حاولوا تحسين صورة عبدالحميد ونشأته
الذين مدحوه خذلهم بمذكراته
عبدالحميد الثاني هو ابن السلطان عبدالمجيد، كانت مدة سلطنة والده 22 سنة ونصف، وهو الذي أنشأ النيشان المجيدي العلي الشأن وقدمه على نيشان الافتخار الذي أسسه السلطان محمود الثاني، ويتزامن تاريخ حكمه بفترة حكم الوالي محمد علي باشا في مصر، وهذا مما أثر في نشأة عبدالحميد ونظرته تجاه مصر خلال سلطنته.
ولعبد المجيد 26 من الأبناء، يحتل عبدالحميد الترتيب الثاني بعد أخيه مراد، ولكل منهما أم مختلفة عن الأخرى. وقد نشأ عبدالحميد منزويًا، ويشعر بالراحة والمتعة في انطوائه، يعلل ذلك بقوله: “إن الانسان ينشأ تحت تأثير الظروف التي هو فيها”. ومقولته تدل على مدى اعتلاله النفسي للقيود التي تُفرض على مثل هذه النوعية من الأبناء، ليكون إعدادهم إعدادًا مختلفًا يخرج عن الطبيعة الإنسانية إلى التكلف والتعالي في التعامل مع كل من حولهم.
كتب عنه بعض الباحثين بأنه شخصية خجولة، وهذا ليس بمستغرب إن كان منزويًا لأسباب كثيرة، منها كثرة إخوته من وجهة نظره، لأنهم كانوا يعيشون بحرية وانطلاق واهتمام، بينما عامله والده معاملة قاسية سيئة، والسؤال الذي يرد هنا إذا كان السلطان عبدالمجيد يُعد ابنه عبدالحميد للسلطنة فما السبب في تركيزه عليه بينما كان المرشح الأول لولاية العهد هو أخاه مراد الخامس، لم يلاقِ ما لاقاه عبدالحميد!! ويذكر السلطان في مذكراته بأن العطف الوحيد الذي تلقاه كان من أخيه مراد، لكنه يصف أخاه بأنه مسكين.
شعر بحرمان طفولته لأن معاملته كانت جدية، وتلك طبيعة التربية التركية والبيت العثماني وما اتسم به من تعالي حتى على بعضهم البعض.
يؤكد بنفسه أنه لم يكن يهوى اللعب طفلاً…
وكانت طبيعة التعليم التي يتلقاها أبناء السلاطين لها أهميتها، لكنه حُرم منها أيضًا، حتى أن أساتذته كانوا يزجرونه لعدم انضباطه واهتمامه أثناء التعليم، ويعلل هو ذلك بنفسه في مذكراته وأكدها بعضٌ من المؤرخين بأنه كان يعشق العُزلة بعيدًا عن كل ما يحيط به لأنه غير مقتنع بكل الناس من حوله لشعوره بمخالفته لأفكاره. ولكن هنالك من ينفي عنه تلك النشأة وأنه غير مقبول أن يكون فاقدًا لفرصة التعليم ففاقد الشيء لا يعطيه، وأماني الغازي تذكر بأنه قد اهتم بالتعليم وإصلاحاته تشهد له بذلك عندما اعتلى السلطنة، ولو لم يكن متعلمًا فلن يبادر بالإصلاحات العلمية، بينما هناك من كانوا أسوأ منه من السلاطين والحكام وعملوا على إدخال إصلاحات وتغيير عندما نالوا فرصة الحكم. ومن جهة أخرى كانت له فرصة مرافقة عمه السلطان عبدالعزيز في رحلته إلى فرنسا سنة (1867م)، لذلك تأثر بالتقدم الفرنسي عن دولتهم، لذلك عمل على الاهتمام بالتعليم.
ذكر عبدالحميد في مذكراته بأن ارتفاع عدد المدارس الخاصة جلبت الاستثمار الخارجي، وهو ما كان يسعى إليه في إسطنبول، وكتب أن نموذج الأزهر أمامه يجعله حريصًا على أن يعمل مركزًا دينيًّا ليجلب طالبي العلم لعاصمة دولته، وأن معاهد إسطنبول لا بد أن تعمل على تخريج علماء بإعداد مناهج على مستوى عالٍ ليتخرج منها مهندسون ومعماريون وفنيون، وهذا ما ذُكر في انبهاره بأوروبا وتقليدها، كما انبهر بالحياة الأوروبية بكل ما فيها من معيشة غريبة وأخلاقيات مختلفة وشكليات، ثم يتخبط في التوثيق لسياسته بأنه يريد أن يسحب خريجي الأزهر إلى دولته، متناسيًا أن العرب المسلمين يختلفون عن توجهات العثمانيين العقدية والسياسية، لا سيما أن السلطان له فكره الخاص منذ الصغر ترعرع معه إلى أن شب وأصبح سلطان دولةٍ متعالية رغم تأخرها.
مما يثير الانتباه إعجاب عبدالحميد بشخصية نابليون، رغم أن نابليون كان يمارس ضغوطًا على عمه السلطان عبدالعزيز، وتلك الزيارة انعكست على طبيعة حكم عبدالحميد فيما بعد.
كما كان عبدالحميد عديم الثقة بمن حوله منذ الصغر، وهو الأمر الذي ارتسم على شخصيته عندما تولى مقاليد الحكم والسيطرة، إذ لم يكن على وفاق أو اتفاق مع أحد، ولم يكن يثق حتى بنفسه، وانعكس ذلك على تردده وتخبطه في اتخاذ القرارات حينما تولى زمام الأمور.
أعجب بنابليون رغم نظرته الدونية للعثمانية وسلطانها.
واعترف عبدالحميد أنه فاقد للحب والعطف، ويحاول أن يحاكي عُقدة النقص التي كان يعاني منها، لذلك فقد معانٍ مهمة في حياته أثرت عليه بعد الكِبر، وارتسم ذلك وبدا في قسوته واللامبالاة التي كانت واضحة في شخصيته، خاصةً مع تقدمه في العمر.
وتذكر الباحثة أماني الغازي أن والدة عبدالحميد أحاطته بحبها ورعايتها، ونما أسرع من أترابه على حد وصفها، ولم تتوقف عن تغذيته روحيًّا وأخلاقيًّا، فبلغ ذكيًّا فطنًا، إلى أن ذكرت أنه فقد والدته ولكن والده أعاد له توازنه النفسي بعد فقدها برعايته له، وأنه كلف إحدى زوجاته التي لم تنجب برعايته. بينما من يقرأ مذكرات عبدالحميد نفسه سيكتشف عكس ذلك تمامًا، حينما تحدث عن عزلته وانزوائه وقسوة والده معه. لذلك من كتبوا في مديح عبدالحميد وحاولوا تحسين صورته، خذلتهم مذكراته الشخصية التي كتبها بقلمه.
ومن الأحوال التي أثَّرت على تكوينه الشخصي ونفسيته معًا تسلط الوزراء واستبدادهم واشتداد سياستهم في التعامل معه منذ زمن سلطنة عمه عبدالعزيز، وقد اشتكى حاله عندما كتب عن مدحت باشا بعد إعلان الدستور سنة (1876م) إذ يقول عبدالحميد: “ولقد وجدت مدحت باشا ينصّب نفسه آمراً ووصيًا علي، وكان في معاملته بعيدًا عن المشروطية – الديمقراطية – وأقرب إلى الاستبداد”. وهذا مما يبين ضعف شخصيته الشديد وعدم قدرته على المواجهة الطبيعية مع من حوله، إذ انعكس ذلك على معاملته اللاحقة بعد أن تولى زمام الأمر، وبدأ يتعامل مع الجميع بدكتاتورية وعدم ثقة وإرهاب.
ومما عُرف عنه أيضًا تعلقه بالصوفية عندما استهدف طرقها لكسب ولائها للدولة العثمانية والدعوة لفكرة الجامعة الإسلامية، وجعل عبدالحميد من عاصمة دولته إسطنبول مقرًّا ورابطة تربط بين الدولة والتكايا ومراكز تجمع الطرق الصوفية في كل أنحاء العالم الإسلامي، واتخذ منهم دعاة للدعاية للجامعة الإسلامية، وتكونت بذلك لجنة مركزية، مكونة من العلماء وشيوخ الطرق الصوفية حيث عملوا مستشارين للسلطان في شؤون الجامعة الإسلامية التي كان يطمح أن تكتسح العالم بفكرها وشعارها “يا مسلمي العالم اتحدوا” الشعار الذي كان الهدف منه إنقاذ الدولة العثمانية من الانهيار والسقوط.
عُقد النقص والاعتلال ظهرت في سياسته حينما أصبح سلطانًا.
كان عبدالحميد سيئًا في تدبير الاقتصاد رغم شحه وبخله، وقد أكد ذلك في مذكراته، بأنه جمع أموالاً طائلة استودعها خارج بلاده في البنوك الألمانية العثمانية للاستثمار باعتبارها مكانًا أمينًا جداً لصالحه الشخصي، لأن إسطنبول لا تملك مصرفًا يمكن الاعتماد عليه، ذلك على عكس من سبقوه، وكل ما جُمع من ضرائب أرهقت الناس كان يحول عبدالحميد ما يخصه إلى تلك الأرصدة الخارجية. كما كان عبدالحميد مولعًا بالتجارة، التي شُغِف بها على أيام والده عبدالمجيد الأول، وعلى الرغم من ذلك لم يكن بارعًا فيها.
1) أماني الغازي: الدولة العثمانية من خلال كتابات المستشرقين في دائرة المعارف الإسلامية (جدة: الأعمال الثقافية، 2012م).
2) خليل إينالجيك: تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى السقوط، ترجمة: محمد الأرناؤوط (طرابلس: المدار الإسلامي، 2002م).
3) عبد الحميد الثاني: خواطري السياسية 1891-1908م، ط2 (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1979م).
4) محمد فريد المحامي: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي (بيروت: دار النفائس ، 1983م).