سلاطين آل عثمان

لم يهبوا يومًا لنصرة قضية إسلامية

شكلت الأحزاب السياسية المتطرفة -ومن ضمنها تنظيم الإخوان الإرهابي في العالم العربي- الصوت الذي يحمل وِزر ولعنة الدفاع والترافع عن كل ما هو عثماني، حتى لو تطلب الأمر تزوير الوثائق وتزييف الحقائق، في مقابل ضمان حاضنة سياسية وإعلامية ومالية للمشاريع الإخوانية.

ودائمًا ما تُظهر الأحداث الوجه الخبيث لهاته التنظيمات التي تصب جام غضبها على جميع الدول العربية، وتستثني من نقمتها الدول التي تدعم أجندتها. وهو ما يؤكد بأن هاته التنظيمات قد انسلخت من جلدها العربي وبايعت الأطروحة العرقية لقوميات غير عربية.

وعلى الرغم من أن الدول التي يترضى عنها المتطرفون تبقى من أوائل الدول المتلونة سياسيًا، فإن الأقلام الإسلاموية تمر على تلونها هذا مرور اليتيم بقوم، بل وهناك من يعتبره من أقرب القربات إلى المولى عز وجل. ويجد بعض هؤلاء مبررات في كون التلون السياسي من مخلفات أفكار علمانية لدى بعض الدول التي تدعمها، ويدافعون عن سقوط العثمانيين متجاهلين أن دخول فلسطين تحت احتلالهم كان بداية التغلغل اليهودي هناك، والذي استفاد هو الآخر من نظام الامتيازات تحت الوصاية البريطانية.

في هذا الصدد “طرح اللورد بالمرستون سنة (1830) فكرة إنشاء دولة يهودية في فلسطين تحميها بريطانيا وتؤمن طريق الهند. وراح اليهود يحاولون امتلاك الأراضي في القدس، غير أن أهل البلاد وقفوا لهم بالمرصاد، ولكن بضغط من بريطانيا جعلت اليهود يحصلون على امتيازات من الدولة العثمانية، وقد تمثل ذلك بحصول “مونتفيوري” الثري اليهودي وآخرين على فرمان من السلطان عبد المجيد سنة (1840) يكفل حماية اليهود وحرية معتقداتهم الدينية”.

إن تفريط العلمانية التركية بعد العثمانيين بفلسطين كان تحصيل حاصل، وهو نتاج لإسقاطات نظام الامتيازات الذي وقع عليه سلاطين الدولة العثمانية، وذلك منذ عهد سليمان القانوني، وهو ما أدى إلى انفراط عقد العديد من المناطق العربية وخضوعها لسلطان الدول الغربية، خاصة فرنسا وبريطانيا.

إن قراءة في التاريخ العثماني تؤكد بأن سلاطين إسطنبول لم يهبوا يومًا لنصرة قضية إسلامية، واعتبروا القضايا العربية عارضة ما دام أنها لا تمس مركز ثقل دولتهم في الأناضول، اللهم إلا تشبثهم بالحجاز، الذي شكل المرتكز الديني لشرعنة المشاريع التوسعية للدولة العثمانية.

ويبقى صم الآذان أمام نداءات مسلمي الأندلس شاهدًا على تنكر العثمانيين لقضايا الأمة، مهما ادعوا عكس ذلك، أو حاولوا تحريف الوقائع التاريخية. وعلى العكس من ذلك استغل العثمانيون ثورات الموريسكيين من أجل بسط سيطرتهم على تونس. وهنا نجد وثائق تركية “تقدم تحليلًا للموقف العثماني من ثورات الموريسكيين يتلخص في عنصرين أساسيين: أحدهما الانشغال عن النصرة المباشرة لثورة (1568) بسبب احتياجات غزوة قبرص (1570)، ومعركة ليبانتو (1571)، وإحكام السيطرة على تونس. ثانيهما الاتجاه عند الإعداد لاستعادة تونس إلى توظيف الموريسكيين من خلال اتصال البروتستانت في هولندا لإحكام الضغط على فيليب الثاني من الشمال والجنوب تنفيذًا لخطة إستراتيجية عثمانية.

مع خذلانهم للعرب والمسلمين وجد العثمانيون في المتطرفين المدافع عن جرائمهم.

ما يقال عن فلسطين والأندلس يمكن تشبيهه بما حدث لليبيا والجزائر، اللتين تم التخلي عنهما من طرف العثمانيين بسهولة لفائدة المستعمر المسيحي. وهنا نؤكد بأن العثمانيين تخلوا عن ليبيا “مع سبق الإصرار والترصد”. ورأينا كيف أنه “أثناء حكم الاتحاد والترقي ضاعت ليبيا، احتلها الإيطاليون… وعند قيام الجيش الإيطالي بمناوراته وجهت الدعوة إلى الملحق العسكري العثماني (الاتحادي) علي فؤاد باشا لمشاهدتها… قام الجيش الإيطالي بالتوجه إلى طرابلس الغرب، كان الصدر الأعظم منها وهو إبراهيم حقي باشا. قدمت إيطاليا إعلانًا بالحرب ضدنا في ورقة رسمية قدموها للصدر الأعظم الذي كان يلهو في أحد الملاهي الليلية، لم ينظر إلى الورقة عندما قدموها له…”.

ومهما يمكن أن يقال بخصوص فلسطين أو الأندلس أو ليبيا، فإن ما وقع في الجزائر مما تشيب له الولدان، خاصة أن إيالة الجزائر خضعت لاستعمار عثماني مباشر لأزيد من 315 سنة. وخلال هذه المدة تمت استباحة الإيالة بأبشع الجرائم التي وصلت إلى حد الإبادة الجماعية، كما أن الاتراك تركوا الجزائر في حالة صمت حضاري سحيق ولم يؤسسوا لأي صرح حضاري أو علمي أو ديني.

وهنا نجد القنصل الأمريكي في الجزائر وليام شارل (1816-1824) يؤكد على هذه النقطة بالقول “وأما حالة العلوم، فإن مما لا جدوى فيه الحديث عنها، حيث إنها غير موجودة، أو هي، متى كانت موجودة، محتقرة. بل إن علم الطب نفسه لا يوجد من يدعيه، هذا إذا استثنينا المشعوذين وكتاب الحروز”.

هو إذًا منطق الحقيقة وسلاح الوثيقة الذي يفسد تدبير التنظيمات الإسلاموية، والتي تعمل ليل نهار لتطهير تاريخ الدولة العثمانية، خاصة في المناطق العربية. وهنا تؤكد الشواهد ويقطع التاريخ بأن جميع المناطق التي مر منها آل عثمان أدخلتها في حالة من “الصمت الحضاري السحيق”، والذي لم تنهض منه بعض الدول إلى الآن.

  1. إبراهيم جورج ثيودوري، القدس في العيون (فلسطين: دار يافا العلمية للنشر والتوزيع، 2010).

 

  1. مذكرات رضا نور، أتاتورك ورفاقه ونهاية العثمانيين (القاهرة: دار البشير للثقافة والعلوم، 2020).

 

  1. مذكرات وليام شالر قنصل أمريكا في الجزائر، ترجمة: إسماعيل العربي (الجزائر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1982).

 

  1. نادية محمود مصطفى، العصر العثماني من القوة والهيمنة إلى بداية المسألة الشرقية (القاهرة: مكتبة المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996).