أجبروهن على العزف والرقص...
وسخَّروهن للمتعة والغنج والمجون
35 جنسية حول العالم
سُخِّرت لتغذية قصور العثمانيين بـ جواري السلطان
لم يخجل سلاطين العثمانيين منذ اللحظة الأولى التي أسسوا فيها دولتهم، أن يعلنوا للجميع أن دولتهم قامت على سفك الدماء، ومجالس اللهو والنخاسة، ولم يشعر بنو عثمان الذين زعموا الحكم بالإسلام بأي غضاضة وهم يقنّنون الفسق ويدعمون الفجور وينشرونه في كل مكان.
لذلك لم يكن غريبًا أن تُصبح منظومة الجواري أبرز مؤسسات الدولة العثمانية، فمنذ السنوات الأولى لحكمهم الذي استمر أكثر من خمسة قرون تسببوا خلالها في تخلف الوطن العربي، حتى صار في ذيل قائمة الأمم بعد أن كان في الصَّدارة؛ إذ عمل سلاطين الترك على حشد قصورهم بالنساء وملء لياليهم بالغناء ومجالس اللهو، ولتذهب أمور الرعية إلى الجحيم.
ولعل البداية كانت مع السلطان محمد الفاتح (1444-1481)، الذي روّج لتجارة النخاسة حتى أصبحت إسطنبول سوقًا كبيرة للعبيد، وبلغ عدد جنسيات الجواري 35 جنسية من شتى أنحاء العالم، وأدى ذلك إلى نشاط التّجار الذين بحثوا في كل مكان عن جوارٍ بِسِمَاتٍ جمالية فائقة لبيعهن لبني عثمان الذين كانوا يشترون الجواري بأسعار باهظة في الوقت الذي يعاني فيه المسلمون في حدودهم الفقر والجوع.
روّج محمد الفاتح لتجارة النخاسة بينما دفع السلاطين أموالاً باهظة لشراء الجواري.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فرغم أن وظيفة الجواري في الدرجة الأولى تلبية رغبات السلاطين فقط، وهذا أمر لا يحتاج إلى مهارة أو قوانين، فإن سلاطين الترك لم يكتفوا بذلك إذ صنعوا منظومة كاملة للجواري، وهو ما عدّه مؤرخون أمر غريب ودال على مدى هوس بني عثمان بالنساء.
أما منظومة الجواري فتبدأ بجلبهن إلى قصور الحكم، والجلب يكون بأكثر من طريقة أشهرها الأسر في الحروب، أو خطفهن أطفالاً وتربيتهن داخل الحرملك حيث المكان المخصص لنساء سلاطين الترك، والطريقة الأخرى هي الشراء من تجّار النخاسة.
وتوضح بعض المصادر التاريخية ملامح نظام تربية الجواري في عهد سلاطين العثمانيين، إذ يبدأ هذا النظام بدخول الجواري للقصر فيعشن في قاعتين كبيرتين إحداهما تُسَمَّى بالقاعة الكبرى، والأخرى الصغرى، ويُقَسَّمن حسب العمر والميول، وبحسب النظام التراتبي، فإن الجواري يُسمين في تلك الفترة “العجميات” قبل أن يخضعن لرقابة صارمة من مشرفة خاصة تُسمي “كاخيا قادين”.
وبفضل الـ”كاخيا قادين” يتعلم الجواري البروتوكول العثماني بجانب إجبارهن على تعلم بعض المهارات اليدوية كالخياطة والتطريز، والرقص الماجن والغناء والعزف على الآلآت الموسيقية وطرق سرد الحكايات لتسلية السلطان.
ورغم أن الجواري في النهاية نسوة قادهن حظهن البائس إلى الخدمة في قصور آل عثمان، لكن سلاطين الترك الذين اعتادوا على تقسيم الناس، فعلوا الأمر نفسه مع الجواري، فبات لهن سلك تراتبي يبدأ من العجميات أي الجواري القادمات حديثًا للقصور، ثم بعد ذلك ترتقي الجارية إلى منصب أعلى قليلًا وهو شاكرد، ثم كديلكي وأخيرًا إلى أوسطة، أي الجارية التي تعلمت كل بروتوكلات سلاطين الترك وباتت قادرة على تعليم غيرها.
بجانب هذا التقسيم كان هناك تقسيم آخر للنساء اللاتي يختارهن السلطان لمخدعه ولمجالس اللهو والغناء، وهؤلاء أطلق عليهن “خاصكي”، وكانت الخاصكي التي تلد ابنًا للسلطان تتمتع بامتياز خاص، إذ كانت تذهب بمراسيم خاصة لتقبل يد السلطان وهي ترتدي التاج وفرو السمور، وكان يُفرد لها جناح خاص في البلاط بعد ذلك، والأولى التي تلد ابنًا للسلطان تبقى الأولى على الأخريات وتلقب بـ”باش قادين”.
أما القسم الثالث فهن الجواري اللاتي لم يحظين بمحبة السلطان أو يتولين أي عمل، وهؤلاء يُحبسن في حجرتهن ويفقدن حياتهن يومًا بعد يوم دون أي شيء يذكر، وذلك عدّه مؤرخون أقسى سجن يمكن أن يُسجن فيه إنسان دون أن يرتكب أي ذنب.
أما الجواري الأخريات فلم يكن أحسن حال، والمصادر التاريخية تشير إلى أن هؤلاء النسوة أُجْبرن على أفعال ماجنة لم يكن يتصورنها، وبعضهن أصيب بلوثة عقلية نتيجة فجور سلاطين الترك وما فعلنه داخل القصور خاصة الحفلات الخاصة التي كانت تشهد تعري الجميع في وقت واحد تلبية لرغبة السلطان، يؤكد ذلك أن هذا النوع من الاسترقاق كان الأبشع في تاريخ الإنسانية.
المؤرخ الإنجليزي برنارد لويس يكشف في كتابه “إستانبول وحضارة الخلافة الإسلامية”، جانبًا آخر من حياة الجواري داخل قصور بني عثمان، بعد أن سافر إلى إسطنبول في عام (1599)، لتقديم هدية من الملكة إليزابيث إلى السلطان محمد الثالث.
واستطاع “لويس”، أن ينظر خلسة من خلال شباك سري إلى حياة الجواري داخل الحرملك، إذ إن سلاطين العثمانيين فرضوا السرية التامة على هذا الجزء الغامض في قصور الحكم وقتلوا كل من حاول معرفة ما يدور بداخله.
لكن “لويس” تمكن من استراق النظر بمساعدة أحد آغاوات الحرملك ويقول إنه رأى ما يقرب من ثلاثين جارية كن يلعبن الكرة، وعند نظرته الأولى لهن ظن أنهن ذكورًا ولكن عندما رأى شعورهن المعلقة على ظهورهن وفيها عقود من اللؤلؤ الصغير وعلامات أخرى واضحة أدرك من خلالها إنهن نسوة ويصفهن بالجميلات حقًا.
وينتقل بنا المؤرخ الإنجليزي ليصف ملابس الجواري، فيقول: يلبسن على رؤوسهن أكثر من كوفية من قماش الذهب، ولم يكن حول أعناقهن أي ربطة سوى عقد من اللؤلؤ باهظ الثمن، وماسة معلقة على صدر كل واحدة، وماسات في آذانهن، وكانت قمصانهن بعضها من الساتان الأحمر وبعضها الآخر من الأزرق بالإضافة إلى ألوان أُخَر، وكانت مربوطة بمناطق شبيهة بدَنْتِلَّة -يقصد بها قطعة قماش شفافة-، أما السراويل فهي من قماش ممتاز من القطن أبيض كالثلج ورقيق كالماء، تكشف السيقان التي وصفها “لويس” بأنها جميلة وفي أسفل الساق كانت الخلاخيل حاضرة.
تعاظمت منظومة الجواري شيئًا فشيئًا مع شراهة سلاطين الترك إلى النساء والاتكاء على الأسرّة، حتى أن بعض المؤرخين قدّروا عدد الجواري في قصر طوبي قابي سراي عام (1475)، بحوالي أربعمائة جارية بالإضافة إلى مائتيي وخمسين جارية في قصر آخر جميعهن يتبعن السلطان، وتساءل المؤرخون إذا كان هذا هو العدد في وقت كانت الدولة العثمانية لا تزال جيوشها تحارب، فلأي عدد وصل الجواري حين جلس سلاطين الترك الذين أصبحوا لا يفارقون قصورهم تقريبًا، ونستطيع أن نعرف أين كانت تُصرف أموال المسلمين إذا عرفنا أن كل جارية كان يُصرف لها مصروف شهري، بالإضافة إلى بعض المجوهرات، ناهيك عن العبيد الذين يخدمون هؤلاء النسوة، وقد كانوا يُجلبون أيضًا بأموال باهظة.
بلغ عدد الجواري في قصر طوبي قابي سراي 400 جارية عام (1475).
ونتيجة جشع ولهث سلاطين العثمانيين وراء النساء والاهتمام بتلبية رغباتهم الدنيئة، استطاعت بعض الجاريات أن يَسْلِبن بني عثمان إرادتهم، وتحكم هؤلاء النسوة في مقاليد الأمور ولاحقًا أصبح الجواري أمهات السلاطين الذين حكموا الوطن العربي بعد ذلك.
ولا أَدَلُّ على أهمية الجواري في قصور الحكم، من العبارات البارزة التي ذكرها أهم مؤرخي الأتراك، خليل إينالجيك الذي قال: “أما الحريم وهو القسم المخصص لأزواج السلاطين وجواريه وعائلته، فقط كان بمنزلة بلاد داخل البلاط”.
- خليل إينالجيك: تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، ترجمة: محمد الأرناؤط.
- برنارد لويس: إستانبول وحضارة الخلافة الإسلامية، ترجمة: سيد رضوان علي.