام هيبته وقيمه العظيمة، لكن ذلك لم يدفعهم إلى الاستسلام، فكان مدخلهم للسطو على مكانة الإسلام ادعاء المظلومية من العنصرية الكاذبة، وهذا ما يتكرر في كل عصر، فأدى بهم إلى إنشاء حركة مضادة تحت وصف الشعوبية، ثم الانقضاض على الدولة العربية واختراقها صعودًا في السلم الإداري حتى الهيمنة على الخليفة رأس الدولة، وهو ما حصل تمامًا في العصر العباسي.

جذور الشعوبية:

لا يكتفي كثير من الباحثين بإعادة الشعوبية إلى العصر العباسي أو خروج إرهاصاتها في العصر الأموي، بل يعيدون جذورها إلى حادثة اغتيال أبي لؤلؤة المجوسي للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهذا الفارسي لم يقبل أن يسقط إيوان كسرى وتهزم أمته أمام عرب الجزيرة العربية، لقد كان هدفه ليس الانتقام فحسب، بل تدمير الدولة العربية المسلمة في عُقر دارها وباغتيال زعيمها.

يؤكد الباحث تَميم اليونُس في مؤلف منشور له على أن حادثة اغتيال الخليفة عمر بن الخطاب كانت أولى الأعمال العدائية للحركة الشعوبية انتقامًا للدولة السامانية التي قُهرت في عهده، ويلفت في بحثه إلى تزاوج شعوبية اليهود مع شعوبية الفرس في صدر الإسلام، التي كان من روادها اليهودي اليمني عبد الله بن سبأ، وهو ما أثمر لاحقًا عن تحالفات مع القوى الأجنبية المعادية للإسلام والمسلمين كتحالف الطوسي وابن العلقمي مع هولاكو والمغول.

الشعوبيون الفرس كانوا يجاهرون أمام الخلفاء العرب بعنصريتهم.

تأييد القوى النافذة في الدولة العربية:

خطورة الشعوبية تكمن في تحولها من حركة ثقافية مضادة إلى ما يشبه “الحزب السري” الذي عمل داخل الدولة العربية العباسية لهدمها، فرؤساء الوزراء الفرس، وكبار الموظفين حتى الـأدباء والشعراء ذوو العرق الأعجمي انخرطوا في تلك الحركة وأصبح همهم الوحيد الانتقام من العرب والحط من شأنهم، وإسقاط مكانتهم التاريخية وهدم دولتهم، وهو ما يراه رضا جامع في كتابه ظاهرة الشعوبية في العصر العباسي، قائلاً: “إن الشعوبية حركة ثقافية حضارية مناهضة للعرب، أو هي ما يشبه المنظمات التي كان يشرف عليها ويخطط لها ويتعهدها ويساعدها رؤساء من الوزراء والأدباء والكتاب والشعراء من الموالي الفرس”، ويربط هذا التعريف الشعوبية بالفرس؛ لأنهم أكثر الموالي حقدًا على العرب، والشعوبيون هم أولئك الذين كانوا ينتمون إلى تلك الشعوب التي اعتنقت الإسلام وينكرون على العرب أي فضل يتميزون به، وأساسهم العصبية التي لا تدخل في دين إلا أفسدته ولا في حياة إلا أهلكتها.

  1. أنور الصادق، آثار حركة الشعوبية والزندقة على الحياة الفكرية في العصر العباسي الأول 132-266هـ، رسالة ماجستير، جامعة الفاتح، ليبيا (2006).
  2. رضا رافع، “ظاهرة الشعوبية في العصر العباسي”، مجلة المدونة، مركز الدراسات الأدبية والنقدية، جامعة المديَّة، الجزائر (2015).
  3. عبدالعزيز الدوري، الجذور التاريخية للشعوبية، ط3 (بيروت: دار الطليعة، 1981).
  4. عثمان العبادلة، “الشعوبية في الشعر العربي أهدافها ونشأتها”، مجلة جامعة الأزهر، العلوم الإنسانية، مجلد 3، ع.1 (2000).
  5. نورة الظويهر، “الأبعاد التاريخية لعداء الفرس للعرب من ظهور الإسلام حتى نهاية العصر العباسي الثاني 334هـ”، مجلة جميعة التاريخ والآثار الخليجية، ع. 14 (2019).
  6. الجاحظ، “الحيوان”، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1424ه.

ولاية الفقيه

محاولة لسلخ شيعة العرب من هُوِيَّتهم وتحويلهم إلى هجين تابع للثقافة الفارسية القديمة

المتخصص والراصد لتاريخ الشرق الأوسط يعي حقيقة النزعة العدائية التي تسيطر على القوى السياسية في الهضبة الإيرانية تجاه شرق المتوسط والجزيرة العربية. وتزايدت نبرة العداء بعد ما سَمَّوه بالثورة الإسلامية في إيران سنة (1979)، ووصول الخميني إلى القيادة السياسية، بعد فرض مبدأ ولاية الفقيه، ثم قام هذا النظام السياسي الآيديولوجي بتغطية أطماعه السياسية تحت شعارٍ يتمثل في “تصدير الثورة الإسلامية”.

غير أن الحرب الإيرانية العراقية التي اندلعت عام (1980)، أثبتت صعوبة “تصدير الثورة الإسلامية”، لذلك قامت إيران بتعديل استراتيجيتها. حيث جاء في تصريح رئيس وزراء إيران مير حسن موسوي، التحول الكبير في أساليب تصدير الثورة الإسلامية؛ إذ أعلن في 30 أكتوبر (1984) “إننا لا نريد تصدير ثورة مسلحة لأي بلد، هذه كذبة كبرى، هدفنا هو نشر الثورة الإسلامية من خلال الإقناع ووسائل الصدق والشجاعة، وهذه قيم إسلامية”، وكان هذا التصريح بداية لسياسة جديدة لإيران الخمينية بالتسلل داخل المنطقة العربية، من خلال دعم الأقليات التابعة لها، وإثارة النعرات الطائفية، ورفع شعارات إسلامية بقصد زيادة اتساع السيطرة السياسية لإيران بنشر الفوضى.

يرى الباحث اللبناني جمال واكيم أن الهدف من السياسة الإيرانية الجديدة كان براجماتيًّا بحتًا؛ لخدمة أهداف سياسية، أكثر منها مذهبية، إذ يقول: “تمكنت إيران من تعزيز نفوذها في العراق، وأحدثت اختراقات في جبهة البحر المتوسط، عبر علاقاتها مع سوريا، وكانت إيران تطل على شرق المتوسط، وعبر علاقاتها مع حزب الله في لبنان، كانت إيران تهدد الأمن القومي الإسرائيلي، وعبر علاقاتها مع حماس في غزة كانت إيران تطل على سيناء وقناة السويس والأمن القومي المصري، وعبر علاقاتها مع حوثيِّي اليمن، كانت إيران تطل على باب المندب، بوابة البحر الأحمر إلى المحيط الهندي”.

بدأت السياسة الخمينية هذا الاتجاه مبكرًا، لا سيما في العراق، وربما يعود ذلك إلى القرب الجغرافي، والعلاقات التاريخية، واستغلال الطائفية بفرض تبعية عمياء لإيران. لذلك عملت إيران على إنشاء حزب الدعوة العراقي، على غرار الدعوة الإيراني، وقامت بدعم هذا الحزب ماليًّا وعسكريًّا. وهو الحزب الذي نفذ الأهداف الإيرانية التي كان من أبرزها محاولة اغتيال الرئيس العراقي صدام حسين وعدد من وزرائه، كما فجر الحزب القنابل والعبوات الناسفة في عدة وزارات عراقية، بل حتى في جامعة المستنصرية الشهيرة، وأدى ذلك إلى سقوط العديد من القتلى والجرحى. وردًا على ذلك قامت حكومة صدام حسين بإلقاء القبض على زعيم حزب الدعوة محمد باقر الصدر، وتم توجيه تهمة الخيانة العظمى له، وبناءٍ عليه صدر الحكم بإعدامه.

ويأتي الاختراق الثاني الكبير في لبنان؛ حيث استغلت إيران وجود طائفة كبيرة تابعة لها في الجنوب، وبدأت إيران تقدم المساعدات المالية لتابعيها في لبنان، وهي المساعدات التي قدرها البعض بحوالي مائة مليون دولار سنويًا. كما ساندت إيران تأسيس حركة أمل اللبنانية، وكلمة أمل هي اختصار لـ”أفواج المقاومة اللبنانية”. ويؤكد الباحث الأردني عليّ محافظة على تبعية حركة أمل لإيران قائلاً: “تدخلت إيران في الوضع اللبناني، وعملت على سلخ الشيعة من المجتمع اللبناني وإلحاقهم بها، وفي المؤتمر الرابع لحركة أمل في مارس 1982، أعلنت الحركة أنها جزء لا يتجزأ من الثورة الإسلامية”.

لكن الاختراق الإيراني الأكبر في لبنان كان تأسيس حزب الله عام (1989)، على غرار حزب الله الذي تشكل في إيران، قبل قيام الحزب الجمهوري الإسلامي. ويرتبط حزب الله اللبناني بمرشد الثورة الإيرانية، ويُعَد الأمين العام للحزب بمثابة الوكيل الشرعي للوليّ الفقيه، مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران.

ويأتي الأخطر في جنوب الجزيرة العربية في اليمن؛ إذ استطاعت إيران تكرار تجربتها في العراق ولبنان بالسيطرة على شيعة اليمن، من خلال جماعة أنصار الحوثي. وكان هذا الاختراق غريبًا في حقيقة الأمر نظرًا للاختلاف المذهبي بين شيعة اليمن وشيعة إيران؛ إذ يسود المذهب الزيدي بين شيعة اليمن، بينما مذهب الإثنا عشرية هو المذهب الرسمي في إيران. لكن إيران نجحت في استمالة الحوثي إليها، وأخذ الأخير يدعو إلى التقريب بين المذهبين “الزيدي والإثنا عشرية”. وفي الواقع لم يكن ذلك الأمر من أجل التقريب بين المذاهب، ولكن توطئة للتوغل الإيراني في اليمن.

اتفقت الاختراقات الإيرانية للمنطقة العربية على ترويج الشعارات المستهلكة، والدعم المادي للميليشيات الإرهابية.

وفي تقريرٍ نشرته المجلة الأمريكية “نيويورك تايمز” رصدت فيه كيف وظفت إيران الحوثي وجماعته مذهبيًّا وعسكريًّا لخدمة أغراضها السياسة. إذ يصف التقرير جماعة الحوثي قبل الدعم الإيراني بأنهم “مجموعة من المتمردين الأشرار، مقاتلون قبليون غير محنكين، يركضون مرتدين الصنادل، ومسلحين ببنادق رخيصة”.

أما بعد الدعم الإيراني المباشر أُدمج الحوثيون في شبكة الميليشيات التابعة لها في المنطقة العربية. ويرى التقرير أن هذا الدعم غرضه الأساسي: “تهديد السعودية خصمها التقليدي الإقليمي”.

هكذا استطاعت إيران الخمينية، استغلال بعض شيعة العرب بسلخهم من قوميتهم، والتلويح بالمسألة المذهبية، من أجل أطماعها السياسية في المنطقة العربية. ولعل ما يقوم به الإيرانيون اليوم بالتعامل مع أولئك العرب الذين انقادوا لهم خير دليل على أن الفرس ما أن يضمنوا تغلغلهم وسيطرتهم؛ حتى تظهر لديهم النعرة والفوقية العرقية ويتلاشى معها تلك التقاطعات المذهبية التي كانوا يتغنون بها قبل ذلك.

  1. عليّ محافظة: إيران بين القومية الفارسية والثورة الإسلامية (عمان: جامعة الأردن، 2013).
  2. جمال واكيم، أوراسيا والغرب والهيمنة على الشرق الأوسط (بيروت: د.ن، 2016).
  3. نيويورك تايمز، تقرير عن الحوثيين، 19 إبريل (2022). منشور مترجمٌ بموقع yemenmonitor.com.
تشغيل الفيديو

بالحشد والشحن والتسويغ

إيران رعت الإرهاب في أعمق صوره وتمظهراته ... مشرعنةً الحقد والكراهية بين أبناء القومية الواحدة

ترفض الفطرة الإنسانية السليمة الحقد؛ لأنه أسوأ الصفات الذميمة بين البشرية، ولذلك نجد الحقد عند الفلاسفة والسياسيين مرادفًا للصراع والصدام ولا يمكن أن يكون عامل توحيد أو صفة تجميع. وبما أن الفرس لم يستطيعوا التخلص من ترسبات الماضي والنعرات العرقية القديمة، فقد حاولوا “شرعنة الحقد” من خلال اختراق بعض العرب الشيعة وتطويعهم لخدمة أجندة ظاهرها الانتصار لآل البيت، وباطنها الانتصار للعرق الفارسي، الذي وجد في الدين أداة ووسيلة لتصفية حسابات التاريخ وإعادة ترتيب الخريطة الجغرافية.

برمجة إيران العقلية للعرب التابعين لها؛ انطلقت إلى أفقٍ أبعد من الخلافات المذهبية والصراعات التاريخية البينية إلى كره الذات الكلية.

في هذا السياق، دفعت الفطرة السوية المقبلين على الإسلام إلى شكر الدعاة الذين أخرجوهم من ظلمات الجهل والخسران إلى نور الهدى والإيمان، باستثناء الفرس الذين نقموا على الدين تقيةً وعملوا على استعماله صراحة. اجتهد الفرس في محاولاتهم الركوب على المعطى المذهبي من خلال اللجوء إلى مفاهيم المظلومية والانتصار للدين وأئمة أهل البيت، الذين هم منهم براء. ويمكن التعبير عن هذه الحالة بالإحالة إلى أحد المفكرين الشيعة، الذي قال بأن “ثمة في تاريخ الفكر ما يجعل الأمر البسيط غاية في التعقيد والغموض، فيذهب بالفكرة ناحيةً لم يكن مؤسسوها قد ذهبوا إليها أو ظنوا أن تنجر إليها”.

إن صدمة الفرس بوتيرة الفتوحات الإسلامية التي قادها العرب، دفعتهم إلى التساؤل عن الأسباب التي جعلت هؤلاء يحكمون جزءًا كبيرًا من العالم وتدين لهم رقاب الملوك وأفئدة الخلق من كل حدب وصوب. فكان اهتداء الفرس إلى أداة الضبط والربط داخل المجتمع المسلم والمرتبطة بـ “العقيدة” بأصلها الإلهي وتطبيقاتها النبوية الشريفة.

وإذا كان المسلمون قد انضبطوا إلى المعطى العقدي لنيل ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، فإن الفرس وجدوا فيها آلية لاحتكار الحكم وفصل “الطبقة الحاكمة” عن “المؤمنين العاديين”. ومن هنا قدم حكام الفرس الصفويون أنفسهم على أنهم نواب الله في أرضه الذين لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، ومن ثم لم يخضعوا للتوجيه أو المساءلة. ومن جانب آخر استعملوا الخطاب الديني الشيعي لتكريس عقيدة العداء تجاه العرب، وجعلوا من الأتباع حطبًا في حرب عرقية قديمة جديدة، ليس لها علاقة بالمعطى الديني في أصله وروحه ورسالته.

أحد أبرز رموز الشيعة “المعتدلين” تناول هذه الإشكالية بطريقة هي الأقرب إلى الموضوعية عندما قارن بين التشيع التقليدي والتشيع الصفوي فيقول “ما جرى بشأن (التشيع الصادق) هو بعينه –وبدون تشبيه – ما جرى مع (التشيع الكاذب) إبان العهد الصفوي. حيث عمل الصفويون على تشييد أركان هذا التشيع الدخيل على أشلاء التشيع الأصيل، مستفيدين من إمكانياتهم الهائلة وقدراتهم السياسية العسكرية من المتاجرين بالدين أو العلماء المغفلين”.

ويمكن القول بأن الصفويين الفرس كانوا أذكياء (من الناحية السياسية فقط)؛ إذ استوعبوا بأن أية مناورة خارج الإطار الديني سيكون مآلها الفشل داخليًّا، ولن تكون لها القدرة على التعبئة خارجيًّا. وفي هذه الفترة بالضبط وقع الاختراق أو الانقلاب كما يطلق عليه البعض. لقد نجح الفرس في استعارة “نفس القوالب الفكرية والعقائدية لهذا التشيع بعد أن أفرغوها من مضمونها ومحتواها الواقعي وركَّبوا  عليها نفس أسسه ومبادئه بأسلوب ماكر هادئ، وبالاستعانة بعلماء ذوي خبرة واختصاص، وذلك لكي يتسنى لهم تمرير هذه العملية على ذقون الناس، وقد نجحوا بالفعل؛ إذ لم يتنَبَّه الناس إلى عملية التبديل تلك”.

الفرس لم يكونوا ليقبلوا الصعود الملفت للإسلام في لبوسه ولسانه العربي، واعتبروا أن أفول حضارتهم كان سببها الإسلام الذي “اجتاح” بلادهم، ومن ثم لم ينظروا إلى الأمر بمنطق الربح والخسارة في الدارين، وإنما بمنطق القطيعة التي أحدثها الإسلام لما يعتقدون أنها حضارة يجب أن تسود وتحكم.

هذا الطرح تتقاطع معه الباحثة منى فياض التي تقطع بأن “مقاومة الفرس ترتبط بانهيار حضارتهم بسبب الصعود العربي الإسلامي الذي انطلق كالسهم في سرعته بالانتشار مجتاحًا مناطق واسعة امتدت من الهند حتى المغرب العربي والأندلس”.

إن تحليل معظم الحروب التي عرفتها البشرية يؤكد بأن الدين كان في صلب استراتيجية الحشد والشحن والتبرير، على اعتبار أن الإنسان لا يمكنه أن يلقي بنفسه إلى ميادين الكراهية وإهلاك النفس إلا إذا شُحِنَ بحق أو بباطل، بتعبيرات دينية قوية تجعله يسترخص النفس في سبيل نهاية يرى أنها أسمى من علة وجوده واستمراره.

إنه الإرهاب في أعمق تجلياته وتمظهراته. وإذا كانت التنظيمات الإرهابية قد أقنعت المغرر بهم بأن الموت في سبيل الله أسهل من الحياة في سبيله، وجعلت هلاكهم منطلقا لبقاء الجماعة والتنظيم، فإن الفرس استطاعوا تطويع المذهب الشيعي خدمة لأجندة توسعية ترى في هلاك العرب مفتاحًا لبقائهم من جهة، ولاستعادة أمجاد حضارتهم، من جهة أخرى، وإلا كيف لمسلم أن يعتقد بأن صلاح إسلامه وكمال إيمانه يمر عبر هدم الكعبة المشرفة وانتشال جثث أحب الناس إلى قلب رسول الإسلام وسيد الأنام.

  1. كولن تيرنر، التشيع والتحول في العصر الصفوي (بغداد:  منشورات الجمل، 2008).
  2. علي شريعتي، التشيع العلوي والتشيع الصفوي بيروت: دار الأمير للثقافة والعلوم، 2002).
  3. منى فياض “التشيع الإيراني بنكهته الفارسية السلطانية”، مقالة نشرت على موقع قناة الحرة على الرابط https://www.alhurra.com/different-angle/2018/06/17