قتلوا قادتهم وفرسانهم وأعطوهم درسًا في الكرامة
"ذي قار".. اليوم الذي اتَّحدت فيه العرب وأذاقوا العنهجية الفارسية مرارة الهزيمة
بُلي العربُ منذ فجر التاريخ بجوار الفرس حتى يومنا الحالي، وللعربِ صولات وجولات ضدهم منذ القِدم، ورغم دخول الفرس الإسلام إلا أن أنفسهم انطوت على الحنق والكره والعنصرية المتوارثة لكل ما هو عربي، خاصة بعد تحطيم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه آخر معاقلهم السياسية بعد معركة القادسية (636م)، التي أصبحت تشكل في العقل الفارسي الجمعي (الشعوبي) مصدرًا من مصادر الكره ضد العرب.
وإضافةً إلى القادسية؛ فإن للفرس تراكمات تاريخية قبل دخولهم الإسلام مع العرب، فمعركة ذي قار الشهيرة في زمن الجاهلية كانت إحدى أهم المعارك بين العرب والفرس، ومن المعلوم في التاريخ قبل الإسلام أن ممالك وقبائل عربية قد دانت بالولاء السياسي للفرس، ولعل أبرزها مملكة الحيرة التي كان أول ملوكها مالك بن فهم الأبرش، وابنه جذيمة الأبرش، ثم عمرو بن عدي، وأيضًا النعمان الذي بنى قصر الخورنق والسدير، وابنه المنذر وثم النعمان بن المنذر، وهو آخر الملوك من قبيلة لخم.
كانت من أهم أسباب معركة ذي قار الشهيرة في تاريخ العرب قبل الإسلام أن كسرى الفرس طالب بتركة النعمان بن المنذر، فأخبره إياس بن قبيصة بأنها وديعة عند قبيلة بكر بن وائل، فأمره كسرى بضمها إليه، فأرسل إياس إلى هانئ بن مسعود الشيباني يأمره برد ودائع النعمان من أموال ودروع وكل ما يخصه حتى نسائه، وعددها كما ذكر الإخباريون ثمانمائة درع وقيل سبعة آلاف، فامتنع هانئ بن مسعود وأبى أن يُسلم ما استودعه عليه النعمان بن المنذر، فغضب كسرى أبرويز وهدد باستئصال بكر بن وائل، فنصحه النعمان بن زرعة التغلبي، وكان يكره بكر بن وائل ويسعى لهلاكهم لما كان بينهم من أيام حرب البسوس، بأن يمهل بكرًا حتى الصيف فيهرعوا إلى ماء لهم يقال له “ذو قار”، فيتساقطون تساقط الفراش في النار، فيأخذهم كسرى ، فلما قاظت بكر بن وائل، ونزل بهم الحر الشديد، ونزلت الحنو وهو حنو ذي قار، أرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة يخيرهم بين ثلاث: إما الاستسلام لكسرى ليفعل بهم ما يراه، أو الرحيل أو الحرب.
وأمام تلك الخيارات المجحفة الظالمة في حق بكر بن وائل، ناصح حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي قومه بكر بالقتال وحرب الفرس؛ لأنهم إذا استسلموا قتلوا وسبيت ذراريهم ونساؤهم، وإذا ارتحلوا قُتلوا عطشًا وتلقاهم أعداؤهم فأهلكوهم، وعند ذلك أرسل كسرى إليهم جيشًا من الفرس على رأسه الهامزر التستسري المرزبان الأعظم لكسرى، وكان يقود ألف فارس من العجم، وجلابزين صاحب مسلة بارق في ألف فارس، وخرج إياس بن قبيصة على الشهباء والدوسر، وهما كتيبتان جعلهما ملوك الفرس قوة عسكرية تابعة للمناذرة: رجال الشهباء من الفرس ورجال الدوسر من العرب التنوخيين على الأخص، ومعه خالد بن يزيد البهراني في قبيلتي بهراء وإياد، والنعمان بن زرعة التغلبي في تغلب، والنمر بن قاسط وقيس بن مسعود بن قيس ذي الجدين، وعامل كسرى وهو أحد ولاته على سفوان.
أمر كسرى أن يقود تلك الجيوش إياس بن قبيصة وتجتمع تحت لوائه، فلما أقبلت جيوش الفرس تسلل قيس بن مسعود ذي الجدين إلى معسكر هانئ بن مسعود، ونصحه بأن يوزع على قبيلته أسلحة النعمان يتسلحون بها ثم يردونها إليه، فاستجاب لنصيحته وقسّم الدروع والسلاح على ذوي القوة والجلد من قومه، فلما قربت حشود إياس بن قبيصة الطائي، خاف هانئ الهزيمة إذ لا طاقة لهم بجيوش كسرى ومن انضم معه من العرب.
وعز على حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العجلي أن يفر العرب أمام الفرس وجيوشهم، ووقف قائمًا أمام هانئ وقال: “إنما أردت نجاتنا فلم تزد على أن ألقيتنا في الهلكة”، فردّ الناس، وقطع أوصال الهوادج حتى لا تستطيع بكرٌ أن تسوق نساءهم إذا هربوا فبدأ بقطع هودج امرأته، ثم أكمل كي يستحيل على النساء الفرار على النوق إذا فرَّ الرجال، وصاح: ألا فليعلم كلٌّ منكم أنه إذا خلَّى مكانه فقد أسْلَم حليلته للسبي، فقاتلوا في مدى ما بين الظفَر أو الموت، وإنه لمدى ضيق، وبادروا العدو بالشدة فذلك أوقع، ثم ضرب على نفسه قبة “خيمة ” ببطحاء ذي قار، وآلى على نفسه ألا يتراجع.
وزحف جيش كسرى يحمل أمتن العتاد وأوفره، وقد نهض هانئ بن مسعود الشيباني وقد قنِع بضرورة القتال، فأرسل كلمات فيها هدوء الحكمة قائلاً: إن الحذر لا يدفع القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدَّنيَّة. بعدها تعالت أصوات النساء في الحضِّ على البأس والبلاء، فصاحت امرأة عجلية:
ولما دنا جيش الفرس بالأفيال، خرج أحد الفرس يتحدَّى العرب للبراز، فلم يلبث طويلًا حتى انبرى له فارس عربي طعنه فدقَّ صلبه، فاغتاظ الهامرز وخرج بنفسه يدعو إلى البراز، فانبرى له فارس عربي هو الحوفزان، فألقاه صريعًا، وصُدم جيش الفرس، فمضى من مضى من الناس، ورجع أكثرهم، واستقوا ماءً لنصف شهر، فأتتهم الفرس، فقاتلتهم بالحنو، حتى جزع الفرس من العطش وهربوا، حتى تبعهم العرب وقاتلوهم. وحين ازداد عطش الفرس، ذهبوا إلى بطحاء ذي قار، وبعض العرب الذين كانوا مع الفرس هزَّهم الحنين إلى قومهم، فعزموا الانضمام إلى بني جلدتهم، وهم قبيلة إياد، وكانوا مع الجيش الفارسي. وكان الإياديون أصحابُ بأسٍ أذاقوا الفرس كثيرًا من الهزائم ، وقبل أن ينضم الإياديون إلى الفرس باعتبارهم جنودا مرتزقة، بعثوا إلى البكريين يقولون: أيٌّ أحبُّ إليكم، أن نلحق بكم الساعة أم أن ننتظر اشتداد المعركة فننتقل إلى جانبكم؟ فأجابهم البكريون: بل أحب إلينا أن تنتقلوا في غمار المعركة، فإنه أشد ضعضعة ودهشة للعدو.
تراجع قبيلة إياد عن دعم الفرس في ذي قار، وحميتهم قلبت موازين المعركة لصالح العرب.
وحين التحم الفريقان؛ لحق بنو إياد ببني بكر في عنفوان المعركة، ولم يستطع الفرس أن يجاروا العرب فذاقوا أول هزيمة أنزلها بهم العرب، وكان ذلك حافزًا أيقظ ثقة القبائل العربية بأنفسهم وجرَّأهم على مواجهة الفرس فكان يوم ذي قار مفاجأة للفرس، كما كان مفاجأة للعرب أنفسهم.
ويذكر الطبري في رواية من رواياته عن ذي قار: “أن الناس تآمروا (أي طلبوا أن يكون أحدهم عليهم أميرا) فولوا أمرهم حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العجلي، وكانوا يَتَيَمَّنون به، فقال لهم: لا أرى إلا القتال، فتبعوا أمره، وهو الذي تولى إدارة القتال، فكان له شأن كبير فيه، وقد قاد قومه من “بني عجل” في ذلك القتال، فله النصيب الأكبر منه”.
وقد احتل حنظلة مكانة هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود، رئيس بكر في القتال الذي جرى في ذي قار في موضع الجب (البئر)، وكان هانئ يشعل القلوب أثناء الهجوم على الفرس يوم الجب في ذي قار، وكان على ميمنته يزيد بن مسهر الشيباني، و حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العجلي على ميسرته يحميه من أي هجوم جانبي يقع عليه من الميسرة.
أما يزيد السَّكُوني حليف لبني شيبان، قد كمن مع قومه من بني شيبان في مكان من ذي قار، فلما جاء إياس بن قبيصة مع الفرس إلى هذا المكان، خرج مع كمينه، فباغت إياساً ومن معه، وولَّت إياد منهزمة، فساعد بذلك كثيراً في هزيمة الفرس.
وقد ذهب بعض الإخباريين إلى أن الحرب الرئيسة دارت على بني شيبان، ورئيس الحرب هو هانئ بن مسعود، أما حنظلة فكان صاحب الرأي، ولكن الذي يظهر من دراسة مختلِف الروايات أن شأن حنظلة في القتال كان أهم وأعظم من شأن هانئ فيه، حتى ذكرت بعض الروايات أنه هو الذي ولي أمر القتال بعد هانئ، وأن القوم صيّروا الأمر إليه بعد هانئ في معركة “جب ذي قار” وأنه هو الذي قتل “جلابزين”، وأن كتيبته “كتيبة عجل” قامت بأمر عظيم في هذه المعركة إلى أن انتهت بهزيمة الفرس.
استولت بكر بن وائل عند إياس ابن قبيصة على سواد العجم، وغنموا أموالهم، فتهادت النساء المسك في صحاف الذهب والفضة، وكانت تلك المعركة انتصارًا كبيرًا للعرب، دارت فيها الدائرة على كسرى وقومه، وقد تبارى الشعراء العرب في تخليد ذكرى الانتصار العظيم بقصائد شاهدة على أن العرب إذا اتحدوا فعلوا الأعاجيب.
- جرجي زيدان: فتاة غسان (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2012).
- جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط2 (بغداد: جامعة بغداد، 1993).
- عبد الوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2012).
- محمد الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (القاهرة: مطابع دار المعارف، 1968).
- السيد عبد العزيز سالم، تاريخ العرب في عصر الجاهلية (بيروت: دار النهضة العربية للطباعة والنشر، د.ت).