"لصوص" إسطنبول،

سرقوا مقتنيات "الرسول"

بعد أن شعر العثمانيون أن أمر المقاومة في المدينة المنورة أصبح مستحيلًا، وأمام تعنُّت واليهم فخري باشا في الاستسلام والتسليم للقوات العربية المُحاصِرة له، وقبل أن يتم قطع كل المواصلات مع الشام عن طريق السكة الحديد، وبعد أن بدأت تتعطل حركة القطار بين الشام والمدينة في ديسمبر ( 1917 م)، نصحت ألمانيا الحكومة العثمانية بالانسحاب من المدينة لوقوعها في نهاية خط الإمداد، ومن ثم كانت المدينة المنورة الأكثر عرضةً للهجوم في الوقت الذي كانت فيه قوات التحالف تزحف في بلاد الشام؛ لذا حاول أنور باشا أن يُقنع جمال وطلعت، بأنه لا بد من الانسحاب من المدينة سريعًا، وجاء الأمر إلى فخري الذي رفض التسليم والانسحاب، ورضخت الحكومة لرأيه؛ لأنها لم تملك السلطة المباشرة لتنفيذ ما نصحت به ألمانيا في ظلِّ وجود قائد الحامية فخري باشا، الذي لم يهتم للكارثة الإنسانية التي حلَّت بالمدينة وأهلها نتيجة تمسكه برأيه.
تهيأ فخري باشا لحالة الانتحار الجماعي بسياسته في المدينة برفضه التسليم، وعمد إلى سرقة الأمانات التي في الحجرة النبوية وإرسالها إلى إسطنبول، وعن ذلك يتحدث أحد المُشاركين من الضُّباط العرب (تحسين قدري) في حامية فخري باشا عن عملية سَرِقة المقتنيات بقوله: “وذات ليلة ظلماء، أخذ فخري باشا أحد أقربائه الضابط أمين، ومرافقه إلى الحرم النبوي الشريف، وكنت قلقًا بسبب هذه الحركة، حيث علمت أن الودائع النبوية ستنتقل إلى إسطنبول في صناديق خشبية، وتم تجهيز قطار خاص مع قوة محافظة كبيرة لذلك، وفي منتصف الليل أشرف فخري باشا بنفسه على نقل الودائع النبوية الثمينة إلى محطة القطار، إن هذه الودائع ذات قيمة معنوية عظيمة، علاوة على قيمتها التاريخية والدينية والمادية، والغريب أن جميع الحكومات الإسلامية لم تطالب بإعادة هذه الودائع إلى محلها، ولعلمي أن الودائع موجودة في طوب قبو سراي، ولكنها لا تعرض خوفًا من أن تطالب بها الحكومات الإسلامية”.

لم يقترفها خلفاء العرب... وتجرأ عليها سلاطين "الترك"

الأمانات التي تمت سرقتها تتمثل في الهدايا التي أرسلت إلى الحجرة النبوية على امتداد الحكومات الإسلامية السابقة التي كانت تتبع لها المدينة المنورة من تُحف فنيَّة وسيوف مرصَّعة بالألماس واللآلئ، والشمعدانات والثُّريَّات والمباخر والمناضد والمراوح والمسابح، وقناديل الألماس والياقوت الذهبية، والمصاحف المكتوبة بخط اليد، والمخطوطات الثمينة التي تُقدَّر بالمليارات في زمنها، ووفق رسالةٍ أدرجها قاندمير التركي من فخري باشا للحكومة وقد أدرج فيها أنواع المقتنيات؛ أثبت أنه ترك بعض الفضيات والأشياء التي لم يرَ لها ثمن باهض مقارنةً بالألماس والذهب.
سرق فخري ما له قيمة ماديَّة بالدرجة الأولى من الحجرة النبوية، بينما ترك ما لم يقارن به من الفضيات، ما يعني أن الميزان المادي يطغى على القيمة المعنوية لديه، وهذا ما يؤكد بأن ما قام به سرقة حقيقية، ليس له أي حق في أخذها وإرسالها إلى إسطنبول، فما سرق على مستوى الدولة ككل، إذ إنها تخص الحجرة النبوية، وما فيها من هدايا على مرِّ التاريخ؛ أخذوه بطريقة تنم على أنهم لم يكونوا أكثر من لصوص.

سطى على النفيس من الحجرة النبوية

لم تقتصر عملية السَّرِقة على مقتنيات الحجرة النبوية فحسب، بل امتدَّ الأمر إلى إخلاء النفائس من المدينة، ومنها موجودات المكتبات العريقة، كمكتبة عارف حكمت التي كانت تحتوي على كُتب قيّمة تزيد عن خمسة ألاف كتاب مجلد، كذلك المكتبة المحموديَّة، وقد نقلت هذه الكتب إلى مسجد التكية السليمانية في دمشق، ولم يتم نقلها إلى إسطنبول لصعوبة الوضع الحربي؛ لأنها من أواخر ما حمله قطار السكة الحديد، إذ إنه بعد ذلك قطع الطريق تمامًا بين المدينة والشام.
نُشرت وثائق بريطانية ويابانية كانت تُطالب الحكومة التركية بإعادة هذه المسروقات إلى مكانها الطبيعي أعقاب الحرب العالمية الأولى؛ باعتبار أن ما تم عملية سطو وسرقة، ففي دمشق بعد أن توقف القطار قبل أن يواصل رحلته إلى إسطنبول، سُرق ما سُرق منها من قبل أفراد مجهولين، منها ما هو محفوظ حاليًا في مكتبة الأسد في دمشق، وقد دعمت موضوعها بوثائق بريطانية نشرتها صحيفة إندبندنت العربية، وكانت توضح المراسلات التي جرت آنذاك، وردود الحكومة العثمانية خلال سنة ( 1923 م)، وقد استمرت هذه المطالبات والمخاطبات بعد ذلك، حيث اعترفت الحكومة التركية بعد إلغاء الحكم العثماني، لكنها رفضت إعادتها.
لذلك فإن المقتنيات التي لم تزل حتى الآن موجودة في إسطنبول وغيرها من المواقع؛ لا تعود إلا بالمطالبة الرسمية، باعتبار أن ما حدث كان سرقة حقيقية مكتملة الأركان، وباعتراف رسمي من الحكومة العثمانية وبعد ذلك التركية، وبما تؤكده المصادر التركية التي عاصرت عملية السطو والسرقة.

1) مذكرات جمال باشا السَّفاح، ترجمة: علي شكري (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2004 ). 

2) راندال بيكر، مملكة الحجاز، ترجمة: صادق الركابي (عمَّان: الأهلية للنشر والتوزيع، 2004 ).

3) فريدون قاندمير، الدفاع عن المدينة (آخر الأتراك تحت ظلال نبينا صلى الله عليه وسلم)، ترجمة: مركز بحول ودراسات المدينة المنورة (المدينة المنورة:د.ن، د.ت).

4) سيَّار الجميل، مذكرات تحسين قدري 1892-1986 المرافق العسكري الأقدم للملك فيصل الأول (عمَّان: الأهلية للنشر والتوزيع، 2018).

5) جوانا الحلبي، ” 11 وثيقة بريطانية ومراسلات رسمية تحمل اعتراف تركيا بنقل كنوز الحجرة النبوية إلى إسطنبول، صحيفة إندبندنت العربية”، 31 يناير 2020.