بالزيف والخديعة والظلم

ادعى العثمانيون الخلافة الإسلامية

كانت ولا تزال الخلافة الإسلامية في مفهومها مَثارَ نقاش وجدل كبير بين المؤرخين والمفكرين المسلمين، فالحكم في الإسلام انتقل من طور إلى آخر، دون إلزام للأمة باتباع أسلوب حكم معين، بل إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ترك أمر خلافته مفتوحًا للأمة، مع بعض إشاراتٍ نحو خليفته أبي بكر الصديق، الذي بدوره أوصى بالولاية – نصًّا- إلى عمر بن خطاب، وكذلك أوصى عمر أن تكون بين بضعةٍ من الصحابة، وترك أمر الاختيار بينهم، ولقد فضَّل الإسلام أن يُترك الأمر لأهل الحل والعقد؛ لتَبنِّي الآلية المناسبة لكل زمان ولكل أمة.

بقيت إمارة المؤمنين في الدولة الاسلامية الأولى مهيمنة على الشكل العام للحكم حتى انتهائها في المدينة المنورة وانتقالها إلى دمشق، ويشرح محمد حسنين في كتابه “الإمبراطورية الإسلامية والأماكن المقدسة” نظام الحكم في الإسلام قائلًا: “الفكرة العامة في هذا النظام واحدة، لكن آثار هذه الفكرة تطوَّرت على القرون أطوارًا شتى، وبدت في صور اختلفت باختلاف البيئة التي حلَّت بها، والأحداث التي وقعت أثناءها، والثورات التي كانت الإمبراطورية الإسلامية في العصور المختلفة مسرحها، فإذا أردنا أن نُصَوِّر نظام الحكم في الإسلام تصويرًا يقربه من أذهان أهل هذا الجيل وجب علينا أن نقف وقفات سريعة عند طائفة من هذه الأطوار، ولعل وقفاتنا هذه تجلو لنا صورة تتمشى فيها الوحدة المستمَدة من الحياة الإسلامية، وإن غشيت هذه الوحدة في كثيرٍ من الأحيان مظاهر تجعل من المتعذِّر محاولة إثباتها بمقارنة الحكم الإسلامي في عهد الخلفاء الراشدين وفي عهد آل عثمان مثلًا”.

في دمشق وبغداد على التوالي تطورت فكرة الحكم، وأصبحت تحمل مسمى الخلافة الإسلامية، لكن بقي عمادها الحقيقي وشرعيتها تستمد من وجود الحرمين الشريفين تحت إدارة وسيطرة الحكم المركزي الذي يديره الخليفة في دمشق ثم في بغداد، وهذا ما حصل لاحقًا مع المماليك في مصر، الذين انتقلت إليهم الولاية عبر الخليفة العباسي المستنصر بالله، الذي هرب إلى القاهرة واحتضنه المماليك وجعلوه خليفة صوريًّا سنة 660هـ (1262م)، لكن من خلاله سيطر المماليك على الحرمين الشريفين.

انتقل مقر الخلافة من بغداد إلى القاهرة إثر احتلالها على يد المغول عام 656هـ (1258م)، وبقيت في مقرها الثاني – القاهرة- إلى سقوطها الثاني العام 923هـ (1517)، ولم تنتهِ الخلافة العباسية بسبب عوامل داخلية، بالرغم من حالة الضعف التي أصابت الدولة العباسية إثر دخول الفرس والأتراك إلى مفاصل الدولة، لكنها أتت بسبب احتلالين أعجميَّين، المغول في بغداد، والأتراك في القاهرة.

اغتصب سليم الأول الخلافة الإسلامية العربية بفرضه الإقامة الجبرية على آخر خلفاء العباسيين في القاهرة المتوكل على الله.

يقول بعض المؤرخين المنحازين تطرفًا للعثمانيين أن الخلافة انتقلت إلى آل عثمان بعد إسقاط المماليك في مصر، وأن آخر الخلفاء العباسيين المتوكل على الله قد تنازل لسليم الأول سلطان العثمانيين عن الخلافة، غير أن المؤرخ المعاصر للحدث ابن إياس لم يتطرق لهذا التنازل، كما أن الرسائل التي أرسلها سليم الأول إلى ابنه سليمان لم تَرِد فيها أي إشارة لتنازل الخليفة عن لقبه للسلطان، كما أن المصادر المعاصرة لا تشير إلى مسألة نقل الخلافة إلى آل عثمان الذين لا ينتسبون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولا إلى العرب.

إذن المؤرخون المعاصرون لتلك المرحلة، وكذلك وثائق ومراسلات الاحتلال العثماني لمصر، لم تؤيد الرواية العثمانية عن تنازُل الخليفة العباسي عن خلافته لسليم، بل كانت رواية صُنعت في إسطنبول ورُوِّجت في العالم العربي والإسلامي، وتبنَّتها التيارات الإسلاموية التي فضَّلت تلك الخلافة العثمانية على الخلافة الإسلامية الأولى في المدينة، وخلافة الأمويين في دمشق، وخلافة العباسيين في بغداد.

انتهت الخلافة تمامًا في شكلها الإسلامي العربي كنظام حكم على يد العثمانيين الأتراك، حين قام سليم الأول باختطاف الخليفة العباسي إلى إسطنبول، وهناك حدثت واحدة من أكثر الخدع السياسية في التاريخ، حين أُعلِنَ عن تنازل الخليفة العباسي محمد المتوكل على الله عن الخلافة لسليم، لتسقط بذلك الخلافة العباسية العربية إلى الأبد، وتبدأ بعدها ما يسمى بالخلافة العثمانية المزعومة وغير المعترَف بها شرعًا ولا عُرفًا.

استغل الأتراك العثمانيون اللقب لإضفاء القدسية على تسلُّطهم واحتلالهم، وعظَّموا الأراضي التركية على حساب المنطقة العربية، وحوَّلوها إلى مكينة لصناعة المال لصالح جبروتهم وظلمهم.

لم يتغير سلوك الحاكم التركي – الديني- بعد سرقة منصب الخلافة، فعلى سبيل المثال لم يحج أحد من سلاطين العثمانيين لا قبل الخلافة المزعومة ولا بعدها، لقد كانت الخلافة مجرد وسيلة حكم للعالم العربي والإسلامي، فبعد سقوط التمدد التركي العثماني في أوروبا إثر الخسائر الكبرى من الجيوش الفرنسية، واندفاع الأتراك لتعويض ذلك بالتمدد جنوبًا في البلاد العربية، كان لا بد من التدثر بدثار الخلافة، والسيطرة على الحرمين لإحكام القبضة على شعوب عاشت حوالي 900 عام تحت مسمى الخلافة العربية، فمن معركة مرج دابق 922هـ (1516) إلى بداية سقوط الاحتلال العثماني للبلدان العربية (1914)؛ استطاع الأتراك إحكام سيطرتهم مدة أربعة قرون باسم الخلافة.

وتزعم التنظيمات الإسلاموية أن العالم العربي والإسلامي خسر كثيرًا بسقوط الخلافة المزعومة، لكنهم يغفلون أن الذي قضى على مفهوم الخلافة التي وضع أُسُسها الخلفاء الأوائل كانوا هم العثمانيين بعد استيلائهم عليها في القاهرة، ونقلها إلى إسطنبول ثم تتريكها، لقد كانت الرصاصة الأخيرة في آخر حكم إمبراطوري عربي امتد من حدود الصين إلى الأندلس.

العثمانيون رغم ادِّعائهم الخلافة، فإنهم لم يصونوا جنابها، ولم يحرصوا على العمل بمبادئ الأخوة الإسلامية التي تدعمها فكرة الخلافة، بل رفعوا من ذلك، وحوَّلوها لأداة تخدم المصالح العثمانية، فعقدوا الاتفاقات مع المنافسين الصليبيين (الفرنسيين والإسبان)، وسمحوا بسقوط الأندلس، ولم ينجدوا أهلها، كذلك لم يتعاملوا مع العرب الذين احتلوا بلادهم وأكلوا من خيراتهم تعاملًا عادلًا رشيدًا، بل قدَّموا العنصر التركي وأقاموا فيهم العذابات والمذابح.

الأدبيات التي يحاول كوادر الحركات الإسلامية المتخادمة مع الأتراك تحاول تزوير التاريخ، ووَصْم كل من يخالف العثمانيين بأنهم يحاربون الإسلام، محاولين غرس فكرة رومانسية غير صادقة، تقول: إن عودة أمجاد الإسلام مرتبطة بعودة الخلافة العثمانية، وهي فكرة زائفة، مهمتها إعادة إنتاج خلافة بمقاييس عثمانية وشراكة حركية.

  1. أحمد عبد الرحيم، في أصول التاريخ العثماني، ط2 (القاهرة: دار الشروق، 1986).
  2. علي عبد الرازق وآخرون، الدولة والخلافة في الخطاب العربي (بيروت: دار الطليعة، 1996).
  3. محمد حسين، الإمبراطورية الإسلامية والأماكن المقدسة (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2011).