السفاحون الثلاثة:

مجرمون أمام محكمة التاريخ

السياق العام: بين الأمس واليوم

إن الهدف من دراسة ظاهرة تاريخية أو حالة اجتماعية هو المساهمة في فهم بعض التعبيرات السلوكية الحالية أو تكون لها إسقاطات وامتدادات تساعد على تحليل النسق السياسي لبعض الأشخاص أو الأنظمة. وفي غياب أي ارتباط بين الحدث التاريخي والواقع الحالي فإن هذه الدراسة تكون في مقام سقط المتاع ولا فائدة ولا قيمة لها.
في هذا السياق، فإن هناك حاجة ماسة إلى فهم البنية السلوكية للعثمانيين الجدد والذين يحاولون الترويج للنزعة القومية التركية ومحاولة خلق إجماع تركي حول القيادة الحالية خصوصا بعد نتائج استفتاء سنة (2017م) والتي فاز فيها أردوغان بصعوبة (بنسبة 51%) وهو ما يهدد استمرار حزب العدالة والتنمية في سدة الحكم في ظل فقدانه لأهم المحافظات التركية لفائدة حزب الشعب الجمهوري المعارض. هذا الإكراه السياسي دفع الحزب الحاكم إلى إعادة التركيز على المعطى العرقي في الداخل من أجل توسيع القاعدة الانتخابية، كما عمل على استغلال هذا التوجه لخدمة المشاريع التوسعية لتركيا أردوغان من خلال تحريك الأقليات التركمانية في بعض البلدان العربية (العراق، لبنان، ليبيا، سوريا) في محاولة لوضع اليد على هذه الدول لاعتبارات اقتصادية وأخرى استراتيجية.
من هذا المنطلق، عرفت بدايات القرن العشرين طفرة في التصور الإيديولوجي، فهم يمثلون بنية الدولة العثمانية الأساسية التي تأثرت بالبيئة الاستراتيجية الجديدة في ظل الانتكاسات العسكرية المتتالية وانهيار حلم الاحتفاظ بالمناطق التي أخضعتها السلطنة العثمانية. وبالموازاة مع ذلك تزايدت المطالب الاستقلالية التي رفعتها الأقليات العرقية والتي لم يستطع الحكام الأتراك احتواءهم باعتبارهم أحد مكونات الشخصية الوطنية، وظلوا على هامش الأحداث ينتظرون أن تنضج الشروط الذاتية والموضوعية للمطالبة بالاستقلال عن الأستانة.
إن الأمانة التاريخية تفرض الاعتراف بأن تيارًا واسعًا داخل الطبقة السياسية التي حكمت تركيا منذ سنة 1908م، وخصوصا من ذوي التوجه الليبرالي، كان يسعى إلى تأسيس دولة حرة متعددة الأعراق ترى في المواطنة معيارًا يتجاوز الانتماء العرقي والعقدي، غير أن المؤيدين للهيكل أُحادي الهوية للإمبراطورية العثمانية كانوا يتبنون موقفًا متشددًا من مسألة الهوية القومية. ولعل نجاح هذا التيار العنصري في هزيمة الليبراليين بعد مقتل الصدر الأعظم محمود شوكت بتاريخ 12 يونيو عام 1913م جعله يقود تركيا إلى شلالات من الدم تحت قيادة محور الإرهاب ممثلا في الثلاثي طلعت باشا وأنور باشا وجمال باشا.
لقد ساهم هذا الثلاثي الملقب بـ “الباشوات الثلاثة”، على غرار ما يقوم به بعض الأتراك حاليا، في تكريس النزعة القومية التركية من خلال رفع شعار “دولة تركيا الكبرى” مع ما واكب ذلك من تهميش لباقي القوميات التي تشكل باقي فسيفساء الدولة التركية، وهو ما دفع بهذه الأقليات وعلى رأسهم الأرمن إلى رفع مطلب الاستقلال أسوة بباقي شعوب البلقان الذين كانوا تحت السيطرة العثمانية حيث شكلت التجربة البلغارية واليونانية مصدر إلهام للأرمن الذين كانوا يعيشون تحت الحكم الدكتاتوري لآل عثمان.
ونتيجة لهذا التوجه العنصري الجديد للدولة العثمانية سيسجل التاريخ مشاهد مؤلمة من عمليات الإبادة والمذابح التي حدثت بالدرجة الأولى في حق الأرمن وغيرهم من مواطني الدولة التركية من المسيحيين والعرب والكلدان والسريان والآشوريين واليونانيين.
وتكمن أهمية دراسة الجرائم التي قام بها من يطلق عليهم لقب “الدكتاتورية الثلاثية” في كونها من البدع التي لجأ إليها الساسة الأتراك لتسويغ تنكيلهم بالمعارضين السياسيين والأقليات العرقية تحت مسوغات الخيانة وخدمة أجندات خارجية، وهي التهم نفسها التي لجأ إليها السفاحون الثلاثة لتسويغ مواجهة باقي الأقليات العرقية بدعوى عمالتهم للعدو الأشرس للدولة العثمانية آنذاك ممثلاً في روسيا القيصرية، وهو ما جعل الأتراك يصفون الأرمن بـ “الطابور الخامس” للروس باعتبارهم مسوغًا لإبادتهم وتحقيق حلم الدولة التركية الخالصة وهي العقيدة العنصرية التي سيتبناها الزعيم النازي أدولف هتلر سنوات بعد ذلك.

الباشوات الثلاث: المسؤولون عن "أوامر القتل"

“إنني أنجزت من القضية الأرمنية خلال ثلاثة أشهر فقط ما عجز عنه عبد الحميد خلال ثلاثين سنة” (طلعت باشا)
لقد تميزت شخصية أضلاع “مثلث الدم” (طلعت باشا، أنور باشا، جمال باشا) ببنية سلوكية متعصبة تؤمن بالاستثناء التركي وترى تفوقهم العرقي على باقي الأعراق، حيث لجأوا، من أجل إثبات هذا المعتقد، إلى العديد من الوقائع التاريخية التي تدعم طرحهم ليصلوا إلى قناعة مفادها ضرورة تأسيس دولة حاضنة للعرق التركي فقط وهو ما جعلهم يعملون على جعل الأناضول دولة للأتراك لينهجوا من أجل ذلك مسار الاغتيالات في حق الأرمن وباقي العرقيات وكذا قمع وسائل الإعلام غير التركية والاستيلاء على العقارات والأصول التي كان يملكها غير الأتراك.
لقد شكل هذا الثلاثي الحاكم مزيجًا متكاملاً ووحدة متمازجة جعلتهم يساهمون في رسم معالم التاريخ الدموي للعثمانيين، إذ استطاع طلعت باشا أن يؤثر في البنية السلوكية للحكام الأتراك الذين سيعقبونه والذين قاموا باستنساخ أساليبه ورؤيته القائمة على الدمج بين القومية التركية التي ترتكن إلى الدين من أجل بلورة مشاعر عنصرية عنيفة لخصها في مقولته الشهيرة “مهما فعلتم مع المسيحيين سيكون ذلك أمرا ممتعا”.
من جانبه وجد وزير الدفاع العثماني أنور باشا مسوغًا لاستباحة الأرمن من خلال تحميلهم مسؤولية فشله في استعادة الأراضي التي فقدتها السلطنة لصالح روسيا خاصةً بعدما رفضوا القتال إلى جانبه في شهر ديسمبر (كانون الأول) عام 1914م. ولقد كان لهذا الاتهام الوقع المهم في تعزيز مشاعر العداء ضد الأرمن، الذي سرعان ما تُرجم بقرار عسكري بتحويل الأرمن الذين يخدمون في القوات المسلحة من المهمات اللوجستية إلى مهمات غير عسكرية.
أما جمال باشا فقد أبدع في التنكيل بالأرمن خلال ما أطلق عليه بـ “مسيرات الموت” حين كان يتم نقل الأرمن نحو سوريا من أجل التخلص منهم في الطريق، وبذلك هلك مئات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ في مناطق خاضعة للسيطرة العثمانية خاصةً في منطقة دير الزور في الشام، بالإضافة إلى مئات الآلاف من العرب الذي قضوا نتيجة سياسة التجويع والاغتيالات والإعدامات التي ذهب ضحيتها خيرة المفكرين والأدباء والفقهاء العرب.

نهاية دموية لحكام الدم:

وبما أن نهاية السفاح تكون دائمًا مأسوية فإن مصير طلعت باشا وجمال باشا كان نفس مصير ضحاياهم؛ إذ اغتيل الأول بمدينة برلين الألمانية على يد شاب أرمَني بينما اغتيل الثاني ضمن ما عرف بـ “عملية نمسيس” التي نظّمها عدد من الأرمن للثأر من القادة الأتراك المسؤولين عن إبادة الأرمن، أما أنور باشا فقد جاءت نهايته على يد البلاشفة، حلفاء الأمس، في مدينة بخارى بعد العديد من المحاولات لتأسيس جبهة تضم المسلمين لمواجهة بريطانيا وإعادة إحياء حلم الإمبراطورية العثمانية.
هكذا كانت النهاية المأسوية للباشوات الثلاثة؛ إذ حكم عليهم بالإعدام من طرف المحاكم التركية ونفذ الحكم من طرف أعداء الخارج لتطوى صفحة سوداء من التاريخ الدموي للأتراك العثمانيين.