سور جدة وميناؤها

كتبت في تاريخ جدة زمن العثمانيين بحثًا ونعته بـ”جدة بين رحالتين”، واخترت الكتابة من كتابات الرحالة سنوك وكورتلمون، ووجدت الكثير مما اتفق عليه مؤرِّخو الحجاز ومكة بحكم أن جدة مرفأً لقدوم الحجاج لها.

جدة مرفأ على ساحل البحر الأحمر من حواضر بلاد الحجاز، ولأهمية موقعها نالت اهتمام الحُكام، والعلماء من مؤرِّخين وجغرافيين، وغيرهم، وذلك لأنها كما وصفها الإصطخري وغيره بأنها فُرضَة مكة وساحلها، وُصِفَت بأنها عامرة، كثيرة التجارات والأموال، ليس بالحجاز بعد مكة أكثر مالًا وتجارة منها.

عُرفت بأنها مدينة محصَّنة، عامِرة، آهِلة، بها قصور عجيبة، ولها سور، وبها أسواق، وقد وصفها ناصر خسرو بقوله: “لها بوابتان؛ شرقية تؤدي إلى مكة، وتُعرف بباب مكة، وغربية تؤدي إلى البحر، وتُعرف بباب الفُرضة، وأنها تتبع مكة إداريًّا”.

لم يكن لتاريخ جدة في كتابات سنوك كتابة خُصِّصت لها، لكنه أتى على ذِكرها حين كتب عن مكة أو بلاد الحجاز بشكل عام، ومع ذلك الاقتضاب كان يربط ما وقع في جدة من أحداث بما يجري في الحجاز، سواءً كانت المناطق القريبة، أو البعيدة عنها، وما يحدث في الجزيرة العربية بوجه عام، ولم يكتب سنوك كثيرًا عن ميناء جدة، لكنه يأتي على ذكره فيما يخص الاهتمام به من عدمه عندما كتب عن استحسان السلطان العثماني بتتبُّع الشريف للسفن البرتغالية 948هـ/1541م التي وصلت جدة، وبعد أن انتهى القتال أنعم السلطان بنصف عائدات الميناء، وكتابة سنوك تدل على التتبُّع السياسي للأحداث بين الحجاز والدولة العثمانية من حيث إنها موردًا مهمًّا من مواردها.

ويتَّضح بالمجمل أن الرحالة – كنيبور- كتبوا عن طبيعة ميناء جدة، وأثر المد والجزر مثلًا، وأن ذلك يُعِيق الحركة ويؤخرها كثيرًا، وكتب آخر- وهو باديا – عن صعوبة الرسو في الميناء بسبب الشُّعَب المرجانية، وقد كتب كورتلمون عن أثرها، وتتأكد معلومة مهمة في الكتابات السابقة أيضًا وهي سوء أحوال الميناء، ورداءة السفن فيه، وجهل البحارة في التعامل مع بعضهم البعض كربابنة.

ويُحلِّل الرحالة بوركهارت أن تأثُّر الميناء بسبب بناء المدينة على أرض مرتفعة ارتفاعًا قليلًا، وبالتالي يغمر البحر أجزاء منها، وأوضح ديدييه كرحالة أن الميناء مياهه ضحلة، ومليء بالرملة، وعلى السفن أن ترسو على بُعد من 2-3 أميال عن الشاطئ، لتكن الخطورة على السفن الراسية أفضل من أن تقترب.

وكتاباتهم تؤكد مدى الإهمال الذي وجده ميناء جدة من الدولة العثمانية التي تعتبر جدة مدينة مهمة لها، فهي مدخل لبلاد الحرمين، ووجهة للعالم الإسلامي، والسيطرة المباشرة عليها تتطلَّب خدمات في كل حال من أحوالها.

كتب كورتلمون عن جدة: “إنها شاطئ محترق ومجدب، مرفأها مُوحِش، ووضعها محزن”.

ولكل من سنوك وكورتلمون تتبُّع خاص لأوضاع جدة حسب الحدث الذي يمر بهما أثناء الكتابة، يظهر أن سنوك لم يتعرض لكتابة ما يخص أي معلومات خاصة بالسلع التجارية والأسواق، بل كتب عن أحوال سياسية كما ذكر سابقًا، لكن كورتلمون اهتم بالكتابة عن مشاهدته لأرصفة ميناء جدة فيقول: “ها هي الأرصفة مليئة بالبضائع القادمة من جميع البلدان، وها هي ذي صفوف غير متناهية من السنابك توجد مسحوبة على الرمال في وقت الجَزْر، تتكئ بحزن على مجاديفها…”.

إلى أن يقول: “يمتلئ الممر الذي نجتازه بالطوب، والعوارض الحديدية، والمواد المتنوعة الملقاة على الأرض بطريقة عشوائية، وتكسوها الرمال إلى منتصفها”.

ويوضح كورتلمون كذلك عن مخلَّفات متراكمة قد مضى عليها حينٌ من الدهر بأن الحاج آكلي – وهو مُرافِقه من الجزائر – رآها على وضعها منذ عدة سنوات، وأخبره بأن تلك المواد كانت مُخصَّصة لبناء مستشفيات ومحاجر صحية، وحمامات التطهير، ويضيف خبرًا مهمًّا جدًّا، هو أن تلك المواد لمشروعات وهمية إلى حد ما، وقد لا تُبنَى أبدًا”، وتلك شهادة الحاج آكلي كمعاصر تُبيِّن مدى الإهمال المتعمَّد.

يصف سنوك قدوم الحجاج مِن جاوا أنهم يُساقُون كالقطعان إلى الجُزُر المجاورة لحين استكمال ما يلزم صحيًّا، ويُلاحَظ وصفه “كالقطعان”، بحكم أنه كان مسؤولًا عن متابعة حجاج جاوا، ورفع تقارير بذلك لحكومته – هولندا – إعدادًا لاستعمارها.

وما كتبه كورتلمون يوضح الحالة السياسية التي كتب عنها سنوك أيضًا، وهو أن الدولة العثمانية، والوالي التركي في جدة، يهتمون كثيرًا بالسيطرة السياسية عليها، وأن يتولى الشريف حمايتها، وله نصف عائدات الميناء، وظل هذا الاتفاق ساري التنفيذ، فإذا ما قلَّت العائدات يتم تعويض الشريف عن طريق عائدات تُنقل من الأراضي السلطانية.

إن معاناة ميناء جدة وسورها – التي حسبما كتب الرحالتان وغيرهما، ومن كان يعتاد المجيء إليها لأهداف متعددة – كانت نتاج الأحوال السياسية واضحة المعالم للقادمين، ومَشاهد ملموسة، خاصة من قوافل الحجيج التي كانت تعاني من سوء أحوال الميناء وخدماته، وكان لازدواجية السلطة، واضطراب الأمن، انعكاس على مَعالِمِها الحضارية القديمة، التي من المفترض أن يكون الاهتمام بها وببنيتها التحتية بنيةً متجددة، لا أن تُلاقي الإهمال، وتعكس الصراعات الداخلية والخارجية عليها.

كتب سنوك: “إن أمير جدة التركي – يُلاحظ أنه يكتب لفظ: “تركي” – والموظفين الأتراك المُرسَلين إلى مكة للقيام بمهمات خاصة، بالإضافة إلى أمراء الحج، هم أشخاص غير مرغوب فيهم في الحجاز، ويمثِّلون ظواهر غير مُحبَّبة للنفس العربية، ولقد زادت العلاقة غير الحميمة سوءًا أيام الأتراك أكثر من غيرهم من السلاطين السابقين؛ فالأتراك والعرب يختلف كل واحد منهم عن الآخر اختلافًا واضحًا، ولا يتفهَّم الواحد منهم طبائع الآخر، زِد على ذلك أن الأمراء لم يحاولوا إظهار الجانب اللطيف لديهم، الأمر الذي كان يزيد من حدة الموقف في بعض الأحيان بين الجانبين العربي والتركي”.