الشاب الذي أراد إصلاح الدولة

فثارت عليه

أشاد كثير من المؤرخين الغربيين بفرقة الإنكشارية واعتبروها أحد أعمدة القوة العسكرية في الدولة العثمانية. يقول المؤرخ كارل بروكلمان: “إن الإنكشارية كانوا قوام الجيش العثماني وعماده”. ويضيف جرانت أن المشاة الإنكشارية كانوا أهم من سلاح الفرسان نفسه، حتى أصبح مستقبل الدولة العثمانية بأكمله مرتبطًا بهذه الفرقة؛ فإن تُركت على سطوتها الحالية فستكون العواقب وخيمة.

وفي هذا السياق برز السلطان عثمان الثاني، الذي رغم حداثة سنّه لُقّب بـكنج عثمان،  أي عثمان الشاب، الذي امتاز بصفات لافتة. أولها: أنه عاش عن قرب دهاليز الحكم في عهد والده السلطان أحمد الأول، وشاهد كيف تُركت إدارة الدولة للصدور العظام منذ أواخر عصر السلطان سليمان القانوني. وثانيها: ثقافته الواسعة؛ فقد أتقن العربية والفارسية واللاتينية واليونانية والإيطالية، وكتب الشعر بالفارسية. وقد أدرك من حوله من رجال الدولة والعسكر ونساء القصر مستوى ذكائه وقوته، فأخفوا قلقهم منه.

لكن خلف هذا القلق كانت تتراكم أسباب حقيقية للحقد عليه، خصوصًا لدى الإنكشارية الذين شعروا بأن السلطان الشاب ينوي إعادة تشكيلهم وإضعاف نفوذهم. وكانت بذور العداء قد بدأت في النمو قبل إقدامهم على الانقلاب عليه وقتله شنقًا في قصر طوب قابي. فما الذي صنع هذا الانفجار؟.

أعلن السلطان عثمان الثاني الحرب على بولندا طامحًا إلى هدفين كبيرين: استعادة قلعة خوتين التي احتلّها البولنديون، وضمّ بولندا للدولة العثمانية لتأمين الجبهة مع روسيا المتنامية القوة في القوقاز وشمال القرم. وكان قرار السلطان بقيادة الحملة بنفسه حدثًا غير مألوف؛ فلم يخرج سلطان عثماني لقيادة جيش منذ أكثر من ربع قرن. اعترض كبار رجال الدولة على الحرب وعلى قيادة السلطان لها، وازدادت اعتراضاتهم بعد وصول بعثة دبلوماسية بولندية تطلب الصلح بوساطة السفير الإنجليزي. لكن السلطان رفض كل ذلك وأصرّ على الحرب سنة (1620).

وقبل خروجه، أرسل إلى شيخ الإسلام أسعد أفندي يطلب فتوى بجواز قتل شقيقه الأكبر الأمير محمد (16 عامًا)، خوفًا من أن يستغل غيابه للانقلاب عليه بمساندة الإنكشارية، فرفض شيخ الإسلام الفتوى، لكن أصدرها مفتي عسكر الروملّي كمال الدين طاشكوبري زاده طمعًا في المنصب. وبناءً عليها قُتل الأمير محمد غدرًا قبل حملة بولندا.

استمرت المواجهات مع البولنديين أكثر من شهر، وفقدت الدولة خلالها قادة مهمين مثل قره قاش باشا، والي بودين، ودوغانجي علي باشا والي قره مان. ورغم المقاومة العثمانية لم يتمكن الجيش من حسم الحرب، وانتهت باتفاق صلح. أما الإنكشارية فقد ظهر ضعفهم بوضوح في المعركة؛ تراخوا، وتهرّب بعضهم من القتال، وتخلّف آخرون عن الالتحاق بالجبهة. الأخطر من ذلك أن السلطان عثمان الثاني شاهد بعينيه تقاعسهم، فقرّر حرمان المتخلّفين من بعض المخصصات المالية. وهنا بدأ غضب الإنكشارية يغلي، إذ أدركوا أن السلطان يتهيأ لقصّ أجنحتهم.

الحرب والحج والإصلاح: انهت عهد عثمان الثاني بالشنق.

زاد الأمر سوءًا أن السلطان تأثر بشدة لمقتل والي المجر الشهير قره قاش باشا، واعتبر ذلك نتيجة مباشرة لضعف الإنكشارية، واتهَمَ الصدر الأعظم حسين باشا وإياهم بالتقصير. وعندما عاد السلطان إلى إسطنبول، كان قد عزم على إصلاح شامل لمؤسستي الجيش والإدارة.
وقد نصحه معلمه عمر أفندي الذي كان قريبًا في منزلته من شيخ الإسلام، بضرورة إصلاح قطاعي “القابو قولو” حرس السلطان، والإنكشارية. كان الاقتراح باستبدال العناصر القديمة بجيش جديد من الأناضول ومصر والشام، وتدريبهم على الولاء للدولة دون نفوذ سياسي، وسدّ الثغرات التي سمحت للإنكشارية بالتغوّل. وأُرسلت الأوامر العاجلة إلى ولاة الأقاليم في الأناضول ومصر والشام للبدء بتنفيذ الخطة.

ثم جاء الاقتراح الأخطر؛ أن يؤدي السلطان فريضة الحج، ثم يعود إلى إسطنبول بالجيش الجديد في موكب استعراضي يثبت سلطانه ويقصم هيبة الإنكشارية. لكن هذا الاقتراح كان في نظر الإنكشارية إعلانًا ببدء نهايتهم؛ فقرروا أن تكون نهاية السلطان.

بدأ الإنكشارية يراقبون تحركات السلطان ويجمعون أنصارهم من أصحاب المصالح في الدولة، وبمجرد أن توضح لهم مشروعه الإصلاحي، وأنه ينوي اقتلاع نفوذهم من الجذور، تحركوا بسرعة مستغلّين قوتهم العسكرية وامتداد نفوذهم داخل القصر، فكان ردّهم عنيفًا وحاسمًا: اقتحموا قصر طوب قابي، واعتقلوا السلطان، ثم أعدموه شنقًا بطريقة مهينة، ليصبح عثمان الثاني أول سلطان عثماني يُقتل على يد جيشه.

لقد تصرّفت الفرقة وكأن الدولة ملكٌ لها، وكأن السلطان موظف يتم عزله وقتله متى اقتضت مصالحها. وكان ذلك إعلانًا صريحًا بأن الإنكشارية أصبحت دولة داخل الدولة، وأن السلطنة فقدت السيطرة على أقوى قواتها العسكرية.

  1. ثريا فاروقي، حجاج وسلاطين، ترجمة: أبو بكر باقادر (بيروت: منشورات الجمل، 2010).

 

  1. خير الدين الزركلي، الأعلام (بيروت: دار العلم للملايين، 1986).

 

  1. خليل إينالجيك، تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، ترجمة: محمد الأرناؤوط (بيروت: المدار الإسلامي، 2002).

 

  1. زكريا سليمان بيومي، قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين (جدة: عالم المعرفة، 1991).