تحكّموا في الاقتصاد العالمي
توج العثمانيون الصهاينة ملوكًا للمال والثراء الفاحش
بعض الدول تعرف جيدًا الفرق بين التسامح والتسليم، ومنح الحرية أو الوقوع تحت سيطرة الآخرين، لكن سلاطين الأتراك تجاهلوا ذلك عن قصد، فحينما فتحوا الأبواب لصهاينة اليهود الفارين من المذابح، ظنّوا أن ذلك تسامحٌ، لكن فرمانات آل عثمان أوضحت أن ما يحدث ليس أكثر من تمكين، دفع بالصهيونية إلى تصدر المشهد، ليصبحوا -لاحقًا- شركاء في المال والنفوذ.
وَفَوْرَ تأسيس الدولة العثمانية، عاش اليهود في الأناضول التركية باعتبارهم مكونًا سكانيًّا مهمًّا للسلاطين، وأصبحوا مواطنين عثمانيين يحظون بالرعاية والعناية والعلاقة العميقة، منذ ولادة السلطنة وحتى تأسيس الجمهورية التركية بعد ذلك إلى يومنا الحالي، وتطورت العلاقة بين اليهود والبلاط العثماني في جوانب عدّة، إلا أن الجانب التجاري بقي هو الأهم فيها، إذ كانت علاقة نفعية بين الطرفين، وحققت الصهيونية اليهودية مكاسب غير مسبوقة، إذ استفادوا من فترة النمو والازدهار خاصة خلال القرنين الخامس والسادس عشر الميلاديين.
وتحوّل صهاينة اليهود -لاحقًا- ليصبحوا المُحرك الاقتصادي الأول داخل السلطنة، حتى باتوا يُقْرِضون الأموال لسلاطين الأتراك، وهو ما يعطي مؤشرًا إلى حجم الأموال التي استطاعت الصهيونية جنيها، ولعل قيامهم بجلب أول ماكينة طباعة إلى الأراضي العثمانية دليل آخر على المكانة الفريدة لهم، في وقت كان هذا مُحرم على المسلمين، وذلك بجانب تسللهم إلى أجهزة الدولة، واحتلالهم الوظائف المرموقة.
لكن هذا النفوذ لم ينشأ فجأة، فالعلاقات المبكرة بين الطرفين، تشير إلى أن صهاينة اليهود واجهوا الدولة العثمانية بحذر عند تأسيسها على يد عثمان بن أرطغرل، لكنهم انفتحوا بعد أن وجدوا الترحاب من قِبل سلاطين الأتراك، وكان تأسيس حي خاص لليهود ليعيشون فيه ويمارسوا عاداتهم الدينية، إشارة واضحة على الدلال الذي ينتظرهم، وهو ما ساعد -لاحقًا- على شراء الأراضي في فلسطين المحتلة.
أقرض الصهاينة المال لسلاطين العثمانيين، ولم يستطع الترك منع رغباتهم باحتلال الوظائف المرموقة
لم يقتصر الدلال على ذلك، بل أقدم سلاطين الأتراك على إعفاء كثير من صهاينة اليهود من الضرائب، وسمحوا لهم بإنشاء معابد ومدارس لتعليم الدين اليهودي، مثل مدرسة المنشأة في مدينة أدرنة، التي أصبحت فيما بعد مركزًا ثقافيًّا وتعليميًّا للطلاب اليهود في جميع أنحاء السلطنة.
وبالتزامن مع ذلك، لم تقف الهجرات اليهودية نحو الدولة العثمانية بترتيبٍ من الصهيونية، بداية من عام (1376) حين قدِموا من المجر، ثم (1394) من فرنسا، ووصولًا إلى (1420) بهجرتهم من فينيسا.
أما الهجرة الكبرى لليهود نحو الدولة العثمانية، فوقعت خلال عصر السلطان محمد الفاتح، إضافة إلى بايزيد الثاني، وحدثت إثر طرد اليهود من إسبانيا ومملكة البرتغال ومملكة نابولي ومملكة صقلية، لكن تلك الهجرة لم تكن قسرية، بل وجّه محمد الفاتح دعوة رسمية لهم، وبدأ المهاجرون بالوصول تباعًا إلى الإمبراطورية ضمن أعدادٍ ضخمة، وفي العام (1492) هاجر أكثر من 40 ألف يهودي إسباني هربًا من محاكم التفتيش، ليستوطن اليهود السفارديم في القسطنطينية وثيسالونكي (سلانيك).
وفي كتاب “اليهود في الإمبراطورية العثمانية.. صفحات من التاريخ”، ترصد الكاتبة الروسية إيرما لفوفنا الوضع القانوني للطوائف، وخلصت إلى أن المكانة الرفيعة لليهود دفعت الطرفين لتمسك كل منهما بالآخر لتحقيق مصالح مشتركة.
ويسلّط كتاب” يهود البلاط” الضوء على اليهود داخل قصور الحكم، إذ باتوا وكلاء ومستشارين لسلاطين الأتراك، ونظرًا لهجرة الصهاينة اليهود من أوروبا، كانوا يحملون خبرات إدارية وتجارية، دفعتهم إلى تصدّر المشهد والاقتراب من مراكز صنع القرار والتأثير فيه، وكان نتيجة ذلك السماح لليهود السفارديم بالاستيطان في الأقاليم العربية مثل ” القدس ودمشق ومصر”.
أما في القرن السادس عشر، فتم تتويج اليهود ملوكًا للمال والثراء الفاحش، وكذلك التجارة الدولية الواسعة بين السلطنة وأوروبا، وكان لمعرفة اليهود باللغات الأوروبية، وعلاقاتهم مع الجاليات اليهودية هناك، أثره الواضح على تطور أعمالهم.
ويصف الكاتب الأميركي ستانفورد جاي شو في كتابه “يهود الدولة العثمانية والتركية” اليهود بأنهم ماهرون جدًا في كتابة الخطابات والعقود التجارية والصيرفة، كما كانت لهم علاقات واسعة مع أمثالهم اليهود في دول أخرى، لقد تحوّلوا فعليًّا إلى محتكرين للتجارة التي عادت بالنفع على الطرفين اليهود والسلطنة والسلاطين.
- إيرما فادييفا، اليهود في الإمبراطورية العثمانية، ترجمة أنور إبراهيم (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2021).
- ستانفورد ج شو، يهود الدولة العثمانية والجمهورية التركية (القاهرة: دار البشير، 2015).
- جعفر حسن، فرقة الدونمة بين اليهودية والإسلام، ط3 (بيروت: مؤسسة الفجر، 1988).
- أحمد النعيمي، الأقلية اليهودية والدولة العثمانية (بغداد: دار الشؤون الثقافية، 1990).
- إبراهيم العلاف، “دور الماسونية في الحياة الاجتماعية والسياسية التركية المعاصرة”، مجلة دراسات اجتماعية، بيت الحكمة، بغداد، العددان (3،4)، (1999-2000).
- أحمد آق كوندز وسعيد أوزتوك، الدولة العثمانية المجهولة (إسطنبول: وقف البحوث العثمانية، 2008).