عبر التاريخ

أَثَرُ الباطنية غيَّرَ -نسبيًّا- في واقع التاريخ العربي والإسلامي

من يتوغل في تاريخ الحركات الباطنية التي ابتُلي بها المسلمون يتبين له أنها تسعى جاهدة -منذ أن قامت- للإطاحة بالدولة الإسلامية، والعودة إلى أمجاد آبائهم المجوس بإشاعة باطنيتهم، وهنا لا ينفصل الخطر الديني عن السياسي، فلا قوام لديانتهم ونحلتهم دون قيام دولتهم، فالحركات الباطنية ما هي إلا دعايةٌ خفيةٌ مستترة أكثر ممَّا تبدو أنها مقاومة مكشوفة وهذا ما جعلها مخالفة لغيرها من الفرق، وهي دعايةٌ يحيط بها جوٌّ من الأسرار، وتغشاها أساليب المكر والمراوغة. وترتَّب على بزوغ قرن الفتنة الباطنية ثورات واضطرابات متلاحقة أحدثتْ فوضى عارمة، في الوقت الذي قامت لهم فيه دويلات هنا وهناك، فطلع على أفراد الأمَّة آفات لم يعلموا لها أصلاً، وصار المرء لا يأمن جاره ولا أخاه، وسرت الإباحية في عقول الشباب كالطاعون، فلم يؤتمن عازب في قريته، بل في بيت أبيه، وفتت انعدام الثقة عُرَى الوحدة الاجتماعية والدينية.

مثّل الباطنيون أهم الأسباب التي أدت إلى تدهور الأمة، حيث كانوا يعتمدون على عقائد سماوية محرَّفة وزرادشتية مجوسية، وغيرها من الملل والنحل والفرق التي كانت تنخر في جسد المسلمين. وقد أدت حروب المغول والتتار والصليبيين إلى ضعف الأمة الإسلامية وتفرقها. مما جعل المجال خصبًا أمام الباطنيين، فنشطوا في دعوتهم، واستغلوا الفرص لنشر مبادئهم الهدامة. وقد بَيَّن لنا أبو حامد الغزالي، الباطنية ومبادئهم وأهدافهم بيانًا دقيقًا في مقالته: “مما تطابق عليه نَقَلةُ المقالات قاطبة أن هذه الدعوة لم يفتتحها منتسب إلى ملة، ولا معتقد لنحله معتضد بنبوة، فإن مساقها ينقاد إلى الانسلال من الدين كانسلال الشعرة من العجين، ولكن تشاور جماعة من المجوس والمزدكية، وشرذمة من الثنوية الملحدين، وطائفة كبيرة من ملاحدة الفلاسفة المتقدمين، ضربوا سهام الرأي في استنباط تدبير يخفف عنه ما نابهم من استيلاء أهل الدين، ويُنَفِّس عنهم كربة ما دهاهم من أمر المسلمين، حتى أخرسوا ألسنتهم عن النطق بما هو معتقدهم، من إنكار الصانع وتكذيب الرسل، وجحد الحشر والنشر، والمعاد إلى الله في آخر الأمور، وزعموا بعد أن عرفنا الأنبياء كلهم مخرقون منمسون، فإنهم يستعبدون الخلق بما يخيلونه إليهم من فنون الشعوذة .. ” ويُكْمِلُ الغزالي: “ثم قالوا أي -الباطنية- : طريقنا أن نختار رجلا ممن يساعدنا على المذهب، ونزعم أنه من أهل البيت، وأنه يجب على كافة الخلق مبايعته، وتتعين عليهم طاعته، فإنه خليفة رسول الله، معصوم عن الخطأ والزلل من جهة الله تعالى، ثم لا نظهر هذه الدعوة على القرب من جوار الخليفة الذي وسمناه بالعاصمة، فإن قرب الدار ربما يهتك هذه الأستار، وإذا بعدت الشقة، وطالت المسافة فمتى يقدر المستجيب إلى الدعوة أن يفتش عن حاله، وأن يطلع على حقيقة أمره. ومقصدهم بذلك كله الملك والاستيلاء والتبسط في أموال المسلمين وحريمهم، والانتقام منهم فيما اعتقدوه فيهم، وعالجوهم به من النهب والسفك، وأفاضوا عليهم من فنون البلاء”.

وقد أظهر الإمام الغزالي  فساد عقائد الباطنية وأساليب نشر دعوتهم السرية والابتعاد عن مركز الدولة خشية  إثارة الشبهات حولهم، فالسرية كانت هي ديدنهم في إظهار ما لا يبطنون ، فلو نظرنا إلى تلك الفرق الباطنية الضالة لوجدنا أنها تلتقي في مشتركات فيما بينها وهي على النحو الآتي؛

أولاً: هدم العقيدة الإسلامية من أصولها وتَبَنِّي عقائد تتبني الفلسفات المادية المتسترة بتعاليم الملاحدة أو المتآمرين من أئمة الفرس، إضافة إلى تَبَنِّي طروحات وفكر الخوارج الكلامية، وهناك من الفرق من تأثر ببراهمة الهند والفلاسفة الشرقيين والبوذيين وبقايا ما كان عند  الكلدانيين والفرس، بل آمنوا بتناسخ الأرواح والحلول، وادعو الألوهية لعلي بن أبي طالب وغيره.

ثانيا: تلك الفرق استحدثت دينًا وفقهًا ليس له علاقة بالإسلام الذي أرسل على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فحاولت بذلك هدم أركان الإسلام ونقضه رُكنًا ركنًا من حج، وزكاة، وصيام، وصلاة، واستبدلتها بعبادات غريبة تختلف عمَّا جاءت به شريعة الإسلام.

ثالثًا: اشتركت معظم الفرق الباطنية في إثارة الفتن وعقد المؤامرات وسفك الدماء والهتك، إضافة إلى استباحتهم للمرأة حتى أصبحت أشبه بالسلعة الرخيصة لدى تلك الفرق.

رابعًا: وقوف تلك الفرق -على وجه العموم- مع كل غازٍ أو محاربٍ لدول الإسلام بتقديم الخدمات والخيانات ضد الدولة الإسلامية والشواهد لا تحصى في تاريخنا الإسلامي عبر القرون المنصرمة. وإن المصدر الرئيس الذي أخذت عنه تلك الفرق الباطنية عقائدها، كان مناقضًا للأصول والمبادئ التي بني عليها الإسلام، ولا ريب أن تلك الفرق كانت تسيرها أيادٍ خبيثة نحو أهداف وغايات من أهمها تشويه صورة الإسلام في نفوس أهله؛ تمهيدًا لتقويضه والعودة إلى ضلالاتهم وأباطيلهم التي قضى عليها الإسلام.

والمُطَّلع على تاريخ الفرق الباطنية لابد له من ربط الأحداث التاريخية القديمة بالوقائع الحديثة، فما نراه اليوم من أعمالهم لا يمكن أن نستغربه، فتاريخهم السياسي القديم جلَّله السواد والحقد والكراهية المتطرفة ضد الإسلام وأهله، وتاريخهم الحديث امتدادٌ لذلك التاريخ، فوجد المستعمر في تلك الفرق الباطنية أهم حليف وثيق ضد البلاد العربية والإسلامية، حتى غدوا أداة طائعة بيد الأعداء في عالمنا المعاصر، ولعل نشر عقائد الباطنية في فترات مبكرة من القرن العشرين دليلٌ يشهد بذلك التحالف الخفي، ومن ذلك نشرهم أربعة كتب باطنية منقولة عن نُسَخٍ مخطوطة في أحد الأديرة في مكتبة ” “AMROSIANAفي مدينة ميلانو بإيطاليا ونشرها المَجْمَعُ العلميُّ.

توافقت الباطنية القديمة والحديثة في الحرب على الدول العربية.

  1. سهيل زكار، الجامع في أخبار القرامطة (دمشق: دار حسان، 1987).

 

  1. مانع الجهني، الموسوعة الميسرة في المذاهب والأديان، ط4 (الرياض: دار الندوة العالمية لطباعة والنشر والتوزيع، 2000).

 

  1. محمد الخطيب، الحركات الباطنية في العالم الإسلامي (عمَّان: د.ن، 1986).

 

  1. محمد عبدالله عنان، تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق (القاهرة: مؤسسة المختار، 1991).