أجبر الترك الأهالي على الهروب للإسبان فرارًا من المجازر

تونس... بين نار الاستعمار الإسباني ووحشية الاحتلال العثماني

خلال العصور التاريخية الوسيطة الذي كانت تتنافس فيها الإمبراطوريات الكُبرى، كانت الدول الصغيرة محل تنافس دائم بينها، خاصة إذا كان الموقع الاستراتيجي لتلك الدول ذا أهمية، وهذا ما حدث لتونس في منتصف القرن السادس عشر الميلادي، حين أوقعها حظها البائس بين احتلالين أولهما إسبانيٌّ وثانيهما الدولة العثمانية، وما أفظع من الأولى إلا الثانية.

كان هدف الإسبان واضحًا، ليس احتلال تونس فقط بل وضع حدود للنفوذ العثماني المتصاعد في البحر الأبيض المتوسط، الذي يُعَدُّ -على رغم العلاقات الديبلوماسية- خطرًا على إسبانيا. وكانت استراتيجية إسبانيا لتحقيق هذا الهدف هي التمركز على السواحل التونسية ووضع حامياتها فيها، دون التوغل في داخل البلاد التونسية. لذلك تركز الوجود الإسباني في بنزرت وحلق الوادي والمهدية وجربة.

أما الدولة العثمانية، فقد تمحورت استراتيجيتها في السيطرة على الملاحة في البحر الأبيض المتوسط. وعمل السلاطين الأتراك على مد نفوذهم إلى معظم الدول الإسلامية، لا سيما بعدما اتخذ السلطان العثماني الترويج الديني المخادع بلقب “أمير المؤمنين”، لذلك ساندت الدولة العثمانية حركة القرصنة في سواحل شمال إفريقيا. ومنذ النصف الثاني من القرن السادس عشر أصبحت الدولة العثمانية عن طريق ولاتها في الجزائر وطرابلس تخطط للقضاء على الدولة الحفصية في تونس، وكذلك القضاء على الوجود الإسباني في بعض السواحل التونسية.

ومن جهة أخرى، فلا ينبغي تجاهل موقف القوى المحلية في تونس من هذا الصراع الدولي على تونس، والذي -بالقطع- انعكست آثاره على هذه القوى المحلية. وكانت أهم هذه القوى الدولة الحفصية، هذه الدولة التي أصابها الضعف بشدة نتيجة تقلص مواردها المالية وتآكل رقعتها السياسية. واستشعر الحفصيون الخطر الشديد من تواجد العثمانيين في الغرب في الجزائر وفي الشرق في طرابلس.

واتخذ العداء بين الحفصيين والعثمانيين طابعًا دينيًّا وسياسيًّا عندما منح السلطان العثماني نفسه لقب “أمير المؤمنين”، بينما كان السلطان الحفصي يرى في نفسه “أمير المؤمنين”، من هنا لجأ الحفصيون إلى التحالف مع الإسبان ضد العثمانيين حفاظًا على سلطتهم؛ إذ أدرك الحفصيون أن هدف العثمانيين هو زوال الدولة الحفصية والسيطرة على كامل تونس، بينما ينحصر خطر الإسبان في بعض الموانىء المهمة فقط.

أدركت القبائل التونسية الطغيان العثماني الذي ينتظرهم؛ لذلك أيد سلطان الدولة الحفصية الاستنجاد بالإسبان.

ومن هنا استنجد الحسن الحفصي بشارل الخامس ملك إسبانيا ضد خير الدين بربروسا، مما أدى إلى دخول الجنود الإسبان إلى تونس، واعترضت النخبة التونسية على هذا الأمر، ورأت فيه تدنيسًا لتونس بدخول “الكفار” إلى العاصمة التونسية، ويرى المؤرخ التونسي عبد الحميد هنية أن هذا الأمر: “أفقد الحفصيين الشرعية التي اعتاد المجتمع المدني منحهم إياها … وحاولت الأرستقراطية الحفصية بعد ذلك استرجاع هذه الشرعية باستمالة أهالي مدينة تونس لما أطاحت بالسلطان الحسن جاعلة منه كبش فداء واستبدلته بابنه أحمد. لكنها لم تفلح في استرجاع سالف نفوذها وفي إعادة بناء المركزية السياسية في البلاد”.

وعلى عكس موقف النخبة المدنية في تونس، كان للقبائل التونسية في المناطق الداخلية موقفٌ آخر؛ إذ تخوفت الزعامات المحلية من التدخل العثماني؛ لأنها أدركت النزعة المركزية للأتراك، كما قاموا بها في الجزائر وطرابلس، مما يتعارض مع نفوذ القبائل في الداخل التونسي، لذلك أيدت القبائل التونسية الدولة الحفصية والإسبان ضد النفوذ العثماني من أجل المحافظة على استقلالها الذاتي، كما لجأت بعض القبائل الأخرى التي التفت حول الحركة الشابية الصوفية على الاستقلال التام عن أي سلطة مركزية.

هكذا وفي ظل الصراع الدولي على تونس، وضعف الدولة الحفصية وتخاذلها، وتشرذم الداخل التونسي، كان من السهل على العثمانيين احتلال البلاد التونسية منذ عام (1574م)، ومع ذلك وبمجيء الباي حسين تكونت الأسرة الحسينية التي نجحت في الحصول على نوع من الاستقلال الذاتي، ودعم اللغة العربية وعلماء الدين كما أجرت هذه الأسرة العديد من الإصلاحات.

  1. عبد الحميد هنية، تونس العثمانية، ط2 (تونس: تبر الزمان، 2012).

 

  1. محمد الهادي الشريف، تاريخ تونس من عصور ما قبل التاريخ إلى الاستقلال، ترجمة: محمد الشوش ومحمد عجينة، ط3 (تونس: دار سزاس، 1993).

 

  1. المنصف التايب، “المجال والسلطة في البلاد التونسية خلال العهد العثماني”، مجلة روافد، تونس: ع. 4 (1998).

 

  1. رضا بن رجب، يهود البلاط ويهود السلطة في تونس العثمانية (بيروت: دار المدى، 2010).

 

  1. شوقي الجمل، المغرب العربي الكبير (القاهرة: مكتبة الأنجلو، 1977).