عام (1855) في مكة المكرمة

ثورة العصيان ضد الاحتلال العثماني

عانت الإدارة العثمانية من ظاهرة الفشل المُزمن في إدارة شؤون الحجاز؛ إذ فهم الباب العالي أن الأمر يقتصر على إعلان سيادتهم ورعايتهم للحرمين الشريفين، وتقديم بعض الدعم لأوقاف الحرمين، وكان يتم ذلك في إطار الدعاية العثمانية من أجل تأكيد نفوذهم الروحي على العالم السُّني، نكايةً بالدولة الصفوية التي أعلنَت نفسها حامية للعالم الشيعي.

لكن الواقع المَرير يُثبِت فشل الباشوات العثمانيين في تفهُّم طبيعة المجتمع الحجازي وكيفية التعامل معه، كما اصطدم هؤلاء الباشوات كثيرًا بأشراف مكة، في محاولة لتقليص الاستقلال الذاتي الذي كانت تتمتَّع به إمارة الأشراف، وتوسيع نفوذ الباشا العثماني، وتجلَّى ذلك في عددٍ من الأزمات التي عانى منها الحجاز.

ومن الأحداث المهمة في هذا الشأن ما أطلق عليه المؤرخ أحمد السباعي “منع بيع الرقيق وثورة الأهالي”، وهو ما حدث في عام 1271هـ (1855)، ويَرجع ذلك الأمر إلى عقد الدولة العثمانية معاهدة مع بعض الدول الأوروبية، فُرض فيها على العثمانيين ضرورة منع بيع الرقيق في الأراضي التابعة لهم، وعلى ذلك أرسلت إسطنبول إلى كامل باشا والي جدة أمرًا بمنع بيع الرقيق، وامتثل كامل باشا للأمر، وقام بجمع تجار الرقيق وأبلغهم بضرورة وقف هذه التجارة.

وتوضِّح هذه الواقعة مدى جهل الإدارة العثمانية بطبائع ونفسية الشعوب، وفي الوقت نفسه عدم التدرج في تطبيق الأوامر التي قد تتعارَض مع المسموح به في الدين، وأيضًا العادات والأعراف الاجتماعية السائدة؛ إذ رفض الأهالي هذا القرار؛ لأنهم أدركوا أنه من جَرَّاء الضغوط الأوروبية على الدولة العثمانية، وأن القرار يتعارَض مع تنظيم الفقه لمسألة الرقيق، فضلًا عن أن هذا القرار قد يؤدي إلى متغيِّرات حادة في بنية المجتمع نفسه، وافتقر الباشا العثماني إلى الحكمة في تطبيق هذا القرار، فلم يلجأ إلى التدرُّج خطوة خطوة في هذا الشأن، والتمهيد له، وإعطاء فرصة لفترة انتقالية لتوفيق الأوضاع.

واتخذت ثورة الأهالي هنا نفس الشكل المتعارَف عليه في شتى مدن المنطقة العربية عند تنظيم الاحتجاجات الشعبية ضد الإدارة الجائرة للباشا العثماني، وهو ما نجده في القاهرة ودمشق وبغداد وتونس؛ إذ اجتمع طلبة العلم وعقدوا عزمهم على الذهاب إلى بيت رئيس العلماء الشيخ جمال شيح، للنظر في الأمر، وهناك تعالت الأصوات بأن هذا القرار العثماني بمنع بيع الرقيق يُعَدُّ مخالفة صريحة للشرع الحنيف، وتم الاتفاق على الذهاب إلى بيت القاضي لكتابة حجة شرعية بعدم جواز قبول هذا القرار؛ لمخالفته لأحكام الشرع.

وأثناء خروجهم في الشارع للذهاب إلى بيت القاضي انضم إليهم العديد من الأهالي، وتعالت الصيحات بالجهاد، وهنا حدث الصدام بينهم وبين العسكر الأتراك، واشتدت حدة القتال، وانتشر انتشارًا سريعًا، حتى إنه وصل إلى المسجد الحرام نفسه، وسالت الدماء، وسقط العديد من القتلى.

ووصلت أخبار هذه المذبحة إلى الشريف عبد المطلب، وهو في الطائف حينها، ويَروِي لنا صاحب إفادة الأنام موقـف الشريف قائلًا: “فلما جاء خبر ذلك إلى الطائف للشريف عبد المطلب جمع القبائل وقال: إني أريد حماية مكة؛ لئلا يصيبهم ضرر من كامل باشا – الباشا العثماني- بسبب ما صار منهم”.

لجأ الباشا العثماني إلى السياسة الدائمة والفاسدة للعثمانيين في إدارة شؤون الحجاز، وهي سياسة “فرِّق تَسُد” من خلال إحداث الوقيعة بين بيوت الأشراف، ونزع الشرافة من بيت، وإعطائها لبيت آخر، وبالفعل أعلَن باشا جدة عَزلَ الشريف عبد المطلب عن شرافة مكة، وتولية الشريف محمد بن عبد المعين بن عون.

ولا أدَلَّ على وعي أهالي مكة، ونزوعهم إلى الاستقلال الذاتي عن الاحتلال العثماني، وتدبير شؤونهم خاصةً في أوقات الأزمات، مما قاموا به أثناء هذه الأوقات الصعبة التي مرَّ بها البلد الحرام؛ إذ قام الأهالي بتنظيم ما نطلق عليه الآن “اللجان الشعبية”؛ للقيام برعاية الأمن وحفظ الممتلكات، وفي الوقت نفسه الإبلاغ عن أي تقدُّم عسكري تركي: “صار أهل الحارات حاملين السلاح، ويَعسُّون في البلاد طول الليل”.

دخل الشريف عبد المطلب ومن معه من المقاتلين في عدة مواجهات عنيفة مع عسكر الأتراك، وكلما فشل أعاد الكَرَّة من جديد، خاصةً مع انضمام العديد من القبائل إليه، لكن الجيش التركي نجح في استمالة بعض بيوت الأشراف إليه، كما نجحت سياسة فرِّق تَسُد، وانتهى الأمر بمحاصرة الشريف عبد المطلب ومَن معه في الطائف، حتى وقع في الأسر، وتم إرساله إلى إسطنبول، وقد أصدر السلطان العثماني أمره بالعفو عن عبد المطلب؛ لشجاعته، ولحَسبِه ونَسبه، كما سمح له بالإقامة في أحد قصور إسطنبول.

وهكذا انتهت ثورة الأهالي في مكة ضد الباشا العثماني، لكن هذه الحادثة، وغيرها، أثبتت سوء حُكم الإدارة العثمانية، وعدم قدرتهم على تفهُّم طبائع الأهالي، هذا فضلًا عما عاناه البلد الحرام من انتهاك حُرمته.

اتبع العثمانيون سياسة التفرقة بين الأهالي لإعادة السيطرة على مكة بعد ثورتها.

  1. – ابتسام كشميري، مكة المكرمة من بداية الحكم العثماني إلى نهاية القرن العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي، رسالة دكتوراه، جامعة أم القرى (2001).
  2. – أحمد السباعي، تاريخ مكة، دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران، (الرياض: الأمانة العالم للاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس المملكة العربية السعودية، 1999).
  3. – عبد الله الغازي، إفادة الأنام بذكر أخبار بلد الله الحرام، تحقيق ودراسة: عبد الملك بن دهيش (مكة المكرمة: مكتبة الأسدي، 2009).