حاولوا تبييض ثرواتهم بدعاية الشعراء

الفساد المالي للفرس البرامكة في عصر الدولة العباسية

وصلت بعض الأسر والشخصيات الفارسية مكانةً مرموقة في عصر الدولة العباسية؛ دعمًا من الخلفاء، ومن تلك الأسر البرامكة، وكانت النهاية الدرامية لهم على يد الخليفة هارون الرشيد. وأُس مشكلة البرامكة والفرس الذين تنفَّذوا في الدولة العباسية أنهم كانوا يحاولون دعم نزعتهم الشعوبية من خلال تمريرها بسُلْطَوِيَّتِهِم التي منحهم إياها الخلفاء العباسيون، وبطبيعة الحال فهذه النزعة كانت بدعم الأساطير التاريخية الفارسية، والتي منها أن برمك جد البرامكة قد أسلم، بينما يؤكد السواد الأعظم من المؤرخين عكس ذلك، إلا أن الاتجاه المعاكس لهم كانت تؤيده ترويجات أحفاده الذين تَنَفَّذوا في دولة العباسيين.

ومن أكثر الأشياء التي جعلت هارون الرشيد يُطيح بالبرامكة؛ العلاقة الشخصية التي كانت بين الرشيد وجعفر بن يحيى البرمكي، كذلك النظرة الغرامية التي كان ينظر بها البرمكي العباسة إلى أخت الرشيد. لكن هنالك سبب آخر مهم ، قد يكون الأقوى والأبرز بين مجموع الأسباب التي تناولها المؤرخون حول نكبة البرامكة، وهي اتصال البرامكة بالطالبيين “العلويين”، الذين تحولوا إلى أعداءٍ للعباسيين؛ لطموحهم إلى الخلافة. وقد كان هذا الاتصال بحكم القدرة المتنفذة التي وصل إليها البرامكة في الدولة العباسية، حتى أن البعض كان يرى أن الدولة العباسية كانت تُدار برأسين: خليفة العباسي، وشخص من أسرة البرامكة. وهذا ما دعا الرشيد إلى رفض هذا التصور واستمراره.

ومن ضمن الأسباب التي تمت مناقشتها حول مسألة نكبة البرامكة؛ العامل الاقتصادي الذي عدَّه مؤرخون أنه من أهم الأسباب. ففي بدايات الدولة العباسية حين نجحت الدعوة العباسية، ووصل الخلفاء العباسيون إلى الحكم، كانوا يفتقرون إلى الخبرة الإدارية، ولم تكن لهم عصبية في الإدارة والحكم. فرفض العباسيون الاستعانة بالعنصر العربي في الإدارة؛ نظرًا لولاء غالبية العرب للدولة الأموية، ومن هنا ظهر الدور الفارسي في الإدارة والحكم، والذي كانت ذروته في صعود أسرة البرامكة.

ولأن خالد البرمكي تولى مقاليد الإدارة بعد أزمة أبي سلمة الخلال؛ فأصبح مشرفًا على شؤون ضرائب الأراضي وتسجيل المتحصل منها في سجلات خاصة. إضافةً إلى مهام أخرى خطيرة ؛ أهمها إدارة الشؤون المالية للجيش العباسي، لكن خالد البرمكي ابتدع سُنَّةً غير حميدة، سار عليها البرامكة من بعده، وهي عدم التفرقة بين أموال الدولة ومالهم الخاص. من هنا ظهرت علامات الثراء المفاجئ على خالد البرمكي، وبدا ذلك جليًّا في كَمِّ الإعانات والعطايا التي منحها لبعض الناس.

أثار هذا الثراء الفاحش للبرمكي كثيرًا من العرب، فتقدموا بالشكوى إلى الخليفة أبي جعفر المنصور، فألزم خالدًا بدفع غرامة مالية كبيرة، جزاء ما اختلسه من أموال الدولة. لكن سرعان ما استطاع البرامكة تجاوز هذه الأزمة، وعادوا من جديد إلى الإدارة والحكم، لا سيما مع صعود يحيى بن خالد البرمكي، وأولاده الفضل وجعفر. وأدى تزايد النفوذ الإداري للبرامكة إلى زيادة غير مستساغة في ثرواتهم، وأصبحت لهم الكلمة العليا في الشؤون المالية للدولة العباسية. ويلخص أحمد أمين هذا السلطان المالي لهم حتى على شؤون قصر الخليفة نفسه قائلاً: “وضعوا أيديهم على مال الدولة كله، حتى كان من شأنهم أنهم إذا أرادوا أن يتصرفوا في شيء منه، وجدوه تحت أيديهم، وإذا أراد هارون الرشيد وقصره أن يتصرف في شيء، رجع في ذلك إليهم”.

ولما تعاظمت ترواتهم التي جمعوها أرادوا حمايتها بــ “حملات دعائية” لتحسين صورتهم أمام “الرأي العام”، وفي الوقت نفسه ردع أي محاولة من أعدائهم للإطاحة بهم؛ خوفًا من ثورة الناس. من هنا أسرف البرامكة في منح العطايا للشعراء؛ سعيًا إلى دعم دعايتهم، حتى نَظَم كثير من القصائد في مدح البرامكة. وقد قيل في ذلك إن جعفر البرمكي قد أمر بسك عملة ذهبية خاصة عليها اسمه، وكانت مخصصة لأنجب الشعراء وأحسنهم مدحًا لمناقب أسرة البرامكة.

جعفر البرمكي سكَّ عملة باسمه خصصها للشعراء المادحين له وأسرته.

انعكس الثراء غير المشروع على مظاهر حياة البرامكة اليومية ، ومنها أن بنى جعفر بن يحيى قصرًا جديدًا، يقال إنه تكلف عشرين ألف درهم. ونصح جعفرَ بعضُ مقربيه بأن ذلك قد يثير الرشيد ومن حوله، فيدفعه إلى السؤال عن مصدر هذه الأموال، وينمو ظنه بأنها من عمليات غير مشروعة باستغلال النفوذ من أجل اختلاس أموال الدولة.  

كما نُسب هذا الثراء غير المشروع ومظاهر الترف والبذخ في قصور البرامكة إلى أم جعفر البرمكي، بعد نكبة البرامكة، إذ “شوهدت أم جعفر تستجدي غنيًا يوم عيد الأضحى، فسألها عن حالها فقالت: والله لقد جاء عليَّ يوم مثل هذا وعندي أربعمائة وصيفة (جارية) وأنا أذبح الذبائح الكثيرة، وأوزع اللحوم، واليوم لا أملك إلا فروتين، أفترش إحداهما، وألتحف بالأخرى، وهكذا تُعَامِلُ الأيام”.

كما كانت تصل إلى أبواب الرشيد شكاوى عدة من سوء تصرف أعوان البرامكة في عمليات تقدير جمع الضرائب، وكَمِّ الفساد المستشري في هذا الشأن. ولا أَدَلُّ على تجاوزات البرامكة في شؤون المال العام، مما جاء في مقدمة الكتاب الشهير “الخراج” لأبي يوسف؛ إذ قال: إن هارون الرشيد قد فطن إلى تجاوزاتٍ مَسَّت الشريعة الإسلامية في إدارة الدواوين المالية، وأن الرشيد ليس لديه أدنى شك أن لأسرة البرامكة النصيب الأوفر منها. 

من هنا لم يكتفِ هارون الرشيد بالقضاء على جعفر البرمكي، وسجن بقية أسرته، بل أصرَّ على مصادرة كل ما يملكون من عقار وأملاك. ويؤكد الخضري على أهمية العامل الاقتصادي، وأن عقاب البرامكة كان من جَرَّاء فسادهم المالي، وجورهم على بيت المال. ويستدل على ذلك بأن هارون الرشيد أصدر أمره بالعفو عن محمد بن خالد بن برمك وولده وأهله وحشمه، لما عرف براءته مما دخل فيه غيره من البرامكة.

هكذا يتضح أن أحد أهم أسباب نكبة البرامكة؛ كان فسادهم وتغولهم على بيت مال المسلمين.

  1. أحمد أمين، هارون الرشيد (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2014).
  2. قويدر بشار، دور أسرة البرامكة في تاريخ الدولة العباسية (الجزائر: معهد التاريخ، 1985م).
  3. علي العمرو، أثر الفرس السياسي في العصر العباسي الأول (القاهرة: مطبعة الدجوي، 1979).
  4. محمد برانق، البرامكة في ظلال الخلفاء (القاهرة: دار المعارف، د.ت).
  5. محمد الخضري، محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية: الدولة العباسية، تحقيق: محمد العثماني (بيروت: دار القلم، 1986).