الأتراك والأندلسيون:

خزان بشري في خدمة مشاريع التمدد العثماني

خصص موقع “حبر أبيض” سلسلة حلقات حول العلاقة المُفترضة بين العثمانيين والأندلس بعدما حاول بعض المتأدلجين تقديم الأتراك بمنظور الأبطال الذين قدموا الغالي والنفيس لإغاثة أهالينا في الأندلس، ولولا الظروف المعقدة والاستهدافات المتكررة التي طالت الدولة العثمانية من طرف الدولة الصفوية والمماليك وبعض القوى الأوربية لربما كانت الأندلس اليوم، في تصورهم، دولة عربية إسلامية مستقلة وعضو في منظمة المؤتمر الإسلامي وهيئة الأمم المتحدة. 

في الحقيقة -كما أشرنا إلى ذلك سابقا- فقد أجمعت الكتابات الموضوعية التي رصدت لتلك الفترة التاريخية (نهاية القرن 15 م والنصف الأول من القرن 16 م) أن الدولة العثمانية لم تقم بأية مبادرة جادة لإنقاذ الأندلس من السقوط ولم يكن على رأس أجنداتها استرجاع هذه البقعة من بلاد المسلمين إلى أهلها.

بالمقابل اجتهد الأتراك العثمانيون، خاصة الذين احتلوا منطقة المغرب العربي، في استقدام مجموعة من الأندلسيين بمناسبة إغارتهم على السواحل الجنوبية لإسبانيا، وجرى اصطحابهم إلى الجزائر بشكل خاص وهناك عوملوا معاملة أحسن من المعاملة التي كانوا يتلقونها على يد محاكم التفتيش في إسبانيا. غير أن السؤال الذي يفرض نفسه: هل استُقدِم هؤلاء الأندلسيون بوازع ديني إسلامي محض أم أن الأتراك قاموا بهذه المبادرات لاعتبارات براغماتية محضة فرضتها الإكراهات التي كان يعيشها الأتراك في شمال إفريقيا وخاصة الجزائر؟

الجواب على هذا السؤال يفرض علينا تقسيم الفئات التي استُقْدمت أو اختُطِفَت من السواحل الإسبانية إلى ثلاث فئات:

– المسلمين الأندلسيين
– اليهود الذين كانوا في الأندلس وهربوا من سوء معاملة المسيحيين لهم.
– المسيحيين الذين اختطفوا في عمليات القرصنة، وأعلنوا إسلامهم بعد اختلاطهم بسكان شمال إفريقيا.

من جانب آخر، عاش الأتراك في المغرب الأوسط تحت وطأة ثورات متكررة طيلة فترة مقامهم في الجزائر وهو الواقع الذي اعترف به خير الدين بربروس حيث سرد في مذكراته مقاطع تصف كراهية الجزائريين للأتراك وهو ما جعل الحكام الأتراك يخشون الرهان على السكان المحليين في تكوين الجيش خشية الانقلابات المتكررة عليهم، والتي كانت تجري بوازع وطني يرفض الخضوع للاستعمار الخارجي وهو ما دفعهم إلى الاعتماد على العرق التركي وعناصر المرتزقة بالإضافة إلى عشرات الآلاف من الأندلسيين الذين جرى إنقاذهم من مخالب محاكم التفتيش ودُفعَ بهم إلى محرقة الثورات الجزائرية. 

في هذا السياق، يقول امبارك الملي في كتابه “تاريخ الجزائر في القديم والحديث” في معرض حديثه عن استراتيجية خير الدين بربروس في الجزائر ما نصه “كما أنه أيقن (خير الدين) أنه لا يستطيع الاعتماد طويلاً على ولاء الداخل ما لم يستمد من الخارج قوة ومدداً”. من هنا يتبين أن الأتراك لجؤوا إلى استغلال الأندلسيين لخلق قاعدة من الجيوش مساندة للأتراك في ظل الثورات الكثيرة التي أطلقها سكان شمال إفريقيا ضد الاحتلال التركي، حيث ظل خير الدين بربروس يدغدغ مشاعر الأندلسيين من خلال تذكيرهم بمعاركه ضد الإسبان لاستخلاصهم من براثن الكفر والإلحاد، حسب قوله.

لقد كان للأندلسيين دور حاسم في مجموعة من المعارك التي خاضها الأتراك وخاصة ضد الإسبان، حيث استغل الأتراك حقد الأندلسيين على الإسبان لتوجيههم لمحاربتهم في المدن التي يحتلونها أو الدفاع عن المدن التي حاول الإسبان افتكاكها من الأتراك. وتذكر مجموعة من الروايات بأن الأندلسيين لعبوا دورًا بطوليًّا في الدفاع عن مدينة الجزائر ضد حملة شارلكان، وهنا نعود إلى شهادة امبارك الملي التي يقول فيها “إن الجنود الأتراك لم يكن عددهم يتجاوز الثمانمائة، يُضاف إليهم نحو خمسة آلاف من مهاجري الأندلس الذين يمكن أن نتصور بسهولة مبلغ تحمسهم للدفاع عن مدينة الجزائر ضد الإسبان”.

في نفس السياق، سيساهم الأندلسيون مساهمة كبيرة في معركة تلمسان إلى جانب مولاي محمد الموالي للأتراك حيث حاربوا إلى جانب أربعمائة تركي فقط بينما كان الجزء الأكبر من الجيش يتألف من العائدين من الأندلس. وعندما هجم الإسبان على مدينة مستغانم كان للأندلسيين دور كبير في دحر جيوش القائد الإسباني الكونت الكوديت حيث تفاجأ بجيش أساسه من الأندلسيين وعددهم يناهز خمسًا وعشرين ألفًا ألحقوا بالجيش الإسباني هزيمة نكراء. وبخصوص فئة المرتزقة والمسيحيين الإسبان الذين اعتنقوا الإسلام فقد اعتمد عليهم الأتراك لإخماد الثورات المتكررة التي قام بها سكان الجزائر من جراء المعاملة غير الإنسانية التي ميزت تعامل الأتراك مع سكان هذه المناطق. وأيضا عندما قرر خير الدين بربروس تصفية حساباته مع سلطان تونس بمباركة من الباب العالي، قاد جيشًا قوامه ثمانية آلاف وتسعمائة جندي ما بين أتراك ويونانيين وألبانيين وإسبان تركوا دينهم ودخلوا الإسلام (امبارك الملي تاريخ الجزائر في القديم والحديث، ص 58 ).

أما الفئة الثالثة التي جاء بها الأتراك من الأندلس فهي فئة اليهود الذين اشتُهِروا باحترافهم للتجارة وساهموا مساهمة فعَّالة في تحقيق الاكتفاء الذاتي داخل الجزائر بالإضافة إلى تنشيط التجارة على المستوى الخارجي. ولعل اليهود لم يكتفوا بهذا الدور بل لعبوا دور الجواسيس داخل إسبانيا وكانوا يمدون بني جلدتهم في المغرب الأوسط بمجموعة من المعلومات القيمة جعلت الأتراك يتفادون مجموعة من التكتلات التي كان الهدف منها القضاء على التواجد التركي في منطقة المغرب العربي وخاصة الجزائر.

هذا الدور الذي لعبه اليهود جعلهم يحظون بتعامل تفضيلي من طرف الأتراك برعاية واهتمام تجاوز تعامل الأتراك مع المسلمين العرب كثيرًا، إذ يصف لنا المؤرخ الأمريكي وليام سبنسر هذا التعامل التفضيلي فيقول: “لقد كان اليهود وحدهم يشكلون ملة غير إسلامية معترفا بها. ولم يتسع التعالي الذي هو من طبيعة الأتراك تجاه رعاياهم المسلمين إلى اليهود الذين كانوا ينظرون إليهم بشيء من التمرس غير الطبيعي كأن يكون لهم مدخل إلى السحر الأسود وكذلك المعرفة فوق العادة بقضايا العملة”. (الجزائر في عهد رياس البحر، ص 100 ).

انطلاقا مما سبق نخلص إلى أن مساعدة الأتراك للأندلسيين على مغادرة إسبانيا والالتحاق بمناطق النفوذ التركي كان الغرض منه الاستفادة من الاحتياطات المهمة من الجيوش الأندلسية التي كانت تكن حقدًا كبيرًا للإسبان بعد المذابح التي أقامتها محاكم التفتيش وتعليقها آمالا كبيرة على العثمانيين لاسترجاع الأندلس إلى حاضنة الدول الإسلامية، بالإضافة إلى استفادة الأتراك من خبرات اليهود الذين عاشوا في الأندلس ممن كانوا يتلقون نفس المعاملة العدوانية من طرف المسيحيين الإسبان، فاستُغِلٌّوا في أمور عديدة، على رأسها التجارة والعملة والتجسس والترجمة.

ولعل شماعة إنقاذ العثمانيين للأندلسيين من بطش الإسبان بعد فشلهم في منع سقوط الأندلس تسقط أمام القرائن المتقاطعة التي تؤكد بأن ما قام به الأتراك تجاه الأندلسيين كان لأمر من أمور الدنيا وليس لأمرٍ من أمور الدين والآخرة وهو ما يجعلنا على قناعة بأن سلاطين آل عثمان كرَّسوا عقيدة عنصرية استعلائية راهنت على إخضاع الدول العربية والإسلامية تحت عناوين “الخلافة الإسلامية” والتي لم تكن سوى حصان طروادة لدغدغة اللا شعور الجماعي للمسلمين الذين كانت قلوبهم تهفوا إلى دولة قوية ترد إلى المسلمين هيبتهم وكبرياءهم، قبل أن يصطدموا بإرهاب الدولة العثمانية التي قتلت من العرب والمسلمين أضعاف ما قتلته خلال عملية غزوها لشرق أوربا، وهي السياسة التي لازالت تتبعها أنقرة من خلال ادعائها تمثيل المسلمين في كافة العالم الإسلامي وهو ما دفعها إلى استباحة شعوب العديد من الدول الإسلامية في سوريا وليبيا والعراق على أمل إحياء أمجاد الدولة العثمانية التي خلفت وراءها ما يزيد على مليون قتيل حسب إحصائيات موثقة، والأعداد مرشحة للارتفاع إذا لم يغير الساسة الأتراك من استراتيجيتهم التي تضرب في مبادئ الدولة الوطنية وقواعد حسن الجوار.